هل من ثقافة تنقذ تلك الأمّة؟!!
20051220
يعتب عليّ الكثيرون من القراء والأصدقاء. لماذا؟
لأنني، وعلى حدّ تعبيرهم، لاأتفاعل مع الأحداث اليوميّة التي تقع على
امتداد عالمنا العربي وأتعامل معها ببرودة دمّ وأعصاب تستدعي التساؤل.
أقصد تساؤل القراء!!
يسألني قارئ عزيز عليّ: هل تتجاهلين أم تجهلين مايحدث؟!!
ويتابع آخر: هل علينا أن ننتظر أحداثا أكثر أهميّة مما يجري للأقباط في
مصر أو العمليات الانتحارية شبه اليوميّة في العراق، أو
ماجرى وما زال يجري على الساحة السوريّة، حتى نقرأ لك تعليقا؟!!
لماذا لاتمرّين، ولو مرور الكرام، على تلك الأحداث في محاولة لاقناع
قارئك بأنك على اتصال واهتمام بالوطن الأمّ؟!!!
وتنهمر عليّ الرسائل الإلكترونيّة التي تحمل نفس السؤال دون أن تأخذهم بي
رحمة!!
*************
غريب أمري، أم أمر هؤلاء؟!
مايدهشهم ويثير تساؤلهم قد يبدو بالنسبة لي، ورغم أهميّته، أمرا عاديا
لايصل الحد الذي يثير قريحتي كي أكتب عنه بشكل يومي!
لقد كتبت وما زلت أكتب عن الأسباب والعوامل التي أدت، ومازالت تؤدي، إلى
هذا الواقع العربي المهين. ولو يتذكّر قارئي كل ما كتبته لما سألني لماذا
لاتتفاعلين مع الأحداث بشكل يومي!
أبدو أنني أختلف عن الجميع في تلك النقطة. فأنا عندما يمرّ يوم ولا أقرأ
عن قتل متعمّد أو جريمة أو غزوة أو اغتصاب أو اضطهاد أو ماشابه أستغرب
وأقول مالذي يجري؟ هل ملّ عالمنا العربي القتل والاضطهاد والظلم؟
ألف وأربعمائة عام ونحن نملأ برميلا بالبارود، وكلمّا امتلأ نضغطه أملاً
في بقعة فراغ تسمح بدكّ المزيد من البارود!
قضيت عمري كلّه بين دفتي كتاب. كل العلوم التي نلتها أكّدت لي بأنّ
الانسان ناتج تربوي وهو حصيلة مازرعه والداه ومجتمعه في حقله!
لايمكن أن يخرج قمحا إذا زرعوه شعيرا، ولا يمكن أن ينبت شوكا إذا بزروه
وردا!
ولو حدث عكس ذلك لكذّبت كل كتبي ولكفرت بكلّ علومي!
في الكيمياء يقولون: عندما يتفاعل الهيدروجين مع الأوكسجين وتحت ظروف
معينة سيكون الناتج ماء!
لم يصدف أن تفاعل الهيدروجين مع الاوكسجين وأعطى زيتا.
عندما يكون الماء هو الناتج لا أحد يكترث ولاأحد يعتبر الأمر حدثا غير
عادي، ولو فرضنا أن عالما ما قد أنتج في مخبره زيتا من الماء والأكسجين
لارتكس كل العلماء والمهتمين بعلم الكيمياء ولاعتبروا الأمر غير عادي
ويستحق الكتابة عنه!
لماذا تريدون أن يفاجئني ماحدث في الاسكندرية عندما هاجم عشرة آلاف مسلم
مهووس بتعاليم الرفض والقتل كنيسة مهددين بقتل روادها؟!!
هل تعتبرون قتل راهبة في كنيسة محاطة بعشرة آلاف شخص، رضع كلّ منهم القتل
والارهاب مع حليب امّه، أمرا غير عادي؟
هل تعتبرون تفجير شاب لنفسه بين مجموعة من الأطفال في بغداد وقتله ثمانية
وعشرين طفلا أمرا غير عادي؟
هل تعتبرون قتل الحريري أمرا غير عادي؟
هل تعتبرون موت غازي كنعان، نحرا او انتحارا، أمرا غير عادي؟
هل تعتبرون الطريقة التي تتعامل بها الحكومة السوريّة مع لجان التحقيق
أمرا غير عادي؟
**************
غير العادي، حسب رأيي، أن يمارس الأقباط دينهم بحرية واحترام في مجتمع
مسلم ولا يُضطَهدون أو يُقتلون!
غير العادي أن يعيش شيعي مع سني في نفس البلد أو الحيّ أو الشارع ولا
ينحر بعضهما البعض الآخر!
غير العادي أن يحكم رجل مسلم لفترة زمنيّة معينة ثم يغادر كرسي الحكم بمل
ارادته دون أن يُقتل!
غير العادي أن يختلف الرجال المسلمون ولا يتقاتلون فيقتلون ويقتلون!
غير العادي أن يخرج الى الحياة رجل مسالم، وهو لم يذق في حياته إلاّ حليب
البغض والكراهية!
غير العادي أن يتفاعل الأوكسجين مع الهيدروجين ويكون الناتج زيتا!
غير العادي ان تزرع شعيرا وتجني قمحا!
غير العادي أن تقرأ على طفل الآية التي تقول: قاتلوا الذين لايؤمنون
بالله ورسوله.. فيكبر هذا الطفل ليصبح رجلا يحترم كلّ انسان سواء آمن
بالله أم لم يؤمن!
*************
اسامة بن لادن حدث طبيعي. رجل مسلم مسالم وعاقل حدث غير طبيعي!
واذا اردنا ان نعكس هذا الوضع ليستعيد الانسان في اوطاننا انسانيته فيصبح
من الطبيعي ان يكون مسالما وعاقلا ومن غير الطبيعي ان يتحول الى بن لادن
آخر، اذا اردنا ان نحقق ذلك علينا ان نتبنى ثقافة جديدة!.
ليست لدينا ثقافة، مارضعناه ومازلنا نرضعه لأطفالنا لا يتعدى كونه مجموعة
من التعاليم والعقائد التي خربت أكثر مما أصلحت.
ماذا تعني كلمة ثقافة؟
في اللغة العربية كلمة "ثقف" تعني قوّم الاعوجاج. يقال ثقف الغصن أي قوّم
اعوجاجه وجعله مستقيما.
هل نحن مستقيمون؟!!
***************
عندما يصبح العادي في حياة أمّة غير عادي، عندما يصبح اسامة بن لادن حدثا
طبيعيّا ووفاء سلطان حدثا غير طبيعي هل نستطيع ان نقول عن تلك الأمة
بأنها أمة مستقيمة؟!!
اذا، وببساطة، عندما يعوّج كلّ شيء في حياة امّة تفقد تلك الأمّة مايمكن
ان نسميّه ثقافة!!
عندما تنمو شجرة بطريقة معوجّة، نقول:
مسكينة تلك الشجرة! لقد افتقرت الى يد فلاح رحيمة لتقوم بتثقيفها
وتقويمها!. وعندما تنمو امّة بكاملها بطريقة معوجّة نستطيع ان نقول:
مسكينة تلك الأمّة! لقد افتقرت الى كلّ وسيلة من وسائل تثقيف وتقويم
الامم!
الانسان كالشجرة، لايمكن تقويمه الاّ عندما يكون غضّا. ومتى تجاوز سنوات
غضاضته يتصلب ويفتقر الى المرونة التي نحتاج اليها لتثقيفه وتقويمه:
إنّ الغصون اذا قوّمتها اعدلت ولن تلين اذا صارت من الخشب
نفهم من ذلك بأنّ معظم مانحتاج اليه من ثقافة نتشرّبه في سنوات طفولتنا
الأولى. العلوم التي نتلقاها لاحقا لا تفيدنا في شيء مالم تجد لدينا
قاعدة ثقافية تستند عليها.
**************
الثقافة تساعد الانسان على استيعاب ما يتعلمه، ثمّ تطبيقه على حياته!
الانسان المعوّج، الذي افتقر الى ثقافة تقوّمه، لا يستطيع ان يستوعب ايّ
علم، وبالتالي لا يستطيع أن يطبّقه!
مانفع علوم لا نقدر على استيعابها ولا على تطبيقها في حياتنا؟!
الثقافة هي الوسائل التربويّة التي تقوّم الانسان وتأهله لتطبيق مايتعلّم
لاحقا!
والتربية هي الأحكام والقوانين والنظم والضوابط التي تقولب الانسان
بطريقة مستقيمة، طريقة تكسبه هويّته البشرية الانسانيّة التي تميّزه عن
غيره من مخلوقات الطبيعة!
انظر الى الانسان المسلم كيف يحاور.. كيف يتصرف عندما تختلف معه.. كيف
يمشي.. كيف يقضب حاجبيه.. كيف يقطع الطريق.. كيف يقود السيارة في شوارع
بلاده.. كيف يناطح في الأماكن المزدحمة.. كيف يرمي بالاوساخ من شرفة
بيته وعلى قارعة الطريق.. كيف يغش عندما يؤتمن.. كيف يتسيّب عندما يحمل
مسؤولية.. كي ينتقم عندما يبغض.. كيف يتكاثر.. كيف يعامل زوجته واهل
بيته..
عندما تراقبه عن كثب تلاحظ بأنّه يعيش حياته بلا ضوابط، وبالتالي بلا
ثقافة!
فالثقافة هي نظم ومثل وضوابط. بل، باختصار، هي المسطرة التي تستخدمها
لرسم خط مستقيم لا عوجاج فيه!
عندما تقرأ حديث نبوي يقول: "اذا بايعتم خليفتين فاقتلوا واحدا منهم"
تتساءل: عندما يكون القتل هو الضابط الوحيد ما مصير الأمّة التي تتبنى
ثقافة كهذه؟!!
الطفل الذي يتشرّب ثقافة هذا الحديث كيف سيستطيع لاحقا ان يستوعب ما
يتعلمه عن الضوابط والقوانين في المجتمعات الديمقراطيّة ويطبّقها على
حياته ومجتمعه؟!!
قرأت مؤخرا مقابلة مع جندي امريكي في العراق، قال بالحرف الواحد: اكره
حياتي هنا! شعب غريب عجيب! تطلب منه الوقوف بالدور اكثر من مائة مرّة فلا
يردّ، وعندما يأتي جندي عراقي ويضربهم بالعصا يقفون جميعهم بانتظام. يبدو
أنهم لا يفهمون إلاّ بهذا الاسلوب!!
لكي يفهم هذا الجندي سلوك هؤلاء البشر يجب ان يقرأ هذا الحديث النبوي!!
يجب، باختصار، ان يفهم الثقافة التي انجبتهم!
***************
الأمم المتمدّنة هي أمم منضبطة، تحكمها قوانين ومبادئ ونظم، وهنا تكمن
ثقافتها.
الامّة الاسلاميّة امّة تفتقر الى ثقافة، وفقرها الثقافي المدقع تسبب في
انتاج انسان معوّج لم يستطع ان يستفيد من بحور العلوم التي اغرقت عالم
اليوم!
مابين أيدينا لا يتعدّى كونه مجموعة اعراف وعادات وتقاليد وتعاليم شوهت
ولم تقوّم، وخرّبت ولم تَبنِ!
نحتاج اليوم الى بلدوزرات لنجرف اكوام القمامة التي زخر بها تراثنا
الثقافي (!!!) والتربوي!!
نحتاج الى عملية تنظيف وتطهير للعقل البشري الذي افسدته تعاليمنا!
نحتاج الى اعادة تأهيل الانسان في بلادنا تربويّا وسلوكيّا، ليكون قادرا
على اخذ موقعه بين بشر اليوم!
باختصار، نحتاج الى ثقافة!!
***************
’قتل السيد جبران تويني رئيس تحرير صحيفة "النهار" اللبنانيّة بطريقة لم
يقتل على غرارها انسان في بريّة من الوحوش في تاريخ البراري.
أصدر السيّد فيصل المقداد ممثّل سوريّا في الامم المتحدة عقب تلك الجريمة
تصريحا وصف به السيد جبران بأنه كلب من كلاب لبنان!
هل أحد يؤمن بأنّ هناك أثرا لثقافة في البيئة التي أنجبت السيّد
المقداد؟!!
هل احد يؤمن بأنّ يدا امتدت لتقوّم هذا الرجل في سنوات طفولته؟
لا استطيع ان اتصوّر ذلك! فالبيئة التي تمتلك اثرا من اثار ثقافة لا يمكن
ان تنجب انسانا ينحطّ الى ذلك المستوى!!
**************
أثناء الحملة الانتخابية التي قادها بيل كلينتون ومنافسه الجمهوري بوب
دول ماتت والدة السيّد كلينتون، وكان كلينتون في جنازتها عندما تهجم عليه
دوول بطريقة اعتبرها المراقبون غير اخلاقيّة.
سأل احد الصحفيين السيد دول: كيف تقول عن كلينتون بأنّه كذا وكذا في
الوقت الذي كان ينعي به والدته؟!!
ردّ دوول: بوب دوول لا يفعل ذلك.. بوب دوول لا يفعل ذلك.. إنّي اعتذر..
إنيّ اعتذر!!
تلك هي امريكا البلد الغضّ الذي يتّهمه العرب، مثيرين للضحك، بأنّه بلد
بلا ثقافة!!
متى يعتذر الممثل السوري كي يثبت للعالم بأنّه يمثّل بلدا ذي ثقافة؟!!
**************
كنت انتظر دوري في مكتب ترجمان محلّف كي اصدّق بعض الوثائق التي احتجت
اليها هنا في امريكا.
في غرفة انتظار ذلك المكتب انتصبت خزانة صغيرة تغصّ ببعض الكتب العربيّة.
مددت يدي وتناولت كتابا منها لا على التعيين، في محاولة لقتل الوقت!
عنوان الكتاب: تهذيب سيرة ابن هشام للكاتب عبد السلام هارون، وكعادتي
عندما اتصفح كتابا بالصدفة، فتحت على صفحة لا على التعيين ورحت اقرأ:
عن أبي قتادة قال:
رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان، مسلما ومشركا، واذا رجل من المشركين يريد
ان يعين صاحبه المشرك على المسلم، فأتيته وضربت يده فقطعتها، واعتنقني
بيده الآخرى، ولولا ان الدم نزفه لقتلني، فسقط فضربته فقتلته. واجهضني
عنه القتال، فمرّ به رجل من أهل مكّة فسلبه. فلما وضعت الحرب وفرغنا من
القوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه".
فقلت: يارسول الله! لقد قتلت رجلا ذا سلب، فأجهضني عنه القتال فما ادري
من استلبه!
فقال رجل من اهل مكّة: صدق يارسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فأرضي
عليّ بما سلبته.
فقال ابو بكر الصديق: لا والله لا يرضى عليك، أتعمد الى اسد من اسود الله
يقاتل عن دين الله وتقاسمه سلبه؟!! اردد عليه سلبه!
فقال رسول الله (ص): صدق، اردد له سلبه!
فقال ابو قتادة: فأخذت منه سلبه فاشتريت به مخرفا، فإنّه لأول مال
اعتقدته (أي ملكته).
*************
في امّة يكتسب فيها ابو قتادة اول مال يملكه عن طريق القتل والسلب،
لايمكن ان توجد ثقافة!
في امّة تؤمن بأن قانون ابي قتادة هو قانون الهيّ، لايمكن ان تتبلور
ثقافة!
في امّة تسمح بقتل انسان ببساطة لأنه لايؤمن بشريعتها، تحتاج الى ثقافة!
وايّة ثقافة؟!!
ثقافة تصنع من المخلوق البشري انسانا!
ثقافة تغسل عقل أبي قتادة وتنظّف نفسه.. ثقافة تقوّم خُلقه.. ثقافة
تعلّمه كيف يبني علاقاته، كيف يقبل غيره وكيف يجمع ماله!
ان الكتب التي تروي حكايا ابي قتادة وأمثالها ليست ثقافة، بل هي معاول
تهدم كلّ محاولة لتثقيفه!
هذه الكتب هي التي انجبت السيّد المقداد فجرّدته من كل اعتبار!
هذه الكتب هي التي انجبت هؤلاء العشرة آلاف متعطّش للدماء الذين أحاطوا
كنيسة محرّم بك في الاسكندرية وهددوا بقتل روّادها!!
هذه الكتب هي التي اغتالت الحريري!
هذه الكتب هي التي ان أنجبت غازي كنعان وهي التي نحرته!
هذه الكتب هي التي سمحت للسلطات السوريّة بان تماطل وتتلاعب وتتهرب من
مواجهة مسؤولياتها أمام المجتمع الدولي!
هذه الكتب هي وصلت بنا الى تلك الحالة المعوجّة والميؤوس من تقويمها!
هذه الكتب لم تقوّم بل عوّجت!
هذه الكتب ليست ثقافة، بل زبالة تعفّنت وعفنّت معها امّة بكاملها.
نحتاج الى حرقها.. الى طمرها في سراديب لا قرار لها!
واذا كنّا بحاجة للعالم المتمدّن فلسنا بحاجة في تلك المرحلة الاّ الى
بلدوزراته، كي تجرف اكوام زبالتنا وتساعدنا على حفر سراديب كي نطمرها.
***************
براميلنا امتلأت وحريّ بنا أن ننظفها قبل أن نضع فيها شيئا جديدا ومفيدا!
عمليّة تفريغها أصعب بكثير من اعادة ملئها!
اعطني طفلا صغيرا استطيع ان اصنع منه رجلا مستقيما!
لكنّني، وعلى الأغلب، لا استطيع ان اعيد صياغة رجل مشوّه لأجعل منه
مخلوقا نظيفا قابلا لأن يتعلم ويتثقّف.
لقد استطعت ان اصنع من اولادي بشرا يحترمون غيرهم ويقبلون من يختلف معهم،
لأنهم لم يتربّوا داخل تلك البراميل. لكنني ابدو عاجزة عن اقناع رجل
كالسيّد المقداد، الذي وللاسف يمثّلني كسوريّة في الامم المتحدة، لا
استطيع ان اقنعه بان كلمة كلب لا تقال بحق انسان حتّى ولو كان عدوّه
وخصوصا عندما يكون في رحاب الله!
****************
أنا لست مشغولة عن قضاياكم، لكننّي في حالة بحث دائم عن بلدوزر!!
هذا البلد الذي اعيش فيه غنيّ ببلدوزراته، كما هو غنيّ بثقافته، فلا
تقلقوا عليّ وانتظروا منيّ المزيد!
****************