-1-
ظن لبنان المنكوب والحزين والمشلول، أنه بعد أن انسلخ عن
سوريا، وقام كيان لبنان الكبير من قبل الفرنسيين عام 1920، وبعد
نيله الاستقلال من الوصاية الفرنسية عام 1943، أنه قد أصبح بلداً
مستقلاً، له الحرية في أن يتصرف كما يشاء، كأي بلد مستقل آخر،
ولم يدرِ أن استقلاله ذاك، كان تعزيزاً لامتلاكه من قبل الأنظمة
الديكتاتورية السورية المتعاقبة (حسني الزعيم، سامي الحناوي،
الشيشكلي، عبد الناصر وعبد الحميد السراج، أمين الحافظ، نور
الدين الأتاسي، صلاح جديد، حافظ الأسد، وبشار الأسد) منذ 1946
إلى الآن.
فمتى أعفت سوريا لبنان من تسلطها عليه؟
ومتى كان لبنان سيد قراره؟
فلبنان لم يستقل عام 1943.. فقد حلَّ الاستعمار السوري الناعم
محلَّ الاستعمار الفرنسي التقليدي، أو حلّت الوصاية السورية (الاستعمار
الناعمSoft Colonization) محلَّ الوصاية الفرنسية.
وأصبحت قبضة الوصاية السورية على لبنان بعد عام 1982(وهو العام
الذي تأسس فيه "حزب الله") أقوى مما مضى، بفضل وجود ميلشيات "حزب
الله" الضاربة.
ولولا وجود "حزب الله" في لبنان، لما كانت قبضة الوصاية السورية
قوية الآن، على هذا النحو إلى درجة قدرة الوصاية السورية على
تعطيل الاستحقاق الرئاسي اللبناني الحالي أشهر بل ربما سنوات،
رغم القرار العربي المتهافت، ورغم الموقف الأوروبي والأمريكي
الكسيح. فالوصاية السورية (الاستعمار السوري الناعم) على لبنان
هي أقوى من كل القوى الأخرى، نتيجة لعدة أسباب، على رأسها تفاهة
وسفاهة وخيانة معظم السياسيين اللبنانيين لوطنهم، وسهولة بيعهم
وشرائهم للأقوى وللذراع الأطول والأقرب، ونتيجة لموقع لبنان
الجغرافي الذي يؤهل الوصاية السورية خنقه، أو قتل سياسييه أو
إعلامييه، أو خطف لبنان، أو اختراق أجهزته، متى شاءت الوصاية
السورية.
فلا يوجد في عالمنا الآن سياسيون يخونون وطنهم، ويعتبرونه مباءة،
ويبيعون ويشترون فيه وبه، كما يفعل معظم السياسيين اللبنانيين
الآن!
-2-
فكل رؤساء الجمهورية
اللبنانية، ورؤساء مجالس النواب، ورؤساء الوزارات كانوا وما
زالوا يخرجون من العباءة السورية، ومن بوابة القصر الجمهوري في
دمشق، شئنا أم أبينا. وكانت سوريا بفضل إمساكها وإطباقها على
البوابة اللبنانية الوحيدة، وعلى المعبر اللبناني البري الوحيد
إلى العالم، وعدم ترسيم حدودها مع لبنان، وعدم التبادل
الدبلوماسي مع لبنان، ترسل للبنان كل يوم رسالة مُضمرة إلى
السياسيين اللبنانيين تقول:
"أنتم منا، ونحن منكم شئتم أم أبيتم. فلا يزال لبنان مقاطعة أو
محافظة سورية، ومسئوليكم موظفون لدينا، وإن كانوا لا يتقاضون
رواتبهم منا، ولكن من الامتيازات والأتاوات اللبنانية الممنوحة
منا لهم".
-3-
وفي السنوات التي أعقبت 1980
وإلى الآن، أصبح لبنان محافظة سورية حقيقية، متمثلة بحزب البعث
اللبناني التابع لسوريا، وبـ "حزب الله" المؤتَمن على المصالح
السورية العليا في لبنان، وبـ "حركة أمل" التي تأتمر بالأمر
السوري، وبـ "حزب المردة" ذي الوفاء لسوريا، وبـ "التيار الوطني
الحر" الذي ينتظر إشارة سوريا المبارِكة، لاعتلاء جنراله سُدة
الرئاسة - إذا أمكن- وبعدد كبير من السياسيين اللبنانيين
المرتهنين للاستعمار السوري الجديد، وبجهاز الاستخبارات السوري
الذي ما زال يعمل نشيطاً في لبنان، وبالصحافة السورية المعروفة
في بيروت المتمثلة بمجموعة من الصحف الصادرة في بيروت.
وبالتلفزيون السوري في لبنان متمثلاً بعدة محطات تلفزيونية تبثُّ
من بيروت. هذا بالإضافة إلى تجمعات سياسية وثقافية تدين بالولاء
للديكتاتورية السورية المستعمِرة للبنان، حيث صدق نائب الرئيس
السوري فاروق الشرع حين قال قبل أسابيع: "نحن الآن في لبنان،
أقوى مما كنا أثناء تواجدنا العسكري". وأن سوريا هي التي تقرر
وتبارك شخصية رئيس الجمهورية جَداً أو مزحاً، كما تم في اجتماع
وزراء الخارجية العرب في القاهرة قبل أيام، والذين لم يتوصلوا
إلى قرار انتخاب ميشال سليمان كرئيس للجمهورية إلا بعد أن ضحك
وزير الخارجية السوري (المُعلِّم) على ذقون باقي وزراء الخارجية
العرب، ووقّع على قرار متهافت بانتخاب رئيس الجمهورية المرشح،
فجاء عمرو موسى إلى لبنان حاملاً هذا القرار، ظناً منه أنه فتح
بيروت بهذا القرار، وإذا به يكتشف في بيروت، بأن هذا القرار لا
يصلح إلا للاستعمال في الحمّام العربي، بعد قضاء الحاجة!
-4-
فهل تريدون سيطرةً، واختراقاً
استعمارياً سورياً للبنان أكثر من هذه السيطرة، وهذا الاختراق؟
فنحن لم نشهد مثل هذا الاختراق ومثل هذه السيطرة السورية
الاستعمارية على لبنان، في مصر، والعراق، والأردن، وبعض دول
الخليج، أثناء الاحتلال البريطاني لها.
كما لم نشهد مثل هذا الاختراق، ومثل هذه السيطرة السورية
الاستعمارية على لبنان، في سوريا، ولبنان، ودول المغرب العربي،
أثناء الاستعمار الفرنسي لها. فقد أجرى الاستعمار الفرنسي
انتخابات الرئاسة السورية في عام 1943 التي فاز فيها شكري
القوتلي أحد أبطال الاستقلال.
فكان لزاماً علينا أن نطالب الآن وبكل قوة برحيل "الاستعمار
السوري الجديد" عن لبنان، الذي رحل جانب منه عام 2005 وهو الجانب
العسكري الظاهر، وبقيت كافة الجوانب الأخرى، وبقوة أكثر من
الماضي كما قال فاروق الشرع.
ونحن حين نطلق عليه "استعماراً جديداً"، فذلك لأنه شكل جديد من
أشكال الاستعمار الحديث، لم يسبق لأي شعب من شعوب الأرض أن مارسه
على شعوب أخرى، ولم يسبق لشعب أن وقع عليه مثل هذا الاستعمار
الجديد.
ولكن كيف يمكن القضاء على هذا الاستعمار وفي لبنان سياسيون
يباعون ويُشترون؟
صحيح أن سوريا ليست لديها الأموال الكافية لشراء كل هؤلاء
السياسيين، ولكنها بدلاً عن الشراء المادي المباشر، تَعِدُ هؤلاء
السياسيين بمناصب سياسية في الدولة اللبنانية، تُُمكّنهم من
السلب والنهب والفساد المالي، الذي يعوضهم عن المال السوري
المباشر.
-5-
من يقل أن حافظ الأسد، كان
أذكى من ابنه بشار فهو خاطيء. فبشار والشرع والمُعلّم وجهاز
الاستخبارات السوري، اخترعوا ما نطلق عليه "الاستعمار الجديد
الناعم". ومظاهر هذا الاستعمار تتمثل في التالي:
1- عدم تواجد جيش تقليدي للاستعمار في البلد المستعمَر.
2- عدم التبادل الدبلوماسي مع البلد المستعمَر.
3- إيجاد أغلبية شعبية وحزبية نافذة ومخترِقة، تابعة للمستعمِر
في المؤسسات الدستورية للبلد المستعمَر، بحيث لا يتم انتخاب رئيس
الجمهورية، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس الحكومة إلا بعد موافقة
ورضى المستعمِر عنه.
4- إصدار ودعم مجموعة من الصحف القوية التابعة للمستعمِر في
البلد المستعمَر.
5- إنشاء ودعم أجهزة إعلامية مختلفة تابعة للمستعمِر في البلد
المستعمَر.
6- إنشاء جيش شعبي (بحجة المقاومة أو الحفاظ على السلم الأهلي)
تابع للمستعمِر في البلد المستعمَر.
7- اغتيال معظم رموز مقاومة الاستعمار الجديد في البلد المستعمَر.
8- خنق اقتصاد البلد المستعمَر، وإغلاق بوابة الخروج الوحيدة
لمنتجاته من حين لآخر لتدمير اقتصاده، وتحصيل الأتاوات من رجال
الأعمال، والبنوك، والمؤسسات التجارية الكبرى.
9- اختراق كافة أجهزته الأمنية، ودسّ العيون والعملاء في هذه
الأجهزة، وتهريب السلاح للعناصر الحزبية المؤيدة للمستعمِر،
وتدريبها عسكرياً.
10- يفخر زعماء الأحزاب والمنظمات السياسية والإعلامية والدينية
اللبنانية المتحالفة مع الاستعمار السوري – إذا ما اضطُروا – بأن
تحالفهم مع دولة عربية قومية ممانِعة للتطبيع الصهيوني، خير من
تحالفهم مع قوى الاستعمار الغربي.
11- يشترط الاستعمار السوري الناعم الجديد، أن يكون البلد
المستعمَر، من بلدان الجوار، وله حدود برية مشتركة وحيدة مع
سوريا، وذلك لتسهيل الوصول إليه، وخنقه اقتصادياً إذا ما اضطر
الأمر، وإرسال الدعم اللوجستي لعناصر هذا الاستعمار في الداخل
المستعمَر. ويعتبر لبنان في هذا الشرط هو المثال الأمثل.
12- وأخيراً، محاولة تدمير البلد المستعمَر – إذا ما استدعى
الأمر - ليس بالبوارج والصواريخ والقنابل، وباقي الأسلحة
التقليدية، ولكن بإدخال عناصر إرهابية إلى البلد المستعمَر (نهر
البارد مثالاً) لتدميره، أو بإحراق أحراشه وغاباته، أو بقتل قادة
الرأي السياسي وقادة الجيش (فرانسوا الحاج مثالاً).
وهكذا توصّل النظام السوري الحالي، إلى صيغة مدهشة، وشكل جديد من
أشكال الاستعمار الجديد، والخفي، والناعم.
-6ذ-
لقد
شهد العالم العربي، وآسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، صنوفاً
وأشكالاً مختلفة من الاستعمار القديم والجديد. ولكنه لم يشهد حتى
الآن استعماراً كالاستعمار السوري الجديد الناعم على لبنان، وهو
برأينا أخطر أنواع وأشكال الاستعمار في التاريخ، حيث لا مَمْسكَ
عليه، ولا قوة عسكرية صريحة وواضحة له على الأرض، ولا اعتراف
للمستعمِر باستعماره، بل هو ينكره أشد الإنكار، وبهذا لا تستطيع
الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، أو الجامعة العربية، إرغامه على
الانسحاب، أو فكِّ قيوده الاستعمارية.
إنها العبقرية السياسية السورية، التي تفتّقت عن هذه الصيغة
الجهنمية الجديدة للاستعمار الجديد الناعم.
السلام عليكم.
ايلاف
http://www.elaph.com./ElaphWeb/ElaphWriter/2008/1/295646.htm |