-1-
موضوع انسحاب القوات الأمريكية من العراق يكاد يكون الشغل الشاغل للعرب والغرب
على وجه العموم. ولو نظرنا إلى الدوافع التي تدفع الغرب إلى المطالبة بالانسحاب
السريع للقوات الأمريكية بالذات من العراق، لرأينا أن للغرب أسبابه المفهومة في
المطالبة بهذا الانسحاب. في حين أن مطالبة العرب بهذا الانسحاب السريع ليس لها
ما يبررها غير مخاوف عربية، سوف نستعرضها فيما بعد. وحديثنا هذا لا يعني مطلقاً
أننا إلى صفِّ الاحتلال. وأننا ندافع عن الاحتلال. فالاحتلال بكل أشكاله مكروه
ومرفوض، ويجب مقاومته. ولكن علينا أن ندرك لماذا جاء، وما هي أهدافه. وأن
نتعامل معه بالعقل وليس بالعواطف، وبالوقائع وليس بالشعارات.
-2-
عندما تطالب بعض دول الغرب كالمانيا وفرنسا وروسيا والحزب الديمقراطي الأمريكي
واليسار الأوروبي والأمريكي بانسحاب مبكر وسريع للقوات الأمريكية في العراق،
فهي تريد من مطالبتها هذه تحقيق التالي:
1- أن لا تنفرد أمريكا بالكعكة العراقية – إن كان هنا ثمة كعكة – فانسحاب
القوات الأمريكية المبكر من العراق من الممكن أن يتيح للشركات الفرنسية
والألمانية والروسية الفرصة الاستثمارية والمالية لقضم جزء من الكعكة العراقية
والحصول على عقود عمل وتشغيل واستثمار. ولعل معارضة هذه الدول منذ البداية في
غزو العراق كان مبعثه هذا السبب، اضافة إلى الديون المتراكمة على عهد صدام،
والتي كانت هذه الدول تخشى أن لا تُدفع. وبالفعل فهذا هو ما تمَّ، حيث تمَّ
اسقاط النسبة الكبرى من هذه الديون تحت الضغط الأمريكي والبريطاني، والوعود
بافساح المجال للشركات التابعة لهذه الدول بدخول السوق العراقي، الذي استفادت
منه الشركات الأمريكية والبريطانية بالدرجة الأولى.
2- لا تريد أوروبا أن ترى أمريكا مستفحلة بقواها العسكرية في الشرق الأوسط.
وترى أوروبا أن امريكا يكفيها هذا الاستفحال الاقتصادي والسياسي والثقافي في
الشرق الأوسط، وكذلك سيطرة شركات البترول الأمريكية على منابع النفط العربية
منذ الثلاثينات. وأن الانسحاب المبكر من العراق يحدُّ من الهيمنة السياسية
الأمريكية على دول الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق.
3- لا شك أن الاتحاد الأوروبي يضمر عداءً مستتراً للسياسة الأمريكية في الشرق
الأوسط منذ الستينات، عندما قاد ديجول هذا العداء، رغم دور أمريكا الكبير في
تحرير فرنسا خاصة، وتحرير أوروبا عموماً من النازية في الحرب العالمية الثانية.
وقيام أمريكا بانشاء مشروع مارشال الشهير لإعمار أوروبا. بل ربما بدأ هذا
العداء منذ حرب السويس عندما ارغمت أمريكا بقيادة الرئيس ايزنهاور قوات العدوان
الثلاثي (بريطانيا وفرنسا واسرائيل) على مصر على وقف العدوان والانسحاب من
الأراضي المصرية المحتلة. وربما أيضاً يصل هذا العداء إلى مستوى العداء السياسي
وليس العسكري الذي كان قائماً بين امريكا والاتحاد السوفياتي فيما يتعلق بالشرق
الأوسط، بحيث وقف الاتحاد السوفياتي إلى جانب الجمهوريات الديكتاتورية في الشرق
الأوسط، ووقفت أمريكا – من أجل حفظ توازن القوى – إلى جانب الملكيات والأنظمة
المحافظة. ولكن أوروبا تعلم علم اليقين بأن لا أحد قادراً على حلِّ مشاكل الشرق
الأوسط المعقدة كإزالة الأنظمة الديكتاتورية، ومنع انتشار الأسلحة النووية،
والحفاظ على منابع النفط بعيدة عن أيدي الارهابيين، وفتح الطريق أمام
ديمقراطيات العالم العربي المختلفة لكي تتحقق، غير القوة الأمريكية العظمى.
ولعل هذا قدر أمريكا وقدر أوروبا، وصفحة التاريخ الجديدة التي على أوروبا
والعالم العربي أن يتعامل معها بالقراءة والفهم، في ظل تغير المعادلات السياسية
المتسارعة على خريطة العالم.
4- إن أوروبا تعلم وتدرك أن الثقافة الأمريكية ونمط الحياة الأمريكية أقرب إلى
العرب من الثقافة الأوروبية ونمط الحياة الأوروبية. ورغم كراهية معظم المثقفين
العرب للوجود الأمريكي في العالم العربي لنوازع دينية وقومية وسياسية مختلفة،
إلا أن الشباب العربي يقبل على التعليم الأمريكي والغناء الأمريكي والموسيقا
الأمريكية والسينما الأمريكية واللباس الأمريكي والطعام الأمريكي والفنون
الأمريكية بمختلف أنواعها أكثر من اقباله على مثيلاتها من أوروبا. مما يعني
الولاء المستقبلي للشباب العربي للثقافة الأمريكية. وهو ما يقلق أوروبا،
ويجعلها تطالب بالحدِّ من الوجود العسكري الأمريكي، لكي لا تكون الهيمنة
الأمريكية، كاملة وشاملة على العالم العربي الغني بموارد الطاقة.
في المقال القادم نستعرض أسباب العرب في مطالبة أمريكا بالانسحاب من العراق.
-3-
استعرضنا في الجزء الأول من هذا المقال الأسباب الرئيسية التي تدعو أوروبا إلى
مطالبة امريكا بالانسحاب العسكري من العراق، فما هي بالتالي أسباب العرب في
مطالبتهم انسحاب القوات الأمريكية المبكر من العراق بالذات؟
للعرب أسبابهم الكثيرة منها:
1- يُفرّق العرب بين الاحتلال من قبل دولة عربية لدولة عربية، أو من قبل دولة
اسلامية لدولة عربية، وبين الاحتلال من قبل دولة غربية مسيحية لدولة عربية
اسلامية. فالمقاومة والرغبة في انسحاب الاحتلال تتم حيال وفي مواجهة دولة غربية
مسيحية فقط. فالاحتلال ووجوب مقاومته لا ينطبق إلا على الاحتلال الغربي المسيحي
فقط. ويتحول الاحتلال في النهاية إلى صراع ديني، كما هو الآن في العراق وفي
اسرائيل كذلك، بين المسيحية والإسلام من جهة (تتم مقاومة قوات التحالف في
العراق على أنها قوات كفار، ويتم تفجير الكنائس العراقية)، أو بين اليهودية و
الإسلام من جهة أخرى (تتم مقاومة الاحتلال من قبل الجماعات والأحزاب الدينية
فقط في الغالب، وتستخدم الفتاوى الدينية لحرب اليهود والمستمدة من أحكام صدرت
ضد يهود ما قبل 14 قرناً).
فالاحتلال العثماني الإسلامي، استمر أربعة قرون للعالم العربي (1517-1918) دون
أية مقاومة تذكر. بل إن بعض المؤرخين العرب وخاصة المتدينون المتشددون والفقهاء،
ينكر تسمية الاحتلال العثماني استعماراً. والاحتلال التركي الإسلامي للواء
الإسكندرون السوري ما زال قائماً منذ 1936 دون أية مقاومة تذكر أو مطالبة
بازالة هذا الاحتلال. والاحتلال الإيراني الإسلامي لجزر الامارات العربية
الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) ما زال مستمراً إلى الآن منذ 1971.
واستمر الاحتلال السوري للبنان ثلاثين عاماً تقريباً، دون مقاومة، ودون مطالبة
بانسحاب هذا الاحتلال إلى أن وقعت جريمة اغتيال رفيق الحريري. وانتهى هذا
الاحتلال، ليس نتيجة للمقاومة الدينية اللبنانية التي أسفت في الواقع لهذا
الانسحاب وتمنّت لو لم يتم، ولكن نتيجة للتدخل الدولي بموجب قرار مجلس الأمن
1559. وفي 5/10/2004 أبلغ وزير خارجية سوريا فاروق الشرع كوفي عنان، أن سوريا
لا تستطيع تنفيذ هذا القرار، أو وضع جدول زمني للانسحاب من لبنان، لأن الوجود
العسكري السوري تم َّباتفاق بين البلدين سوريا ولبنان. في حين أن هذه الحجة
مرفوضة تماماً في الحالة العراقية من قبل الرأي العام العربي، والتي تمَّ فيها
الوجود العسكري الأجنبي في العراق بموجب اتفاق بين المعارضة العراقية وهي
الحاكمة اليوم لبغداد وبين قوات التحالف. ولو كان هذا الوجود العسكري سورياً أو
تركياً أو إيرانياً عربياً أو مسلماً لما اثيرت نحوه كل هذه الضجة. ولما تمت
مقاومته على هذا النحو من قبل الجماعات الدينية المسلحة، بحجة أن المسلم لا
يقتل مسلماً حتى ولو كان محتلاً وغاصباً. فما يجوز للمسلم المحتل والغاصب في
بلاد الإسلام لا يجوز لغيره من غير المسلمين.
وهذه الحساسية المفرطة من أي تدخل غربي مسيحي مسلح في الشؤون العربية لا توجد
إلا عند العرب نتيجة لاعتناقهم ديناً مغايراً لدين التدخل المسلح، أو الوجود
العسكري، تستخدم نصوصه الدينية التاريخية القديمة على واقع وحاضر مختلف تماماً.
ومن خلال استعراضنا لحركات المقاومة المسلحة لمختلف أشكال الاحتلال المسيحي
للعالم الإسلامي، نرى أن عناصر المقاومة المسلحة لهذا الاحتلال كانت عناصر
دينية صرفة في المشرق والمغرب العربي. ومثالها الواضح والقائم الآن هو في "حزب
الله"، و "القاعدة"، و "حماس"، و "الجهاد الإسلامي"، و"كتائب الأقصى"، وعشرات
الجماعات الدينية المسلحة في العراق كـ "جماعة أنصار السُنَّة" ، و "الجيش
الإسلامي السري"، و "جيش محمد"، و "جماعة أنصار الإسلام"، و "جيش المجاهدين"،
و "جماعة القاعدة في بلاد الرافدين "، و"المقاومة الإسلامية الأصولية" ،
و"المقاومة المسلحة للمسلمين الصوفيين"، وغيرهم.
فلم يكن لدى اليابانيين البوذيين - في معظمهم - هذه الحساسية المفرطة من
الاحتلال الأمريكي لبلادهم، رغم قتل امريكا لأكثر من نصف مليون ياباني، وجرح
وتشويه نصف مليون آخر في هيروشيما ونجازاكي في 1945. علماً بأن الاحتلال
الأمريكي لأراضيهم ما زال قائماً منذ 1946 إلى الآن.
ولم يكن لدى الكوريين البوذيين- المسيحيين هذه الحساسية المفرطة رغم تقسيم
أمريكا لبلادهم (كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية) ورغم وجود الاحتلال الأمريكي
على أراضيهم منذ 1954 إلى الآن.
ولم يكن لدى الألمان المسيحيين هذه الحساسية المفرطة، رغم تقسيم بلادهم (المانيا
الشرقية والمانيا الغربية) ورغم وجود الاحتلال الأمريكي على أراضيهم منذ 1946
إلى الآن كذلك.
وقوات التحالف الموجودة في العراق، لا تسعى لتقسيم العراق كما يزعم البعض
ويتخيلون. بل إن وجودها في العراق – في رأيي ورأي البعض ورأي كثرة من العراقيين
– هو الضمانة الكبرى للحيلولة دون تقسيم العراق. فالسكين الطائفية هي التي
قطّعت الكعكة العراقية إلى ثلاث قطع. ولكن لا أحد من الشيعة والسُنَّة والأكراد
يجرؤ أن يلتقط قطعة من الكعكة، ويذهب بها بعيداً. فالغرب أوروبياً وأمريكاً
وآسيوياً يؤمن بأن قوة العراق واستقراره في وحدته. وهو ايمان لا يُقرن بالقول
والشعارات فقط، ولكن بالعمل المتمثل بارسال القوات والتضحية بالمال والبنين في
سبيل مستقبل جديد للعراق، وبشطب الديون العراقية، ومنح العراق الخبرات
والمساعدات الأجنبية في كافة الشؤون، ودعم العراق في الأوساط الدولية السياسية
والمالية.. الخ.
2- ينظر العرب إلى الوجود العسكري الأمريكي في العراق من خلال عهود الاستعمار
العثماني والبريطاني والفرنسي. وهم لا يُفرّقون بين الاستعمار الذي جاء دون
دعوة، والجيوش التي جاءت بناء على دعوة أهل البلد للخلاص من حكم سياسي أصبح من
المستحيل ازالته بالقوى الذاتية السياسية الداخلية. وهم لا يُفرّقون أيضاً بين
الاستعمار الطامع بخيرات البلد المحتل وبين جنود الاحتلال التي جاءت لكي
تُعبّد الطرق أمام الشعب لكي يستعيد حريته ويبني كيانه السياسي الديمقراطي. وفي
الوقت الذي يُطلب منه الرحيل من قبل الحكومة الوطنية يرحل ضمن جدول زمني محدد.
ولكن العرب تعاملوا مع الوجود العسكري الأمريكي في العراق بنفس النظرة والسلوك
الذي تعاملوا فيه مع الاحتلال الإسرائيلي ومع الاستعمار العثماني والبريطاني
والفرنسي السابق، وعلى طريقة "كله عند العرب صابون". وهي أشكال من الاستعمار
استمرت مئات السنين (الاستعمار العثماني استمر 400 سنة، والاستعمار الفرنسي
أكثر من 120 سنة، والاستعمار البريطاني أكثر من 75 سنة). فالعقدة النفسية
السياسية التي ما زالت تحكم تصرفات العرب تجاه الغرب عموماً، هي العقدة النفسية
السياسية ذاتها التي ينظر من خلالها إلى الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
3-يوجد لدى العرب حساسية مفرطة تجاه الوجود العسكري لأي دولة من الدولة، نتيجة
لتاريخ الاستعمار العسكري الطويل في العالم العربي. في حين أن لا حساسية عربية
تجاه الوجود اللوجستي للقوات الأجنبية في قواعد عسكرية مختلفة من العالم العربي،
وتجاه الوجود الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والذي هو في رأينا أكثر خطورة من
الوجود العسكري. وهذه الحساسية المفرطة من الوجود العسكري كان من بين أسبابها
الرئيسية خسران العرب لكافة المعارك العسكرية التي خاضوها قبل الاستقلال وبعد
الاستقلال في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. وأصبح العرب لا يخشون
قوة غربية بقدر ما يخشون القوة العسكرية. في حين أن "القوة الناعمة" الغربية
المتمثلة بالثقافة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتقدم التكنولوجي هي أكثر
تأثيراً على تطويع الشعوب من القوة العسكرية. والقوة الناعمة الغربية وخاصة
الأمريكية، هي التي تسيطر على معظم مقدرات العالم العربي إن لم تكن على كلها.
ومن هنا،كانت بعض الدول تطلب من حلفائها في الغرب وخاصة أمريكا بتصفية قواعدها
العسكرية فقط على أراضيها. في حين تبقى قواتها الناعمة بمختلف أشكالها مسيطرة
على الحياة في هذا البلد أو ذاك.
4- العرب ليسوا خائفين من الوجود العسكري الأمريكي في العراق على العراق بقدر
ما هم خائفون من أن يكون هذا الوجود ضماناً لنجاح البناء السياسي العراقي
الجديد. وهم يدركون تمام الإدراك بأن بقاء القوات العسكرية الأجنبية في العراق
مدة طويلة من شأنه تثبيت العهد العراقي الجديد، وجعله النموذج العربي المحتذى.
وأن انسحاب القوات الأجنبية المبكر من العراق قبل أن يستكمل العراق قوته،
ويستعيد عافيته السياسية والاقتصادية والأمنية سوف يؤدي إلى اسقاط هذا النموذج
غير المرغوب فيه من قبل الأنظمة السياسية العربية ومن قبل الأحزاب الدينية
والقومية العربية عموماً. ولذا، يسعى العرب بكل ما أوتوا من قوة الصوت وطول
اللسان كأمة تمثل "ظاهرة صوتية" كما وصفها المفكر السعودي الراحل عبد الله
القصيمي، إلى المطالبة بانسحاب القوات الأجنبية في العراق بأسرع وقت ممكن.
وعبارة "بأسرع وقت ممكن" تعني قبل استكمال البناء العام في العراق، لكي يتورّط
العراق فيما بعد في حرب أهلية لا يمنع قيامها الآن، غير هذه القوات الأجنبية
الموجودة في العراق. فكل المؤشرات في العراق تشير إلى إمكانية قيام حرب أهلية،
تغذيها بعض دول الجوار لكي يتم الحريق العراقي المرغوب، ولا يعود العراق
النموذج، ولكنه يصبح المثال السيئ الذي يتمنى الجميع أن يُذكر، ولا يُعاد.
5- بعد اكتشاف البترول في العالم العربي في الثلاثينات من القرن العشرين، أصبحت
ثنائية النفط والاستعمار ثنائية يومية في الخطاب العربي السياسي. فلا يُذكر
الاستعمار إلا ويُذكر معه النفط. وبأن الاستعمار يسعى بكل الوسائل للسطو على
آبار البترول العربي. وهو يختلق مختلف الحجج لكي يعود إلى العالم العربي، أو لا
يخرج منه أصلاً. ولكن لاحظنا بأن الاستعمار الفرنسي والبريطاني خرجا من العالم
العربي بعد اكتشاف النفط بسنوات. فقد خرج البريطانيون من العراق 1932 بعد
اكتشاف البترول 1931، ومن مصر 1954، ومن الأردن 1956، ومن الكويت 1961 بعد
اكتشاف النفط عام 1930، ومن عدن 1967، ومن "أبو ظبي" وغيرها من الامارات
العربية في الخليج عام 1970، بعد اكتشاف النفط في السعودية 1938، وفي قطر 1939،
وفي أبو ظبي 1958 . وخرج الفرنسيون من سوريا ولبنان 1946، ومن تونس 1956، ومن
المغرب 1955، ومن الجزائر 1962. وخرج الايطاليون من ليبيا 1951. وكان الأحرى
به أن يبقى الاستعمار لكي يستفيد من آبار النفط. وعندما قادت امريكا حرب الخليج
عام 1991 قال معظم العرب آنذاك، أن أمريكا دخلت الخليج بعد أن ورّطت صدام حسين
في هذه الحرب، ولن تخرج منه إلا بعد سرقة آخر قطرة من آبار النفط. فقد جاءت
لنهب آبار النفط العربية، وليست لرد عدوان صدام على الكويت والسعودية. ولكن
الأيام أثبتت العكس. فقد انسحبت هذه القوات دون أن تأخذ معها قطرة نفط واحدة.
وكان الذي نهب الكويت وأحرق آبار نفطها صدام وجنوده، وليست قوات التحالف.
6- يعتقد العرب ومعهم فئة من العراقيين الحالمين بعودة العهد البائد، أن وجود
القوات الأجنبية في العراق هو العثرة الكبرى في سبيل استقرار العراق. والواقع
أن وجود القوات الأجنبية عثرة. ولكن هذه العثرة هي في طريق استيلاء حزب البعث
من جديد على الحكم. وعثرة في طريق تحويل العراق إلى دولة دينية على غرار دولة
الملالي في العراق. فلنتخيل وضع العراق الآن لو تم القضاء المستحيل على نظام
صدام بواسطة انقلاب عسكري، ولا يوجد داخل العراق جندي أجنبي واحد، ولا قوة
أجنبية لمنع التقسيم وقيام حرب أهلية.
-4-
دعونا نسأل أنفسنا الآن هذا السؤال:
- ماذا خسر العرب من الوجود العسكري الأمريكي في العراق؟
في واقع الأمر لم يخسروا شيئاً بل كسبوا الكثير. والخاسر هو امريكا نتيجة لحماس
واندفاع الادارة الأمريكية التي خسرت حتى الآن أكثر من 300 مليار دولار وأكثر
من 2000 جندي. في حين كسب العرب تلك الاصلاحات السياسية المحدودة التي تمت في
مختلف أرجاء العالم العربي. كسبوا هذا الزفير التحرري وهذا الشهيق الديمقراطي
المتعالي أكثر فأكثر كل يوم في كافة أرجاء العالم العربي، بعد أن تم تنظيف
الرئة العربية من ربو الخوف من السلطة. كسبوا تأديب الديكتاتوريات العربية
العاتية بالإطاحة حيناً (العراق) وبالعودة إلى جادة الصواب والعقل حيناً ثانياً
(ليبيا) وبانهاء الاحتلال العسكري وتقليم الأظافر حيناً آخر (سوريا). ولم
يخسروا مقابل كل ذلك مليماً أحمر أو قطرة دم حمراء من دماء جنود جيوشهم "الظافرة"
القابعة في الثكنات العسكرية تعلف وتكلف، وتغني الميجانا والعتابا.