اقرأ المزيد...

 

 

 

الدكتور وديع بتي حنا

 

wadeebatti@hotmail.com

 

الحكم الذاتي وسيارات الدولار والقابوط   

090108

  لايختلف إثنان في ان الحصار الاقتصادي الذي كان قد فُرض على العراق بسبب غزوه الكويت قد انهك جسد الدولة والمجتمع على حد سواء, ولم تُجدي نفعا كل المحاولات الاعلامية الدعائية الرسمية للتقليل من اثاره او عرض مرافق الحياة الرسمية والشعبية وهي لاتشكو من الهزال ونخر العظام . وكان التضخم الذي لازم مراحل الحصار مضافا اليه انعدام فرصة الاستيراد وغيرها اسبابا تركت سوق بيع وشراء السيارات منتعشا نشطا في تلك الفترة , حتى اصبحت وقتها ماتسمى ( بساحات البيع المباشر ) احدى العلامات والظواهر البارزة والصارخة , فكان هدف المواطن يرمي الى شراء شئ ما , وكانت السيارة في المقدمة , ويجب ان يفعل ذلك باسرع وقت ممكن فينقذ او يحافظ على القدرة الشرائية لما يملك من مال . وكانت بعض ماركات السيارات مثل ( التويوتا الكرونا والسوبر والبرازيلي ) يُطلق عليها (الدولار ) كونها لها الافضلية الحاسمة في البيع والشراء وتُحافظ على قيمتها الشرائية , فترتفع وتنخفض مع بورصة الدولار والذهب , في حين كانت بعض الماركات الاخرى وخاصة السيارات التي تم جلبها من الكويت مثل ( الكابرس الشوفرليت والأولدزموبيل الكويتي وغيرها ) يُطلق عليها ( بالصنف المُحير ) لا بل ان الكثيرين كانوا لايتوانوا عن التندر عليها اثناء المرور بها وهي تركن بائسة في الساحة فينعتوها ( بالقابوط ) الذي يتوسل صاحبه الى الله لكي يحررٍه منه ويجد له عاثر حظ جديد يقبل في لحظة غفلة ان يلبسه ويبدأ معه رحلته الأليمة , بل كان بعض اصحاب تلك ( القوابيط ) وفي لحظة يأس وقنوط يصب جام غضبه على الاخرين وكأنهم هم السبب في بليته ومصيبته ! .لقد كان عزوف الناس على الاقبال الى ذلك ( الصنف المُحيٍر ) من السيارات مبعثه عاملان رئيسيان , بالرغم من ان تلك السيارات كانت فارهة ومريحة بدرجة لاتُقاس و تفوق بكثير ذلك النوع الاخر الذي يستقتل الناس على شرائه , حتى ان الانسان المراقب كان يُصيبه العجب احيانا وهو يرى احدهم كيف يفاوض و يلح في المساومة مستخدما جميع الوسائل الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية ليفوز ( بكرونا او برازيلي ) وهي معنجرة مزنجرة لا صورة ولاشكل و في حال يُرثى له , بينما لايُكلٍف نفسه فرصة النظر ولو لثانية واحدة في النوع الاخر الراكن بجانبه وفيه من ( الأُبهة ) الشئ الكثير , العامل الاول هو ماتقدم حيث ان تلك السيارات كانت تثير الريبة لدى الشاري كونها ظهرت في الشارع باسلوب غير طبيعي او رسمي  ,بالمعنى الحرفي للكلمة , فكان اصحاب المهنة وخبرائها يعلنون علنا عن تخوفهم منها وجهلهم لها وقلقهم على مستقبلها , والعامل الثاني يكمن في ان العديد كان قد اصدر لنفسه سلفا فتوى تقضي بتحريم هذه السيارات  ,حيث كان يعتبرها هي سيارات مسروقة وغير سليمة المنبع , فقرر ان يكون وعائلته في حِلٍ من لعنة اصحابها الحقيقيين .

 

ارى ان بعض الاخوة الاعزاء من المتحمسين لمشروع الحكم الذاتي بشكله المطروح يُشبه حالهم حال اؤلئك الذين تورطوا ( بالصنف المحيٍر من القوابيط ) تلك . فقد انهكهم النزول اليومي الى ساحة البيع المباشر دون اي امل في ان تجد بضاعتهم من يهتم بها , ليس قطعا بسبب كونها ( كمطلب ) يفتقر الى الأبهة والجاذبية والمشروعية , ومَنْ يكره امل فاخر كهذا! , بل لانها تم اقتنائها ثم عرضها ومحاولة تسويقها في الزمان والمكان الخطأ وبالاسلوب الخطأ . فقسم من شعبنا نظر وينظر للمشروع بحذر شديد تجاه الياته ومستقبله بينما تنتاب القسم الاخر علامات الشك والاستفهام من ظروف ولادته ومصدره و اجندته وثمنه . ان الادارة المحلية والمادة 125 هي ( الكرونا والسوبر والبرازيلي ) التي تنسجم اليوم مع واقع وظروف شعبنا وتحاكي وتلائم السوق السياسي الذي نتعامل معه . حيث هاهي تطورات واقع الصراع السياسي العراقي بصفحاته المناطقية والدينية والمذهبية والاثنية والقومية والاقتصادية تشير بشكل واضح الى ان استحقاقات الدفع على مكتسبات تحققت في ظروف غير مستقرة ليست مؤجلة الى المالانهاية , بل انها تدور في دورة , ربما تتميز بمقاييس السياسة الزمنية , بصغر نصف قطرها. وهكذا نرى شعبنا يتناغم لااراديا مع الادارة المحلية والدعوة الى تطبيق المادة 125 لانه يؤمن انهما الحل الاني و الامثل والاسلم والاضمن والواقعي والعملي دون ان يعير اهتماما لما يشيعه البعض من ان مواصفات الادارة المحلية والمادة 125 تمثل السقف الادنى مقارنة مع الصورة الفارهة التي يطرحها ذلك البعض عن مشروعه للحكم الذاتي , وهو يعلم ان صورته تلك هي محض نماذج نظرية لايملك القدرة على تحقيق جزء يسير من شروطها . نعم ان شعبنا يعلم جيدا ان مقاعد البرازيلي والكرونا ( الادارة المحلية ) ليست وثيرة كمقاعد الكابرس والاولدزموبيل ( الحكم الذاتي ) ولكنه يدرك ايضا ان السيارة ليست مقاعد فقط , بل هذا وغيره الكثير مجتمعا يتفاعل معا ليقدم نموذجا ينسجم ومتطلبات الواقع بظرفه واحكامه ويؤدي الواجب على نحو مرضي لايتعارض اطلاقا مع الرغبة لتحقيق الافضل . ان شعبنا لايريد  الحكم الذاتي ( قابوطا ) ثقيلا مثقلا بالدفوعات يلبسه اليوم ويحير به , بل يريد الحكم الذاتي الذي تتوفر له كل القاعدة المادية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذاتية والوطنية الصحيحة التي تؤدي لان يأتي الحكم الذاتي مرتكزا على حجرة الشراكة المتكافئة والمتوازنة , فيكون سلسا مقبولا من قبل شعبنا يقدمونه للاخرين على انه وليدهم الشرعي الذي يستحق الرعاية و لايثير الشك و الفزع والرعب من افاقه في نفس كائن من كان. ان المتحمسين المزايدين في مشروع الحكم الذاتي لايختلفون اطلاقا عن الفرنسية (ماري انطوانيت ) فهم في عليائهم ينصحون شعبنا بتناول ( الكيك ) وهم يرون ان هذا الشعب قد خُصصت له ثلاثة ارغفة متواضعة جدا سرعان ما اثارت لعاب سراق النهار والليل فاقتطعوا منها , بمباركة المتواطئين والاخرين من اصحاب الاجندة الصفراء وسهو الغافلين , رغيفين وابقوا رغيفا واحدا نتصارع عليه في انتخابات مجالس المحافظات !.

ان شعبنا , وخاصة في سهل نينوى , ليس بحاجة الى محاضرات وتنظيرات وشهادات البعض حول مبدأ الشراكة , لانه في الواقع العملي يمارس ومنذ مئات السنين الشراكة وحوار الحضارات مع الاخرين في ابهى صورهما , لكنها الشراكة التي بقيت فيها الخصوصية الدينية والقومية ميزة رئيسية تتميز بها , باعتراف الاخرين قبل الاهل , هذه المنطقة . ان اؤلئك ( ال نحن ) الذين يفتون في الشراكة عليهم اولا ان يعيدوا النظر في شراكاتهم الذاتية قبل ان تصبح شراكاتهم تلك صالحة للتعميم كنموذج يُحتذى به , فللشراكة الصحيحة وذات العمر الطويل قاعدة ذهبية تتلخص في ان يقر ويعترف لك المقابل , قلبا وقالبا , قولا وفعلا , انك شريك كامل الدسم بما يسمح لك ان ترى قمة رأسه وانت تقف امامه , وعلى اساس هذه القاعدة فقط تنطلق الشراكة لتغطي كافة المجالات والاهتمامات والمصالح والرؤى و المشتركات . اما الحديث عن اتهام البعض بالميوعة القومية على حساب القبول بعرض شعبنا كهوية دينية من خلال القبول بالكوتا او الحديث عن المكون الديني القومي معا فهو حديث مزايدات لايعدو عن كونه عزفا على اسطوانة بائسة , فلايوجد في شعبنا على الاطلاق , بما في ذلك رجال الدين , من يعمل في جهده على المطالبة فقط بالحقوق الدينية لهذا الشعب والمتمثلة بحرية العبادة والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية , بل ان نظرة فاحصة دقيقة لاقوال وجهد الجميع يمكن ان يُستنتج منها ان مطالبة صريحة بسقف يتجاوز بكثير سقف الحقوق الدينية البسيطة يظهر بشكل صارخ او مستتر فيها , فليس في شعبنا عنوانا دينيا او سياسيا او اجتماعيا يرضى لنفسه في ان يطالب لهذا الشعب بحقوق اهل الذمة , وإن وجد مثل هذا العنوان فهو محل رفض واستهجان من قبل الجميع , ولذلك فلاداع للمزايدات في هذا الجانب , لكن من حق السياسي وغيره ان يتعامل مع الاخرين مستفيدا من نظرتهم اليه دون ان ينسى استغلال ما امكن من تلك النظرة للتحشيد الى مايصبو اليه , ونستطيع هنا ربما للفائدة ان نورد حجتين تدعمان مانقول , الاولى ان السيد سركيس اغاجان قد انشا في كل قرية وقصبة ومدينة من قرى وقصبات ومدن شعبنا لجنة اطلق على تسميتها ( لجنة شؤون المسيحيين ) فهل يا ترى ينطبق الاتهام نفسه على السيد اغاجان في انه يقدمنا بصبغتنا الدينية على حسباب هويتنا القومية ؟! او ان هذا البعض الذي يروٍج لهذه الادعاءات يرى ان جهد السيد اغاجان في الياته ونتائجه يمثل انتكاسة للجهد القومي ؟! نحن بانتظار الاجابة الشافية . والحجة الثانية اننا نقدم اقتراحا متواضعا الى الاستاذ الفاضل نمرود بيتو وزير السياحة في حكومة اقليم كردستان ليجري استبيانا بسيطا داخل مجلس وزراء الاقليم وامانة المجلس يتضمن سؤالا محددا يتلخص في لمن تم تخصيص مقعد وزارة السياحة في الاقليم , فاذا خرج السيد بخلاصة مفادها ان الغالبية من الذين شاركوا في الاستبيان قد اجابوا وبصورة عفوية ان المقعد قد مُنح ( للاخوة المسيحيين  ) فعلى السيد الوزير انذاك ان يرفض مقعد الوزارة حالا كما رفض مقعد الكوتا كونهما من مصدر واحد وهو الانتماء الديني وليس القومي ! ليس يقينا المقصود بهذا ان الاخوة الاكراد يتنكرون لحقوقنا القومية بل العكس تماما , حيث ان هنالك الكثيرون في العراق , اكرادا كانوا ام عرب , يؤمنون بحقوقنا القومية ويقصدونها حتما , حتى عندما ينعتوننا بتسميتنا الدينية فقط .

بقيت نقطة اخيرة وجدت لامناص من ذكرها تعقيبا على مقال الاب الفاضل عمانوئيل بيتو في حلقته الاولى والموسوم ( من ينفذ الاجندة الكردية , نحن ام يونادم ) ورجائي من الاب الفاضل ان لايُدخل تعقيبي المتواضع هذا في باب الشخصنة , فقد لاحظت , وانا ادرك تماما ان الاب الفاضل لايسطٍر جملا عابرة بل يقصد كل حرف في كل كلمة , انه قد حاول جاهدا الغوص عميقا في مستنقعات السياسة وبزعانف ميكافيلية خالصة بإمتياز , ولانني ارى ان مستنقعات السياسة وزعانفها الميكافيلية تتضاد بشكل صارخ مع الصورة المرفقة مع المقال والتي تشير الى كهنوته السامي كما مع توقيع المقال بصفته ورتبته الدينية , فانني وكنصيحة اخوية قلبية خالصة اتمنى ان يصل الاب الفاضل الى خيار حاسم بين الكهنوت والسياسة , لان الكهنوت السامي والسياسة وحبالها الملتوية و بهذا الشكل كما اعتاد وتمرًس على مزاولته الاب الفاضل , هما قطبان متضادان متوازيان لايلتقيان ابدا , والاب الفاضل سيد العارفين في اننا جميعا بشر لانملك القدرة على جمع النقيضين فذلك محصور بالخالق جلً جلاله , حيث جمع النقيضين من اسرار قدرته له المجد , ولذلك فرجائنا الاخوي , وله مطلق الحرية في قبوله او رفضه , ان يُرفق مع الحلقة الثانية من المقال صورة اخرى لاتشير الى الكهنوت فندرك ونتأكد حينها اننا فقط امام سياسي بمواصفات ( خاصة ) , وينسجم حينئذ صاحب العنوان مع وصفه  . . ..

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها