تَخَبُّطٌ فِكْرِيٌّ في سورَةِ
البَقَرَةِ(1)
كل
من يفكر بفحوى الآيات القرآنية بعمق، ويلحظ حركة سياق كلماتها بدقة،
اركز بشدة وحزم وصلابة على كلمة: دقة! لماذا؟
لأننا أكثر ما نحتاجه هو التعامل بدقة مع الكلمة ومعناها الحرفي أو
المجازي حسب موقعها ومدلولها في الجملة، ولا ان نُسَيِّسَها ونأخذَها
الى حيث نشتهي ونرغب او تشتهي الجماعة المؤمنة ولسماعها تطرب. ولهذا
نقوم بتفسيرها او بالأصح بتطويعها أو حتى إخراجها من ثوبها وتبرير
مدلولها بنظرية حب البقاء لها ولقدسيتها حتى ولو كان ذلك على حساب بقاء
الإنسان نفسه، وبغريزة تقليدية ثرية عاطفية تراثية ومقولات تراكمية
تعودنا عليها وتربينا أبا عن جد في اجلالها، فقط لنخفي او نعلل من
خلالها أي خلل أو خطأ في الكلام القرآني.
ولهذا لا بد من الخروج من نفق النص المقدس المحدود والمسدود، والذي أدى
الى محدودية وانسداد وبالتالي تضييق افق العقل العربي وتعليبه.
وعليه لا بد من الدقة لكي لا تضيع البوصلة من بين أيدينا، كما يفعل
وللأسف كل من لا يريد الكشف عن الحقائق المرة، التي ستحطم فوق جمجمته
عرش جنته العدنية الفردوسية الخيالية الخرافية الأبدية السرمدية
الموعود بحورياتها، وستزلزل أمام ناظريه قصور احلامه الوردية الإيمانية
المعلبة في علب ذهبية غيبية مقفلة، فيدافع عنها بضراوة الاسد الخاسر في
وجه البندقية، ضاربا الحقيقة عن عمد عرض الحائط، قافزا بحماس دون بوصلة
فوق الحائط، ليهوي سحيقا في عالم الغائب.
مثلا عندما يتحدث القرآن بكلام واضح لا يحتاج الى اساطين لغة، وعلماء
نحو، وفطاحل فقه وجهابذة تفسير، قائلا :
وَيُمْسِكُ
الله
السَّمَاءَ
كي
لا
تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ.
فيأتي احدهم قافزا بحماس فوق الحائط محاولا إدخالنا في متاهات وتخيلات
وتحليلات كلمة تقع. وكأن كلمة تقع تحولت الى نظرية بحجم نظرية النسبية
لآينشتاين، أو نظرية الانفلاق الذري او الانفجار الكوني.
ويأتي اخر بقفزة جمباز بهلوانية لا علاقة لها بوقوع السماء ليتحدث عن
اصطدام النيازك ووقوعها على الارض. في تفسيره لكلمة تقع.
وما علاقة هذا بذاك؟ لا شيء!
ولا عجب ان نتحول بعد ذلك نتيجة عبثيتنا الفكرية هذه، والتي اصبحت مضرب
الأمثال مقارنة مع المجتمعات والدول الناجحة، الى مجتمعات ضارة ومؤذية
تنموا كالاعشاب البرية في بستان الكرة الأرضية العامر بثمار الاكتشافات
والاختراعات والإنجازات الرائعة للإنسانية!
ومن يتأمل ما جاء في الآيات القرآنية من سرديات، بحيادية وبعد نظر
وتجرد، وبعين ناقدة ثاقبة دارسة للبحث عن الحقيقة بين السطور، فسيكتشف
بوضوح ان التخبط في الفكر هو ميزة من مميزات القرآن.
ومن الملفت هنا ان السجع ( العامود الفقري للبناء القرآني) يلعب الدور
الأساس في بعض الآيات حيث يستدرج الفكرة الى ما لا تشتهي فتتعثر في
طريقها وتسقط في فخ التخبط الفكري.
هذا ليس فقط في "البقرة"، وانما في معظم السور والآيات التي جمعت وركبت
بطريقة عشوائية بدائية غير مبرمجة تخطئ وتصيب، وبلا اسلوب علمي تنسيقي
موحد ينسق الجمل والعبارات بدل تكرارها الغير ضروري وترديدها في اكثر
من سورة و مكان، وبلا منهجية فكرية ثابتة سليمة المنطق ومنسجمة
الأفكار.
مما يؤكد ان هذه السور كتبت لابناء عصرها لتبهر عقولهم بوصفها البلاغي
الأدبي المتجدد آنذاك في نظرته لظواهر الطبيعة والحياة، ولتسلب ألبابهم
بسجعها الشعري الترديدي.
نحن قليل من السجع او كثير منه، لن يؤثر على نظرتنا الموضوعية الى
دراسة القرآن بدقة، ومعاملته بعقلانية صارمة، وصلابة لا تخشى في الحق
لومة لائم.
سنلقي الضوء فقط كمثال على هذا التخبط في موضوع مهم جدا ويعتبر احدى
العواميد الفكرية التي تقوم عليها الخيمة الإلهية المقدسة.
ألا وهو ابليس اللعين او الشيطان الرجيم أبو الشر المكين المدعوم من رب
العالمين الذي خاطبه في سورة الأعراف قائلا:
"
إنك من المنظرين"15.
وابليس هذا هو الذي خرب بيت آدم الذي اغضب الله بفعلته المشينة النكراء
مع حواء، فانزلهما مع ابليسهم حسب الأسطورة المعروفة من جنان الرغد
والسعد والشبع والامتلاء والصحة الموفورة وأنهار الهناء الى ارض الجوع
والمرض والبلاء والعطش وصحاري القحل والعناء والقتل والحروب وسفك
الدماء.
وسنكتشف كيف ان ابليس المرجوم بملايين الحصى من حجاج بيت الله الحرام
عاما بعد عام قد خدع الله قبل ان يخدع حواء التي اغوت ادم وكان الذي
كان.
وبالرغم من ان الله عادل كما يوصف ويقال، الا انه وحسب سورة الانعام:
"وَلَا
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"
164،
عاد وناقض نفسه وانقلب على عدالته محملنا جميعا جريرة ووزر ما ارتكبه
ادم. مما يؤكد أن العدالة الإلهية كلمة جميلة بلا مضمون سكبت في كتب
الأديان فقط لإلهاء الإنسان.
المعروف ان ابليس عصى امر الله في السجود لأدم.
ولكن هل ممكن ان يستطيع ابليس خداع الله؟
هذا ما سنكتشفه عندما يكون التخبط في الفكر، هو ميزة من مميزات القران.
نحن الآن في سورة البقرة ساذكر فقط رقم الآيات. وتعليقي وتوضيحي حول كل
آية.
الله يفكر في مشروع ضخم، الا وهو ان يجعل على هذه الأرض الذي هو حاكمها
الفعلي الوحيد خليفة له لكي يحكمها باسمه وحسب دستوره الإلهي. أي
القرآن. ومن هنا تاتي عبارة الإخوان المسلمين او ملالي ايران وغيرهم من
الجماعات الاسلامية بان "الحاكمية لله" أي لممثليه على الأرض، اي لهم،
ليشرعوا لأنفسهم وللشعب الغلبان رفض الديمقراطية، لانها تعطي "الحاكمية
للشعب!". أي للعبيد حسب تفكيرهم الديني، كيف لا وهم الأسياد!
ومن اجل هذا الأمر الجلل جمع الله الملائكة جميعا دون استثناء ليطلعهم
على ما هو قادم عليه، قائلا:
"وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
30
ما
نستشفه من هذا الكلام هو التساؤل التالي:
كيف عرف الملائكة أن خليفة الله سيفسد في الارض ويسفك الدماء؟
هذا السؤال المنطقي والقادم من سياق الآية يؤدي الى استنتاجين:
الأول، ان الملائكة يملكون بصيرة كشف المستقبل ويعلمون بالغيب.
والا كيف عرفوا بان خليفة الله سيفسد ويسفك الدماء؟
ودماء من سيسفك؟
هذه اشارة اخرى على كشفهم للغيب ورؤية ذرية خليفة الله، أي آدم وهي
تفسد وتسفك الدماء وتشعل الحروب وتجذ الرقاب وتلبس الأحزمة الناسفة
لتفجر الأبرياء او تعدمهم وهذا ما حدث فعلا.
الثاني، انهم يكشفون بطريقة غير مباشرة الى ان الله يفسد ويسفك الدماء،
عندما يقولون له عن خليفته "أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"
وبما معناه ان خليفتك سيفعل ما تفعله انت.
ونتيجة ما اسلفنا توصلنا الى التخبط الفكري الأول:
حيث الله يقول
لهم: "إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
ولكنهم عرفوا علموا بكل ذلك ثم يقولون لله "
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا"32.
يتبع! |