عجباً!
ولماذا الأوروبيون رغم مقدرتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية الهائلة لا
يحلمون باستعادة امجاد
إمبراطوريتهم المسيحية المقدسة؟
عندما تنضج الشعوب، وترقى اجتماعيا، وتسمو انسانيا، وتتحضر مدنياً، تصبحُ
واقعيةَ التفكير، تعمل من خلال العقل والمنطق في حل المشاكل وتذليل الصعاب
خدمة للمجتمع، وتتعاطى بالدبلوماسية تحقيقا لطموحاتها السياسية
والاقتصادية.
أما عندما لا تكون ناضجة، واجتماعيا فاشلة، وانسانيا ساقطة، وفي مشاكلها
غارقة، فإنها تصبح ماضوية، تجهل وتحلم وتهذي وتهرطق.
ولأن شعوبنا الإسلامية هي شعوبٌ دينيةٌ عاطفيةٌ حماسيةٌ مُخدَّرةٌ بسجع
الكلمات ونغمِ الآيات ومتخلفةٌ الى درجة أنها لم تخرج بعد من قوقعة سقيفة
بني ساعدة بكل كوارثها التي ما زالت تلاحقنا حتى هذه اللحظة، المغرومةُ
بأمجاد الماضي حاضرا يلاحقُها مستقبلا، فيقض مضاجعها واقعا مريراً، متخبطةً
في مستنقعٍ أسنٍ من المشاكل الاجتماعية والسياسية والثقافية، منتشيةً بعد
كل ذلك بثقافة موتٍ سوداوية مهيمِنَةٍ على حياتها كرسَها الدين في عقول
الملايين كيقين ما بعده يقين لا يحتاج لا الى فكر ولا أدلةٍ ولا براهين.
ولهذا ستظل وللأسف التواريخ الاسلامية بمحطاتها المأساوية وفتنها المذهبية
الدموية تُستغلُ من قبل أصحاب النوايا السيئة الماضويين الحاقدين الثأريين،
تستولد نفسها كربلائياً وتتكرر ويلاتها ومجازرها إنسانيا، إلى أن يتم الفصل
التام والقاطع والنهائي بين الدين والسياسة. وردا على القول " الاسلام دين
ودولة"، الذي لم يجلب للمجتمعات إلا الغوغاء والتخبط في ظلام الليل. أقول :
فصل الدين عن الدولة هو الحل، وإلا لن تقوم لنا دول تحترم الحرية والعقل،
وسننتقل بالحروب والمآسي على من فصل الى فصل ، الى أن نغرق نهائيا ونستكين
في مستنقعات من الكوارث والفتن والنزاعات والجهل.
ولا بد أن نصل حتما ومهما طال المطال الى مرحلة الفصل، ليصبح عندها الولاء
للوطن هو الأساس في وحدة المجتمع، وليس للدين والطائفة والمذهب والقومية
والعرق الذي يفرق أبناء الوطن الواحد شيعا وطوائفَ ويحولهم الى مجموعات
متناحرة على جنس الملائكة، متصارعة على السلطة، مما يفسح في المجال
للمصطادين في الماء العكر للدلو بدلوهم لإذكاء نار الفتن وبث السموم
والشاعات وشراء الذمم مما يؤدي الى تفكك الدولة وعدم استقرارها، كما هو
الحال في العراق اليوم .
عندها سيترحم الناس على بطش الدكتاتور الدموي الذي كان قد فرض الأمن
والاستقرار ليس من خلال حكمته ورشده، وانما من خلال سطوته المطلقة وبطشه
وعلى الجميع بقوة السلاح وتكميم الأفواه.
ولكن هل من الممكن أن يتم هذا الفصل التام والقاطع والنهائي في مجتمعاتنا
الاسلامية الغارقة في مستنقعات الغيبيات الدينية، وكأنها حقائق مادية، كما
هو حاصل وبنجاح تام في كل المجتمعات الغربية؟
هنا سنجد صعوبة كبيرة في بعض المجتمعات المنفتحة قليلا على الحداثة
والحضارة كالمصري والجزائري والتونسي، ولكن كيف بمجتمعات منغلقة دينيا على
نفسها ومنغمسة في جهلها وتخلفها كالسعودي والإيراني!
وما دام المسلمون يحنون الى أمجاد الماضي التليد، ويحلمون باستعادة دولة
الخلافة، مرضى تطبيق الشريعة البالية وفرض الغيب من خلال الحكام على الشعب،
فلن تنجح كل محاولات فصل الدين عن السياسة.
وتركيا أكبر دليل على عودة الاسلام السياسي بقيادة أردوغان لاستعادة أمجاد
بني عثمان. إلا اننا على ثقة تامة بأن العلمانية التركية ترسخت ولها جذور
ضاربة في المجتمع وهي أقوى من كل الأحلام العبثية. ولا شك ان الفضل بوصول
حزب اسلامي الى السلطة يعود للنظام الديمقراطي والعلماني.
عجبا ولماذا الإنكليز لا يحلمون ولا يعملون لاستعادة أمجاد امبراطوريتهم
التي لم تكن الشمس لتغيب عن أطرافها المترامية حول العالم؟
لأنه وكما اسلفنا سابقا عندما تنضج الشعوب، وترقى اجتماعيا، وتسمو انسانيا،
وتتحضر مدنياً، تصبحُ واقعيةَ التفكير، تعمل من خلال العقل والمنطق لبناء
المجتمع واسعاد الانسان.
هذا رغم أن الامبراطورية الانكليزية في أوج توسعها كانت أكبر بكثير من كل
الدول الاسلامية في عز توسعها. مع ذلك نرى الانكليز اليوم سعيدين جدا
بجزيرتهم الصغيرة، ولا يوجد حزب او فئة بريطانية تطالب بالعودة الى أمجاد
الماضي التليد.
وفي رجوع الى الدين فلماذا الالمان والطليان لا يحلمون ولا يعملون لاستعادة
امجاد
الإمبراطورية المسيحية المقدسة للأمة الجرمانية والتى امتدت لأكثر من 800
سنة وبلغت ذروة قوتها ومجدها العسكري خلال
العصور الوسطى
باحتلال القدس وبلاد الشام والأناضول في الحروب الصليبية ، وشكلت مع
البابوية الكاثوليكية
واحدة من القوتين العالميتين، حيث كان البابا يتوج أباطرتها. الذين يخضعون
لأوامره ممثلا لله على الارض. اي كان البابا هو الرئيس الفعلي لهذه
الإمبراطورية الدينية المقدسة في تداخل بين الدين والسياسة كما يحدث في
بلادنا الاسلامية اليوم. حتى أن الامبراطور كان ينتظر اياما ذليلا أمام باب
الفاتيكان حتى يأذن البابا لاستقباله. كما يحدث اليوم في ايران حيث
الخامنئي هو ممثل الله ورئيس الجمهورية روحاني موظف صغير بين يديه.
هذه
الخلطة في الحكم عرفها الأوروبيون وجربوها ونبذوها ونحن اليوم نتمسك بها
ونحارب ونقتل ونغتال ونذبح الأبرياء ونفجر المساجد لفرضها على شعوبنا على
سبيل المثال:
ولاية الفقيه في ايران، ودويلة داعش، ودولة طالبان، ودولة الإخوان في مصر،
ودولة الحوثيين، ودويلة حزب الله، وحركة الشباب في الصومال، كلها وجوه
بائسة لأساليب حكم اسلامية سياسية سنية شيعية مفلسة وفاشلة وجاهلة وبائدة.
وبعد 35 سنة من حكم ملالي إيران الاستبدادي القمعي بفرض اللباس الشرعي على
النساء بمواصفات هم قرروها،
إلا انه وبتحدن لرجال الدين فإن العديد من الإيرانيات بتن يرتدين حجابا
خفيفا بالكاد يغطي شعرهن وثيابا ضيقة بدلا من المعطف الطويل أو التشادور
التقليدي.
ولم يُصَدر
الملالي من ثورتهم المبجلة بالآيات إلا الفتن والموت والإرهاب، وصاروا مع
الاستكبار العالمي الذي اعلنوا الحرب عليه بعد توقيع الاتفاق النووي أحلى
اصحاب.
يغفل كل من يعمل على استعادة الخلافة على صعيد السنة والإمامة على صعيد
الشيعة، انه قديما كان من الممكن بناء تلك الدول على أساس ثقافة الموت، أما
اليوم فإن الناس وفي كل انحاء العالم يريدون ثقافة الحياة بكل ما تحمله هذه
الثقافة من حرية شخصية وسعادة وابداع للانسان وتقدم للدول.
منذ
اكثر من 30 سنة وحزب الله يجهد في لبنان للهيمنة على الدولة ومؤسساتها من
خلال عمليات الاغتيال وتوزيع الأموال والقمصان السود و7 ايار ، وكل ذلك
لفرض وصايته بثقافة الموت على الشعب اللبناني. الذي يواجهها بثقافة الحياة
من خلال مهرجانات فرح وغناء ورقص تعم كل الأراضي اللبنانية .
نجح
حالش في الهيمنة على الدولة. والنتيجة نراها اليوم في تحويلها الى مزبلة.
سعيد
ب. علم الدين |