اقرأ المزيد...

 

wadeebatti@hotmail.com

 

الدكتور وديع بتي حنا

080310


طهاة الحكم الذاتي ووجبة البرغل

صديق واخ عزيز, قرر قبل سنوات الهجرة الى السويد , اختار في خطة الهجرة ان يغامر في البداية شخصيا مع نجليه الشابين فيغوص في عالم التهريب وشبكاته , على امل ان تلحق ربة المنزل , رفيقة عمره وأم اطفاله , بهم فيما بعد بشكل رسمي على اساس لمً الشمل , بعد حصولهم على تصريح الاقامة , فتتجنب مخاطر طرق التهريب ومشاكله . وفعلا جرت الامور على هذه الشاكلة ووصل الثلاثة الى السويد وبقيت الزوجة والام تنتظر الى حين. بعد وصولهم الى البلد الجديد واستنفاذ حقوق وواجبات الضيافة هنا وهناك , وجد الرجال الثلاثة انفسهم يصطدمون بواقع جديد لم يكن مألوفا في بغداد , عليهم ان يتدبروا امورهم في تحضير وجباتهم وحاجاتهم المنزلية الاخرى , فالامر ليس سفرة ليوم او يومين بل قد يستغرق هذا شهورا وسنوات . الثلاثة لم يسبق لهم التواجد في مطبخ البيت في بغداد , حتى تحضير الشاي كان عالما جديدا ومعرفة تحتاج التعلم والاتقان , لكن المشكلة الكبرى لم تكن في الشاي وقلي او سلق البيض للفطور, بل في الوجبة الرئيسية , اي في وجبة الغذاء , وهكذا أجهد الرجال الثلاثة انفسهم و تمكنوا من إلتقاط الخيط الذي يوصل الى سر تحضير وجبة البرغل , بعد محاولات معدودة لاداعٍ لذكر تفاصيلها ونتائجها , اصبحوا قادرين على ضبط الامور الى حد ما يجعلها مقبولة ومهضومة , بل وجدوا انفسهم قادرين على بعض التفنن في ذلك , يتركهم يعتقدون انهم امام وجبات تختلف مع الايام , فيطبخون مثلا , يوما , البرغل مع اللحم , وفي اليوم التالي مع الدجاج , وثالثة يجعلونه احمرا باضافة الطماطم وعصيرها اليه , كما يضيفون اليه رابعة بعض التوابل والشعرية فيكتسب لونا ومذاقا جديدا الى حد ما , لكنه بالاساس وفي كل الحالات , في الاولى ومايليها, هو هو نفسه البرغل ايا كان شحمه او لحمه. اتذكر هذا كلما وقع نظري على مقال جديد , يُكتب ويُنشر هنا وهناك حول موضوعة الحكم الذاتي لشعبنا, فأجد نفسي امام وجبة برغل اخرى تختلف عن سابقتها كما تختلف وجبات برغل ذلك الصديق العزيز. يكتب البعض عن الحكم الذاتي وكأنه يكتب عمودا , مدفوع الثمن , يجد نفسه مُجبرا على كتابته , او كأنه يُسقط فرضا يرى او واجبات الوفاء تتطلب ذلك , محاولا ذر الرماد في العيون , أملا من خلال ماكتب ان يحوز على براءة ذمة من وليً النعمة , بل يذهب قلم لامع وموسوعة تراثية قيمة الى حد إرغام الاخرين على القبول بان يُحقنوا بوجبة البرغل تلك فلايكونوا من اصحاب ( الوجوه المصخمة  التي تنعق في المسيرة )! بينما اعتاد اخر ان يقدم وجبته تلك بين اونة واخرى تحت عناوين مختلفة وقد حشا فيها , في كل مرة , مالذً وطاب من اعشاب استطاع جمعها من هنا وهناك , بل راح ( يتدلل ) علينا ويهددنا بانه سيقدم وجبته الشهية هذه للمكونات الاخرى من الاخوان الشبك والايزيدية اذا لم نتعجل امرنا ونجلس امام ( منسفه ) ونضرب بالخمسة ! الحكم الذاتي بالنسبة لهم وجبة , هم وحدهم طهاتها ومن يملك تحديد شكلها ومقاديرها , هم فقط ( الشيف أسامة ) فيها , اما الاخرون فليس لهم سوى هضمها , اما ملاحظاتهم عليها لتطويرها فتدخل في اذان الطهاة اليمنى لتخرج سريعا من اليسرى , جريا على قاعدة ( تريد غزالا , خذ ارنبا , وتريد ارنبا , خذ ارنبا ) , هذا إذا خرج صاحب الملاحظات بملابسه سالما ولم يُصنف بسبب ملاحظاته تلك في خانة خونة الشعب والامال والاهداف!

اكثر من عام ونصف مرً على انطلاقة الدعوة الرسمية من قبل السيد سركيس اغاجان لتحقيق الحكم الذاتي لشعبنا, وها هو عام يمضي على انعقاد مؤتمر عنكاوة , وخلال هذه الفترة شهد شعبنا محطات مهمة تمثلت في حوادث الانتهاكات و الاعتداءات التي اصابته , تهميشا او تهجيرا او اختطافا او قتلا , واخرها الحادث المروع الذي اصاب موكب الحبر الجليل المطران فرج رحو والذي ادى الى استشهاد ثلاثة من مرافقيه فيما لايزال مصير المطران الجليل مجهولا , كما ان الكثير من المراجع الدينية والفعاليات السياسية والاجتماعية , المنظمة و العفوية , قد اختار خلال هذه الفترة مناسبة ما ليدلو بدلوه ويرمي بوجهة نظره , تلميحا او بشكل مباشر , في الحكم الذاتي بشكله المطروح . ليس تجنيا او مبالغة , عندما نستنتج ان كل ما تقدم يُظهر بشكل جازم تقاطعا الى حد ما ,  نادرا في الهدف وغالبا في الية التطبيق , بين وجبة الحكم الذاتي كما قد حددها طهاتها وبين ماينبغي اخذه بنظر الاعتبار, على اساس الظروف الموضوعية ومصلحة شعبنا , وبالتالي الدعوة الى اعادة معايرة هذه الوجبة لتكون ملائمة لذوق الواقع وجمهورها. ان السيد سركيس اغاجان قد اعترف صراحة في احد اللقاءات بالدور الغير المتوقع والمؤثر الذي لعبه وتلعبه الاطراف التي تُصنًف على انها معارضة لموضوعة الحكم الذاتي بصورته المطروحة , فهل تأمل طهاة الحكم الذاتي , في لحظة مراجعة مع النفس , في مقومات ومصادر قوة تلك الاطراف ( المعارضة )! في وقت تشير كل الحسابات في معادلة الامكانيات الى رجحان حاسم لصالح الطهاة , قوافل من المساعدات وعيادات متنقلة تجوب القرى والمدن ونفوذ رسمي كبير وماكنة اعلامية تغطي كل شاردة وواردة , مقابل امكانيات فقيرة إن لم تكن معدومة. حكى لي احد الاصدقاء كيف ان طارق عزيز جمع ذات مرة العاملين في جريدة الثورة عندما كان رئيسا لتحريرها وقال لهم ( انكم تملكون امكانات هائلة حيث دولة بكاملها تقف خلفكم لكنني ارى ان الناس تتلقف ( طريق الشعب ) بحماس كبير وهي المتواضعة في الامكانيات المادية مقارنة مع امكانياتكم فهل لي بمعرفة السر الكامن وراء هذا ). ترى هل سئل الطهاة انفسهم , وبعد كل هذا الجهد المادي في الاعمار والدعم الاجتماعي الذي لايستطيع اي مُنصف انكار شواخصه , لماذا لم يخرج الشعب لحد الان , سواء في سهل نينوى او في مناطق شعبنا التاريخية الاخرى , زرافات زرافات , في هبة جماهيرية كبيرة وحاشدة مطالبة بالتعجيل في تطبيق الحكم الذاتي على اساس شكله المطروح, اين يكمن الاعتراض او حتى التحفظ في ذلك ؟! , هل حلًل هؤلاء حقا حيثيات مؤتمر عنكاوة وما جرى فيه وما أعقبه , أم ان هدفهم كان فقط البناء على مايمكن الاستفادة منه وما يتماشى مع النموذج المطروح ؟! , هل جلسوا في لحظة تأمل عميقة بهدف استقراء الاسباب التي تترك لحد الان اية شخصية دينية او سياسية او اجتماعية من الساكنين فعلا في سهل نينوى , بمافيها الشخصيات المحسوبة على هذا الجهد او المستفيدة منه , تتحاشى ان تعبرعن حماسها او حتى ان تعلن جهرا عن موقفها المناصر للمشروع ؟! اما نحن المتواجدين في بلدان الاغتراب فان ابسط حقوق الوفاء تتطلب منا ان ننقل الى العلن , وبشكل منصف وعادل لايهاب في الحق لومة لائم , نبض الشارع في الداخل وخصوصا  أنًاته المخنوقة او البالغة الحساسية , لا ان نعمل ( سعاة بريد ) و نلقٍن الداخل رسائل موجهة ! وفي هذا ضربت في الايام الماضية , اخماسا باسداس , تعجبا وأسفا على فتاوي خطيرة يعلم اصحابها انهم  يملكون ثقلا هو استحقاقهم في شعبنا , كونهم اعلام نفتخر بهم جميعا, والاجدر بهم كان ان يُكثروا في العد ويعيدوا مرارا قبل ان يعلنوا ما وصلوا اليه من استنتاجات مصيرية في ظرف يفتقر الى ادنى عوامل الاستقرار. انه لمن الاجحاف والوهم ان نلجأ الى اعتماد الاحتمال الذي اكتشفناه , في ليلة ظلماء بظروفها واحداثها , كحل وحيد لمعادلة , مَرجل لازال يغلي على النار , وهي , اي هذه المعادلة , مفتوحة الاحتمالات ولها جميعا حظوظا في الحل!

ان الواقع في سهل نينوى بعد الاحتلال وغياب هيبة الدولة وسلطتها وتنامي النفوذ الكردي ثم بروز ظاهرة السيد سركيس اغاجان , كل هذا وغيره من العوامل الذاتية والموضوعية , وفي مقدمتها استنفار اهل المنطقة لطاقاتهم وامكاناتهم بشكل يثير الاعجاب والفخر , قد ترك منطقة سهل نينوى تعيش حالة من الحكم الذاتي الشعبي الغير المؤطر رسميا , لكنه يبدو انه بشكله الحالي مقبول اجتماعيا من جميع الاطراف المؤثرة في المنطقة ,سواء كانوا عربا ام اكرادا ام قوميات اخرى تشارك فعليا شعبنا الحياة في المنطقة وتتعايش معه , و يبدو ان شعبنا في سهل نينوى فخورجدا بجهده في هذه التجربة وحريص عليها وعلى تطويرها بالشكل الذي يحقق نتائج افضل , ويدرك ايضا ان ( البرغل ) الذي يقدمه طهاة الحكم الذاتي بالصورة التي يصفونها ويبغون الى تحقيقها ليس وجبة البرغل النموذجية التي قد تعطي طاقة اظافية لجسم شعبنا بل ربما ستجعله يُصاب , لاسمح الله , بالاسهال ويفقد الكثير من وزنه الذي تعب سنينا في بنائه. ان الاستمرار بهدوء في تطوير تجربة الحكم الذاتي ( الشعبية ) هذه عن طريق حث الخطى في البناء المادي والتمكن من المؤسسات الادارية والتشريعية والتعليمية , بواقعها الراهن , واجتذاب رؤوس الاموال من ابناء شعبنا في الخارج , اضافة الى طرق ابواب مؤسسات التعاون والانماء الدولي , جميع هذا متوازيا مع العمل الجاد والمكثف لحث المجتمع الدولي , دولا وحكومات ومؤسسات , للمساعدة في ايجاد شكل ما من الاطار او الغطاء الدولي لتجربة الحكم الذاتي الشعبية هذه , تكون ملزمة بتعهدات من قبل الحكومة المركزية وحكومة الاقليم , كونها ستكون نموذجا خصبا للتطور والاخاء التعايش ووحدة الوطن. ان كل هذا ربما يرسم خارطة الطريق لشعبنا في الظروف الحالية تمكنه من اجتياز حقل الالغام الكثيف الذي يجده امامه . وفي كل الاحوال تبدو الحاجة ضرورية الى جلوس كل المخلصين , ايا كانت أراؤهم , الى طاولة عريضة تجمع الجميع في ( سيمينارات ) منظمة علمية يسودها الحوار الجاد والبنًاء , بعيدا عن المزايدات والمهاترات والاتهامات والتهميش والاقصاء , تكون كلمة ابناء الداخل فيها هي الكلمة الفصل , واراء ابناء الخارج محل تقدير ودراسة وتمحيص بما يؤدي في النتيجة , وبتفاعل الاراء والافكار, الى ايجاد حل عام لمعادلة دور شعبنا ومصيره , يستند هذا الحل الى قاعدة شعبية عريضة تؤمن به قلبا وقالبا ويتحمل الجميع كامل المسؤولية في تنفيذه كما في نتائجه . 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها