فرحة
الاكتشاف وخيبة الأمل
ليس أجمل من الاعتداد بالنفس , مِن اعتقاد الطالب انه قد اصبح
( استاذ ونص ) , قادرا على ادهاش الاخرين , له كل الحق في ان يرى
نفسه ( لؤلوة تكمن بين اصداف المحار ) , لكن بين هذا وبين الوقوع
في حبال النرجسية والغرور خيط رفيع أنعم من شعرة الرأس ,مصدر
ومخزن الافكار . ليس فخرا ان نكون لؤلوة والاخرين ( فقاعات ) ,
كما ليس نصرا ان ندعي التفوق ونحن نرى الاخرين كسالى , بل قمة
الفخرعندما تُقارن اللؤلوة بشقيقاتها من اللألىء , وعندما ننال
الثواب وننتزعه انتزاعا بين جمع من الشطار . ما دفعنا لكتابة
السطور السابقة وما يليها مقال نشر في بعض المواقع , ونقلناه
شخصيا الى موقع برطلة , الذي نحن جزء من هيئته المشرفة , كتبه
الاستاذ الفاضل مايكل سبًي ,وتحت عنوان ( الدكتور وديع بتي حنا
بين الكاردينال والسوفييت في الجنة ) ردا على مقالنا الاخير (
لينين وغبطة الكاردينال وطارق عزيز ) . انه لفخر مابعده فخر ان
يرى وديعا وديعا ثانيا امامه , يكسر له الحجة بالحجة , و( يفحمه
) بالمنطق ثم يُصمته بالدليل القاطع , ولكن هذا يتحول الى خيبة
امل كبيرة عندما يختار هذا الوديع الثاني , ( الند في الافكار
والرؤية فقط ) , اسلحة هو اكثر ترفعا منها , تتمثل في محاولة
البخس باشياء الاخرين والنظرة اليهم من الاعلى .
ان على المرء , والكاتب خصوصا , ان يتجنب الخوض في موضوع
لاتتوفر لديه المعلومات الكافية عنه , لان ذلك أشبه بالغوص في
مياة لايعرف عمقها , فلاتنفع عند ذاك تلك الضربات العشوائية
بالارجل والايدي , بل ربما سيقوده ذلك الى ان يسمع عبد الحليم
حافظ وهو يصرخ بهدوء ( اني اغرق .. اني اغرق ), وهكذا ليس معقولا
ان مقابلة بسيطة في السفارة السوفيتية ومعلومات مسموعة عن
الدراسة في بلد السفارة هي كافية ليخرج المرء باحكام حول ذلك ,
هل يمكن مثلا ان أَقْدم على الكتابة عن ( سدني او ملبورن ) بناءً
على دردشة بسيطة تحدث بيني وبين الاصدقاء الذي يسكنون في هاتين
المدينتين ؟! , ليس كل الطلبة الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي
السابق هم خريجو جامعة الصداقة التي يشير اليها الاستاذ الفاضل
مايكل سبي , علما بان شهادات تلك الجامعة ومثيلاتها لاتعترف بها
العديد من الدول ومنها العراق , كما انهم ليسوا جميعا مبعوثي
الاحزاب , بل ان عددا كبيرا منهم قد ذهب حاله حال طالب الزمالات
الى الدول الاخرى , فدرس في جامعات البلد الحكومية جنبا الى جنب
مع طلبة ابناء البلد وفي اختصاصات علمية وطبية وادبية مختلفة
لاتمت للسياسة بصلة , اما مسألة معلمي اللغة وكونهم وكلاء لجهاز
المخابرات ( مع الشكر الجزيل للتنبيه على استخدامي كلمة عميل في
المقال , ولكن الكاتب احيانا ينجذب لا اراديا وفي غفلة منه الى
اللفظ الدارج ) فان ذلك امر طبيعي في نظام شمولي يرى ضرورة في
توجيه عدسات مجهره بهدوء لمتابعة الوافدين اليه. تبقى قضية (
صمود الثلوج الحمراء امام الشمس المشرقة ) فتلك قضية أعمق من ان
تختصرها جملة في عجالة , ناهيكم عن ان ( اصحاب الشمس المشرقة )
وفي تجارب عديدة , يعيثون فسادا في الارض منذ ان تخلصوا من تلك
الثلوج. وارجو ان يسمح لي الاستاذ مايكل سبًي , مع كل الاعتذار
له وللقراء الكرام , وهو الذي كرر مرارا في مقاله كلمة ( طارقك
وطارقك هذا ) فاستخدم نفس اللهجة بالرغم من انها تثير التقزز ,
لغرض التنبيه فقط بضرورة اعتماد الدقة في اختيار الكلمات واصول
المخاطبة , فقد تأخرت لايام في ارسال مقال قبل فترة بسبب كلمة
واحدة تخوفا من ان تُفسد الكلمة المقال بأكمله , فاقول له ان (
بوشك ) محور الشمس المشرقة , ربما يستحق قبل غيره ان يجلس في قفص
الاتهام , كونه اجرم ايضا بحق شعب كامل واستباح بلدا عريقا ,
بالرغم من اننا جميعا نتفق على ان التغيير في العراق كان حاجة
وضرورة للعراق شعبا وبلدا.
نعود الى الموضوع الاصلي , اي موضوع طارق عزيز , لنقول ان الغاية
الاساسية لمقالنا السابق ليست حياة طارق عزيز الجسدية, طالما نحن
نرى ان الرجل قد استلم شهادة وفاته السياسية, ناهيكم عن ان
الحديث عن مستقبل الرجل الحياتي البايلوجي ينطلق من مسلمة اقتناع
القانون بعدم ثبوت جرم عليه , اضف الى ذلك , وقد اثبتت التجربة ,
ان الضحايا , وبسبب الرغبة الجامحة في الانتقام انما يقدمون
للمتهم او المدان سياسيا هدية مجانية كبيرة عندما يطالبون
وباصرار تنفيذ اقسى الاحكام الجنائية فيه , ونقصد الانهاء الجسدي
, فيعيدون , ربما دون وعي , بعث الروح السياسية فيه.
ان الغاية , كما في كل مقالاتنا , هي الرغبة العارمة في وضع
قاعدة اساسية لمبدأ قبول الاخر , وتأسيس قوانين جديدة تحكم الية
الصراع السياسي , أم اننا سنبقى ندور في نفس دوامة العنف السياسي
فنفهم الصراع على انه الانتصار بالاقصاء و التغييب , ان من يريد
ان يؤسس لحياة سياسية جديدة عليه ان يقبل بتضحيات هي حتما تضحيات
قاسية , اما ان يقول دعوني انتقم لنفسي واخذ حقي اولا , ثم نبدأ
في وضع القواعد الجديدة فان ذلك يعني اننا لازلنا وسنبقى في نفس
الدوامة . كتب لي احد الاصدقاء الاعزاء رسالة شخصية تضمنت
ملاحظات قيمة على نفس المقال ( اي لينين وغبطة الكاردينال وطارق
عزيز ) فتذكرت , واعاد تذكيري , بالثمن الرهيب الذي قدمته عائلته
الكريمة ثمنا لموقف ورأي لم يتوافق مع توجهات النظام السابق ,
والدته قُتلت في الشارع , شقيقته وجدته قتلتا ليلا في عملية
جبانة خسيسة وهن في ملابس النوم , والده أصيب بجلطة في السجن ,
نقل الى المستشفى مقيدا بالسلاسل , اسلم الروح على فراش الموت
والسلاسل معه , عائلته تشردت بالكامل , تم الاستيلاء على دارهم ,
ومع ذلك لم يكتب , هذا الجبل من الصبر , حرفا أوكلمة او مقالا
حول هذا الموضوع , بالرغم من انه يكتب في مواضيع كثيرة تخص شعبنا
, واعتقد , واتمنى ان لا أكون مخطئا , انه لم يكتب لانه يعرف ان
العاطفة ستقود يراعه , وله كل الحق في ذلك , فهو بشر وليس ملاك ,
ومن المؤكد ان العاطفة المشروعة تتملًكه في احيان كثيرة فيتمنى
ان يرى من كان سببا في مأساته قد بات جثة هامدة , لكنه من جانب
يتذكر انه منذ زمن بعيد يتعاطى السياسة , ممارسة او فكرا , ويعرف
جيدا قوانينها حتى وإن كان خصمه قد ضرب كل تلك القوانين بعرض
الحائط . وتقول لي انني رُحت اقرأ المقالات في موقع عينكاوة او
في غيره , فتوهمت وصرت أتهم كتابها بانهم سياسيون وهم ليسوا كذلك
, بل ربما ( فقاعات تطفو على سطح البحار ) كما سطًر قلمك في مقال
سابق أردت تذكيرنا به من خلال الرابط الذي أشرت اليه في مقالك
الاخير! , ان ( شيرزاد وامثال شيرزاد ) يستحقون ان نرفع لهم
القبعة احتراما وتقديرا, انهم سياسيون من الدرجة الاولى بل
اساتذة السياسة بامتياز . ثم الى متى تبقى السياسة عندنا مهنة
المتاعب والمصائب , الى متى تبقى المرأة عندنا تولْول وتنوح
عندما تسمع ان ابنها او زوجها او شقيقها قد اخذ يتعاطى السياسة,
اعيش في السويد بعيدا عن العراق ولاتتوقف زوجتي عن تذكيري , قبل
كل مقال واثناء كتابته وبعد نشره , بان السياسة (خراب بيوت ) ,
فالاخ العزيز المشار اليه في المثال السابق وبعد كل هذه التضحيات
الجسيمة لم يحصل من السياسة على جاه او سلطة , بل نقش على الحجر
في الغربة ليشق طريق حياته , بالرغم من انه يملك كامل الحق في
ذلك , لان كثيرين غيره ممٍن حصلوا على الجاه والسلطة ليسوا اكثر
منه تضحية او افضل منه في المقومات الشخصية , , ربما يقول قائل
ان العمل السياسي موقف وليس صفقة تجارية يحصل بموجبها الانسان
على جاه او مال او سلطة , هذا صحيح جدا ولكن ذلك لايعني
الاستمرار في النظر الى السياسي على انه ذلك الذي وضع دمه في كفه
, مشروعا دائما للموت , وقرر ان يغامر بحياته وحياة عائلته و
اقربائه , حتى الدرجة التي يقررها الخصم , فيكون في هذه اللعبة
امام هذا الثمن الباهض الرهيب ويخرج بمثل هذا الحصاد المرير! ,
اعرف فتاة سويدية قررت قبل خمس سنوات ولوج عالم السياسة من خلال
حزب البيئة , كانت طالبة في الكلية في المدينة التي اسكن فيها
وتملك دراجة هوائية وتسكن شقة للطلبة , استطاعت الفوز بمقعد في
البرلمان وتزوجت عضوا في البرلمان الفنلندي وانجبت طفلين وهي
الان , ماشاءالله , ليس بالسرقة والاختلاس بل بطرق قانونية
مشروعة بما فيها ضمانات البنوك , شقق في استوكهولم وهلسنكي و(
فلل ) في السويد وفنلندا , اما الدراجة فقد اصبحت تراثا,
والسياسة بالنسبة لها , مهنة ومتعة وعالم مثير.
اما اعتراض الاستاذ مايكل سبًي على استشهادنا بقول السيد المسيح
, له المجد ,على خشبة الصليب حين نادى الاب طالبا الغفران
لصالبيه , بدعوى فارق الزمن و إختلاف المستوى الحضاري لصالبيه من
اليهود عن المستوى الحضاري لمن شغل ارفع المناصب السياسية في
بلده في القرن العشرين فهو اعتراض تنقصه القوة لسببين , الاول ان
جموع المؤمنين بيسوع , بل وحتى غيرهم , يعتقدون ان كلمات لم تكن
لتعالج موقفا بعينه وزمنا بتاريخه , بل انها كلمات خالدة تصلح
لكل الازمان والدهور , والسبب الثاني يكمن في ان التاريخ البشري
لايثبت بشكل قاطع وجود علاقة عكسية بين التطور الحضاري , بشقيه
العام والشخصي , من جهة , وبين الرغبة في ارتكاب الاخطاء
والجرائم من جهة اخرى , فأروربا دخلت حربين عالميتين وكانت
الاكثر تطورا في العالم , كما ان التقارير اشارت الى ان اغلب
المتورطين في التفجيرات الارهابية الاخيرة في لندن هم من الفئة
ذات التعليم العالي , بل ان اغلبهم ينتمي الى المجموعة الطبية.
انني اتفق تماما مع الفلسفة التي تؤمن في ان ارتكاب الخطأ او
الجريمة هي لحظة تخدير كامل ( لذات الخير ) لصالح ( ذات الشر ) ,
ويمكن ان يحدث هذا للحاكم والمفكر كما للفلاح البسيط والاسان
الغير المتعلم بغض النظرعن المستوى الثقافي والحضاري , والكثير
يرى , كحالة انسانية , ان جميع هؤلاء ( يعوزهم مجد الله ) , دون
ان يعني هذا تبريرا لجرائمهم ومناداة بشيوع قانون الغابة. اما
المثل عن محاكمة ( ستالين ) وهو في قبره , فان تلك المحاكمة لم
تكن إلا محاكمة تاريخية سياسية , وهي الاهم في نظرنا , لان
القوانين في معظم دول العالم تنص على اسقاط جميع التهم , من
الناحية الجنائية , عن المتهم وبالتالي عدم معاقبته جنائيا بعد
وقوع فعل الوفاة والموت.
بقيت نقطة اخيرة , وهي نصيحة اخوية خالصة للاستاذ مايكل سبًي ,
تكمن في انه اذا كان يرى ان الاخرين قد فازوا بفرص هو أجدر بها
وحظوظ هو أحق بها, فلا يدفعه ( غدر الزمان ) هذا , الى ان يضع
يده على الزناد ويصوٍب عشوائيا لا على التعيين , (عامي شامي )
كما تقول عجائز شعبنا.
|