جون قرنق – مكتوبٌ لاحَظََّ للفقراء
بينما كان كارل
ماركس جالسا مُنكبا على الكتابة يحمل هموم كل الفقراء والكادحين نظرت اليه
والدته , ادركت مقدار الهم الذي هو فيه فقالت له بسذاجة الام القلقة على ابنها
عبارتها الشهيرة ( كارل , كارل , انت تصنع السعادة للجميع وتنسى نفسك ). نعم
لقد نسي ماركس نفسه ولكن التاريخ يتذكره دائما ولايتوانى الكادحون عنن ذِكره في
صلواتهم ايام الجمع والسبوت والاحاد.
ولد جون قرنق
ولم تكن في فمه ملعقة من ذهب , جائعا بين الجياع , عاريا بين العراة , منبوذا
بسبب اللون والدين , مضطهَدا بين الملايين. شاهد جون قرنق المئات وربما الالاف
يُساقون للذبح كشاة لم تنطق بنت شفة كفرا والحادا سوى انهم طالبوا بان يكونوا
مواطنين في بلدهم وليس ضيوفا عليه او مسًاحي احذية فيه . ما اقسى ان يكون
الانسان مواطنا من الدرجة الثانية او الثالثة ( واحيانا بدون درجة ) في وطنه
واجداده فيه هم الاصل والفصل. لم يستطع جون قرنق ان يتحمل القهر والاستبداد
والاضطهاد , كانت دموع الثكالى والاطفال وانات الرجال الضعفاء وقودا لنار
لاتقبل ان تنطفئ فرفع السيف واخر الدواء الكي .
حارب جون قرنق
لاكثر من عقدين , كان يتقدم تارة ويتقهقر تارة اخرى , يكًُر و يفر. نال
وبامتياز اوسمة جميع من تعاقبوا على حكم الخرطوم في انه العميل والمتمرد
والخائن , بحث جميعهم عنه ( ليُكٍرموه ). كيف لايكون جون قرنق عميلا وخائنا في
بلاد يخطط فيها الحاكم لاقصاء رفاقه قبل ان يجف حبر البيان رقم واحد. وبعد كل
سنين القتال عاد من بقي من اؤلئك الحكام ليعترف ( لاندري مُجبرا او مُخيرا )
بان جون قرنق وطني مخلص مثله . يؤمن جون قرنق ان القتال قانون الحياة الخاص وان
السلام هو قانونها العام فمدً يده ليصافح من حاربه عشرات السنين ليفتح صفحة
جديدة ويبدا محاولة جادة في ان يوفر للملايين من الافواه الجائعة لقمة
يتناولوها بسلام.
دخل الخرطوم
دخول الفاتحين بالرغم من انه دخلها اعزلا . احتفى به جميع المساكين الجنوبيون
والشماليون فهو ينادي الى سودان جديد للجميع . فرح جميع المضطهدين فقد اصبحوا
شركاء في قصر الرئاسة , ومن فرط فرحتهم التي انتظروها طويلا غاب عن بالهم وهم
يضحكون ان يقرأوا سورة الفلق او ان يقولوا ( خمسة وخميسة) او ان يبحثوا عن اية
قطعة خشب قريبة ليضربوها باياديهم ثلاث مرات لان الكتاب يقول ( ومن يقف قُدًام
الحسد). وهكذا لم يدم الفرح طويلا وكأنه مكتوب لافرح للمساكين والفقراء. ما
أبشع ان يعيش الانسان حلما جميلا يستغرق لحظات ليتعبه كابوس طويل لاينتهي إلا
بيقظة مُخيفة تطلب كوب ماء. ما أقسى ان يشعر الانسان ان كل شئ تعب من اجله قد
اصبح فجأة في مهبِ العاصفة وليس الريح . لانقول ان الحياة تتوقف على مصير كائن
ما كان ولكن المساكين كانوا الان بأمس الحاجة الى قرنق ربما اكثر من حاجتهم
اليه في اي وقت مضى .
كُتب على قرنق
وهو في نشوة ايامه ان يطير للمرة الاخيرة فاستقبلته احراش بلاده جثة مقضية . يا
لسخرية القدر فقد حارب في تلك الاحراش عقودا ولم تسمح للرصاصة ان تخترق جسمه.
مات قرنق ولاحَظَ للفقراء في الموت ايضا فقد صادف موته مع اعلان وفاة العاهل
السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز, وكما يتقدم الاهم على المهم هكذا يتقدم
الغني على الفقير حتى في الموت والنفس في طريقها الى خالقها راضية مرضية .
انشغل العالم واعلامه وقنواته الفضائية حبا او محاباة وتملقا بالعاهل السعودي
ففي زحمة المانشيتات والتقارير التي تغطي حياة الملك فهد وبيعة الملك الجديد
يكاد المتابع بصعوبة يقتنص بين برهة واخرى خبرا خجولا عن مصيبة السودانيين في
قرنق. كان وقع الصدمة كبيرا على المسحوقين المضطهدين الذين انتابهم الاحساس ان
امالهم ذهبت ادراج الرياح فنزلوا الى الشوارع وكسروا وحرقوا وعربدوا فانتبه
العالم قليلا اليهم وقال فيهم البعض انهم الرعاع يفرحون ويحزنون بطريقتهم
الخاصة.
ترى هل يحترم خلفاء قرنق تمرده , قتاله , مبادئه , موته فيُكملوا الطريق
ويعيدوا الفرحة للمساكين ام انهم ينفخون في ( قربة مكسورة ) فحال المساكين كحال
الذي اشقاه ربي فكيف هم يُسعدوه . |