مشروع المصالحة – غاز عديم اللون والطعم والرائحة
اقل
من اربع ساعات بعد غلق صناديق الاقتراع كانت كافية ليخرج رئيس
الوزراء السويدي يوران بيرشون على مؤيديه ومناصريه من الحزب
الديموقراطي الاشتراكي وفي يده باقة ورد رائعة ليعلن ان الحزب
والحزبان الاخران الحليفان له ( اليسار والبيئة ) قد خسرا
الانتخابات لصالح تحالف احزاب اليمين بفارق سبعة مقاعد, وبذلك
سيشكل هذا التحالف وزارة جديدة تخلف الوزارة الحالية وستدير
الوزارة الوليدة شؤون السويديين خلال السنوات الاربع القادمة. لقد
تأثرت حقا بكلمات الخاسر بيرشون وهو يقول لانصاره ان الانسان
يتقاسم النصر مع الاخرين لكنه يتحمل الهزيمة وحده ولذلك فقد اخبرهم
انه سيترك رئاسة الحزب لقائد من الجيل الجديد يستطيع النهوض به
وتجاوز هذا الاخفاق بهدف العودة الى السلطة بعد الحصول على اغلبية
اصوات الناخبين في انتخابات عام 2010. بعد اربع ساعات بان كل شئ
وذهب الخاسر الى بيته بعد ان سمع تعزية قائده , اما الفائز فانتظر
قليلا في مقر حزبه ريثما
يأتي
قائد حزبه فيرفع معه نخب الانتصار, وعادت البرامج التلفزيونية الى
بث برامجها العادية واصحت الانتخابات من احداث الماضي. في اليوم
التالي كان المراسلون الصحفيون ينتظرون رئيس الوزراء الخاسر قرب
باب بيته طمعا في لقطة غريبة او جملة مثيرة لكنه خرج عليهم مبتسما
وهو يقول لهم ان المرء يجب ان يستقبل الهزيمة بروح رياضية وان
الحياة تمضي قدما!.
لم
ينتظر السويديون اشهرا ليعرفوا نتائج تصويتهم ولم يحضر مراقبون
دوليون ليقيًموا مدى انسجام عملية الاقتراع مع المعايير
الديموقراطية ولم يفكر احد من الاطراف المشاركة في الانتخابات
باللجوء الى التزوير او التثقيف باتجاه الاستقطاب الديني او
المذهبي او الطبقي لتحقيق اهدافه, عملية الاقتراع جرت بشفافية
رهيبة والمرشحون على اختلاف انتماءاتهم كانوا يشتركون في حملاتهم
الانتخابية الى دعوة الناخب الى الاقتراع اولا قبل الدعوة الى
التصويت لصالحهم . لم يفكر احد قط في الدعوة الى وضع نتائج
الانتخابات جانبا وتشكيل حكومة تقوم على المحاصصة فيأخذ كل نصيبه
من الكعكة ويكون الجميع ( حبايب ) امام الرأي العام , بينما يجلس
كل منهم يوميا ساعات في سردابه الخاص يدعو الله ان يلهمه ( سواء
السبيل ) فيهتدي الى خطة مابعدها ولاكانت قبلها خطة تتيح له
الاستحواذ على حصة شريكه. لم يلوح الفائزون بان قانون الاجتثاث
والاقصاء سيكون اول قانون يحمل توقيع قلمهم في اول يوم يمارسون فيه
السلطة ولم يعلن الخاسرون انهم قرروا اللجوء الى السلاح والعنف الى
ان يأذن الله بنصر جديد. الناخب السويدي ناخب قاس على مرشحيه,
لايتهاون مع الخطأ ويحاسب على كل شئ , الجميع يعترف ان الحزب
الديموقراطي الاشتراكي الذي حكم السويد خلال السنوات الاربع
الماضية قد حقق نتائج طيبة وخاصةعلى الصعيد الاقتصادي حيث تعتبر
السويد من الدول القلائل التي شهد اقتصادها انتعاشا خلال هذه
الفترة ومع ذلك لم يغفر الناخب السويدي لحكومته بعض الاخفاقات التي
حدثت في المجالات الاخرى وخاصة في التربية والتعليم والرعاية
الصحية ونسبة البطالة. من جانب اخر كان عقاب الناخب السويدي صارما
على حزب الشعب احد احزاب تحالف اليمين بسبب قيام احد كوادره
بالتجسس على قاعدة البيانات الخاصة بالحزب الديموقراطي الااشتراكي
عن طريق الكومبيوتر, حيث لايرحم هذا الناخب مع مثل هذه الاساليب
التي يعتبرها مقززة ومشوهة لاصول اللعبة الديموقراطية فكانت نتائج
حزب الشعب في هذه الانتخابات انتكاسة كبيرة قياسا بالانتخابات
السابقة.
ربما يعاتب البعض مستغربا ان نلجأ الى النموذج السويدي معيارا في
تقييم التجربة العراقية حيث ان الديموقراطية السويدية هي خبرة
متراكمة لشعب يعيش الاستقرار لمئات السنين بينما الحالة العراقية
هي مثال صارخ لشعب يسكن مرجل الاحداث الساخنة منذ مئات السنين,
ولكن هل من العدل ان ننتظر عشرات السنين لنتعلم اصول الديموقراطية
في الوقت الذي تمكن البعض من ( الابداع ) في العنف وتدمير البلد
خلال فترة قياسية. ان مشكلة الديموقراطية في العراق ليست مشكلة
الناخب العراقي بقدر ما هي مشكلة النخب السياسية وتنظيماتها
القائمة على اسس مرضية. ان عجزهذه النخب , التي امضى الكثير منها
فترة مهمة من حياته خارج العراق , عن ممارسة العملية الديموقراطية
بقواعدها السليمة يعني احد امرين لاثالث لهما , الاول ان هذه النخب
هي اصلا قاصرة على الفهم السياسي وهي لذلك لاتصلح لممارسة مواقعها
حيث ان في تسليم القيادة لاعمى ( ونقصد العمى السياسي ) مخاطرة
كبيرة , اما الثاني فهو ان هذه النخب والديموقراطية على طرفي نقيض
فهي لاتؤمن بها اطلاقا وقد ارتدت قناع الديموقراطية تماشيا مع
متطلبات العصر. ان الديمقراطية بالنسبة لها هي ربطة العنق التي هي
مُكرهة على ارتدائها ولذلك تحرص على وضعها كيفما اتفق لان اي شدة
صحيحة لها يعني الخنق وعدم القدرة على التنفس.
شهور مرت ووجباتنا الثلاث هي مشررع المصالحة والقائمون على المشروع
لم يتصالحوا مع انفسهم بعد. لقد كان الكثيرون يعتقدون ان هذا
المشروع يسستهدف اساسا بالدرجة الاولى من هم خارج العملية السياسية
بعد ان تمكن المشاركون فيها ووبشق الانفس من تشكيل ( حكومة الوحدة
الوطنية ) لكن الذي يتابع مسرحيات البرلمان العراقي لايجد صعوبة في
الخروج بنتيجة مفاادها ان هذا البرلمان قد اختار العنوان الخطأ
لنفسه برفعه شعار المصالحة والوحدة . لو كان هذا البرلمان قد رفع
لواء التقسيم كما هو واقعه فعلا لكان قد خطا خطوات جوهرية على هذا
الطريق بسهولة بالغة. الدكتور مهدي الحافظ شخصية ليبرالية مرموقة
وصف ما يحدث في البرلمان العراقي بالصدمات ومن المعروف في الطب ان
تكرار هذه الصدمات يسبب عواقب خطيرة كاعوجاج الفم وعسر النطق
واجهاد القلب وهي اسباب كافية ليخرج المرء بسببها على التقاعد
لاسباب مرضية فكيف يمكن لمثل هذا ان يعالج هموما وامراضا اخترقت
العظم بعد ان أفسدت اللحم. كل ما أنجزناه في مشروع المصالحة هي
مهرجانات للعشائر ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين يجلس فيها
المجتمعون سويعات يطلقون فيها الخطب والاهازيج الحماسية الوطنية
ليعود بعدها الجميع الى موقعه بعد ان ادى بنجاح دوره التمثيلي ,
اما ديوك البرلمان فالمعارك والنقر ماض بينهم على قدم وساق للظفر (
بدجاجة الوطن ) حتى انه يقال ان رئيس البرلمان قد اوصى بفريق من
الطبابة والاسعاف الفوري ليكون قريبا من قاعة الجلسات لمعالجة
ومداواة المصابين وتحسبا وتحوطا من القادم من النقرات!
يالبؤس مشروع تحرير العراق فقد اصبح بالنسبة للامريكان مستنقعا,
كم كانت ستكون سعادة المرء كبيرة لو لَمْ يكن العراق وحله. بينما
بات هذا المشروع بالنسبة للاكراد ( دوخة رأس ) تبدو سلبياتها اكثر
من ايجابياتها , اما لعرابيًه الاساسيين فغدا ( ثورة ) اكلت بسرعة
البرق رجالها او ركنتهم جانبا على الرف ليشاهدوا ويحترقوا غيضا كيف
ان قططا لم تكن في البال والحسبان قد استحوذت على العظم والهبر ولم
يعد لابناء الاحتلال إلا الذهاب ومناجاة ( الخالة الامريكية ) كما
يناجي الفنان الكوميدي سعد خليفة على قناة ( الشرقية ) خالته ( ام
علي ) يوميا بعد الافطار