هل في لبنان ديمقراطية؟ (3)
علق أحدهم
على إحدى مقالاتي قالا:
"لست
أدري من أين
تأتي الاستاذ سعيد كل هذه الشجاعة كي يعلن لبنان دولة
ديموقراطية.
وما يعيق تبرعم هذه الديموقراطية فقط أبو الميش"ميشال
عون"
وشلة حسن نصر
الله
وامثالهما.
ألم
يسمع صديقنا أن لبنان دولة طائفية توافقية!
وإذ
كانت كذلك على ما
أذكر،
فإن
الكلام عن ديموقراطية 14 أذار يصبح كلام أيديولوجي محض.
أرغب
أنا
كذلك
أن يكون
في
لبنان نظام
ديموقراطي مواطني.
ولكن لبنان توافقي،
ولذلك
كل
منصب وغير
ذلك هو منصب طائفي.
وباعتبار الامر كذلك لا يجوز كثيرا
التباكي
على ديموقراطية
ليست سوى أوهام!"
شكرا على
كلام هذا المعلق، الذي ليس له علاقة بالديمقراطية اللبنانية، أي حكومة
عبر الأكثرية تحكم ومعارضة تعارض، والتي تبرعمت وتفتحت وترعرت ونمت
وتطورت وازدهرت منذ أربعينيات القرن الماضي على أفضل ما يكون. أما
بالنسبة للحديث عن التوزيع الطائفي للمناصب، فهذه شائبة من شوائب النظام
السياسي اللبناني، إلا أنها ما دامت لا تعطل دور الحكومة والمعارضة فلا
يمكن أن تقتل حيوية وفاعلية النظام الديمقراطي. ما دام هذا الموظف ولاءه
للبنان ولنظامه السياسي بالدرجة الأولى. يدل بوضوح كلام هذا المعلق على
التأثير الطاغي عليه من صراخ نصر الله وثرثرة بري ونعيق نعيم قاسم ونقيق
فتحي يكن وباقي شلة بدعة الثلث المعطل وفرض وصاية الديمقراطية التوافقية
أي الوصاية السورية الايرانية على الشعب اللبناني. انتبهوا هم يلهثون
للمشاركة في الحكم ويفرضون انفسهم على الناخب اللبناني: ان ربحوا او
خسروا! أي دس السم في عسل الديمقراطية اللبنانية بحجة الوفاق.
فهذه
الديمقراطية التوافقيه التي تريد فرضها جماعة 8 اذار ما هي سوى شمولية
شبه دكتاتورية حيث تنتهي المعارضة وتنتهي معها اللعبة الديمقراطية
الحقيقية. وهذا ما نراه اليوم من جمود تام وحركة بطيئة جدا لحكومة
السنيورة الحالية والتي ما هي سوى صورة عن شمولية ما يريدون فرضه على
لبنان. حيث كل قرار يجب ان يؤخذ بالاجماع دون اعتراض، والا يتم تعطيله
ووضعه في الثلاجة كما يحدث اليوم مع الموازنة وما يخص المحكمة الدولية
وغيرها من القرارات.
هذا يعتبر
تسللا للفكر الشمولي سيؤدي حتما الى موت الديمقراطية اللبنانية والرقص
بنعشها في شوارع دمشق وطهران.
وقبل أن
أدخل في لب هذه السلسلة لا بد من مدخل تاريخي أمهد به الطريق للوصول إلى
حقيقة الديمقراطية في لبنان.
فالديمقراطية اللبنانية ليست بنت اليوم، بل هي عريقة ومتجذرة عميقا في
الوجدان اللبناني وموغلةٌ بالتاريخ منذ ايام الفينيقيين، أي تقريبا منذ
ثلاثة آلاف عام. مع احترامي الكامل لكل شعوب الأرض وبالأخص شعوبنا
العربية الشقيقة، إلا أنه لا بد من القول ان حب التنافس والتحدي والعناد
والمغامرة والطموح والمثابرة وتحمل الشدائد كان وما يزال سمة من سمات
الشخصية اللبنانية الفريدة وصفة من صفات الإنسان اللبناني المحشور في
مساحة ضيقة من الأرض بين بحره الواسع وسلسلة جباله العالية.
وهكذا
فالفينيقيون لم يبنوا أهرامات كالفراعنة الأفذاذ للصعود الى السماء، ولم
يبنوا كالبابليين برج بابل العظيم في العراق، وإنما دفعت ضيق الارض وقلة
مواردها بهذا الانسان المثابر الطموح الى تفتيت الصخور وزرعها بالأشجار
المثمرة وتحويل سلسلة جباله الجرداء ومنذ القدم الى بلدات ومدن عامرة
بالخير والبركة والعطاء.
وهكذا
غامر اللبناني القديم متحديا بعناد أمواج البحر بسفنه محولا بشطارته
وتجارته وحنكته البحر البيض المتوسط في فترة من الفترات الى بحيرة
فينيقية. كُتُبُ التاريخ تشهد على ذلك.
وهكذا
وهذا الاهم. فالتنافس الحاد الذي كان على أشده بين الحواضر والممالك
الفينيقية وبالأخص صور وصيدا، تحول مع العصور الى تنافس ديمقراطي دفعهم
الى تأسيس طرابلس
في القرن
الثامن قبل الميلاد لتكون برلمان فينيقيا. ويقول الأستاذ جواد بولس في
تاريخ أمم الشرق الأدنى:
"أن
طرابلس قديما، كانت عبارة عن ثلاثة أحياء مسورة متحاجزة، هي حي الصوريين،
وحي الصيدانيين، وحي الأرواديين".
اسمها دليلها!
أليست
الديمقراطية هي في الاساس تنافس حضاري رياضي بين الاحزاب والقوى السياسية
المتنافسة للوصول الى سدة الحكم عبر صوت الناخب؟
ومن
فينيقيا الأم انتقلت فكرة التنافس الديمقراطي الى ابنة صور دولة قرطاجة
العظيمة في تونس التي
زالت
فيها
الملكيّة الوراثيّة باكراً وحلّت محلّها الملكيّة
الانتخابيّة.
وهكذا نجد
الدّولة القرطاجيّة تتّجه رويداً نحو الدّيمقراطيّة السّياسيّة
وتطبيق مبدأ سيادة الشعب،
من
خلال
مجلس
الشّيوخ
كرأس للدولة
ومجلس
المئة والأربعة أعضاء
المنتخب كمجلس نواب.
لا بد هنا
من التذكير ان كلمة ديمقراطية هي كلمة يونانية، كما أن ديمقراطية أثينا
هي الأشهر والأعظم في التاريخ. إلا أننا نعتقد، وكما أن الفينيقيين
وباعتراف اليونان، هم من نقل الحرف إليهم، فلا نستبعد أن تكون فكرة سيادة
الشعب عبر التنافس السياسي في الانتخابات بين القوى والأحزاب قد انتقلت
أيضا مع الحرف.
لننتقل
الى تاريخ لبنان الديمقراطي الحديث بتقاليده وثوابته الراسخة في دستوره
ومنذ نشوء الجمهورية عام 1926 وحتى اليوم. حيث كان هناك دائما كتل سياسية
مختلفة واحزاب تحكم واخرى تعارض.
ومن
التقاليد الديمقراطية العريقة في لبنان هو ذهاب الرؤساء إلى بيوتهم
كمواطنين عاديين بعد انتهاء فترة رئاستهم الدستورية ومنذ رئيس الجمهورية
الأول شارل دباس الذي انتخب عبر مجلس الممثلين وتولى الرئاسة من 1 ايلول
1926 وحتى 2 كانون ثاني عام 1934 .
قارنو هذا
مع ما يحدث حتى اليوم في العالم العربي حيث يجلس الرئيس على كرسي الحكم
من لحظة الاستيلاء عليها بانقلاب عسكري او ما شابه او وراثتها عن والده
الى لحظة مفارقته الحياة. أي التأبيد في الحكم.
مشكلة
الديمقراطية في لبنان نابعة بالدرجة الأولى من تدخلات بعض أنظمة الدول
العربية الدكتاتورية الشمولية المتواصلة والمتكررة في شؤونه. أي من موجة
أو تسونامي المد القومي الناصري إلى تسنامي المد الثوري الفلسطيني، إلى
المد البعثي السوري الأسدي إلى المد الايراني الظلامي الحالي في فرض
ولاية الفقيه المذهبية الشمولية البائسة على الصيغة اللبنانية الحضارية
الديمقراطية.
ولهذا لم
تكد الديمقراطية اللبنانية ترتاح من تداعيات المد القومي الناصري الشمولي
الذي لم يتراجع الا بعد إشعال ثورة 58 ضد حكم الرئيس المرحوم كميل شمعون،
الأ وكانت الموجات التسونامية الأخرى تحاول قبعه من اساسه.
وما زالت
الديمقراطية اللبنانية تتعرض للمؤامرات والطعنات من الظهر أي من النظام
الشمولي الدكتاتوري السوري ومنذ استقلال لبنان عام 1943 وحتى اليوم، وفي
هذه الأيام بشكل سافر وغير مسبوق من الوجه أيضا، من نظام الملالي الشمولي
الشيعي بقيادة "حزب الله" الإيراني فرع لبنان وباقي اذناب النظامين
الشموليين سوريا وايران في لبنان.
مشكلة قسم
كبير من اللبنانيين هو بتعاطفهم الصادق مع قضايا الأمة العربية من مشروع
قيام الوحدة العربية الى قضية تحرير فلسطين وبالتالي تصديق شعارات هذه
الدول الشمولية الشعاراتية المخابراتية الخبيثة والانقياد لها والعاجزة
هي بالتالي عن تحقيق الوحدة وتحرير فلسطين وحتى عن تطبيق نموذج ديمقراطي
حضاري نفخر به امام العالم. وتعمل بالتالي على التدخل في لبنان لتخريب
نموذجه الفذ.
مثلا
التدخل العسكري السوري في لبنان عام 76 جاء من الشقيق الكبير لوقف الحرب
وإعادة الهدوء وفرض السلام وانقاذ البلاد من الانقسام، الا انه ما لبث ان
تحول الى احتلال هدفه الأساسي ضرب أسس النظام الديمقراطي اللبناني.
التمديد البشاري للحود رغم إرادة اللبنانيين لهو اكبر دليل! |