أين كنا وأين صرنا يا دولة الرئيس؟
نتابع ما كتبناه البارحة تعقيبا على ما قاله دولة الرئيس
فؤاد
السنيورة
في الكويت 08.10.27،
خلال افتتاح الدورة
الحادية عشرة ل "مؤسسة جائزة البابطين للابداع الشعري.
حيث قال:
"
ان الأمة العربية ينبغي أن تكون قطبا جديدا في نظام عالمي متعدد الأقطاب،
قائم على المساواة والحرية والسلام والعدالة".
نعم يا دولة الرئيس والف نعم!
ومن منا لا يحلم بان يرى في حياته قبل ان يوارى الثرى دولة عربية مترامية
الأطراف من المحيط إلى الخليج :
- ديمقراطية، تعددية، دستورية، تحترم حقوق إنسانها وبالأخص أقلياتها، لكي
لا يتمردون، وكرامة مواطنيها، لكي لا يثورون، وتطبق القانون بالتساوي
على الحاكم قبل المحكوم!
- دولة عربية قوية مرهوبة الجانب غنية، بل قطبا جديدا في هذا العالم
المتعولم حول الأقطاب الكبرى، حيث لا مكان للدول الصغرى، والتي ربما
ستزول عن الخارطة قبل ان يزيلها أو يمحيها أحمدي نجاد!
ولكن حفاظا على واقعية الحلم. أي لكي يتحول الى واقع، لا بد من طرح
السؤال التالي: أين كنا وأين صرنا يا دولة الرئيس ؟
بل اين كنا في منتصف القرن الماضي وكيف اصبحنا في بداية هذا القرن ؟
بل وأين أوصلنا إستقلالاتنا التي حققناها بالتضحيات الهائلة والحروب
المدمرة والدموع الغزيرة والدماء الغالية؟
أين نحن اليوم من هذه الأحلام يا دولة الرئيس؟
أو بالأحرى أين كنا أيام الزعيم الكبير عبد الناصر وأين صرنا الآن ؟:
- حيث كانت إسرائيل تخافنا، وتستجدي مصافحتنا وتحلم بالسلام معنا!
- وحيث كانت غزة والضفة وإنشاء الدولة الفلسطينية، إن أردنا في أيدينا
وبسهولة ودون تضحيات! أين أوصلنا القضية الفلسطينية؟
واأسفاه على غزة التي نكبناها بأيدينا خدمة لإسرائيل!
- وحيث كان باستطاعتنا فرض السلام بشروطنا عليها ومن مركز القوة والمنعة
والكرامة الموفورة وحتى بعد هزيمة 67، وذلك بدعم وافر ومؤكد من جانب
القطب السوفيتي الذي كان يتبنى قضايانا بالكامل ويخيف العالم ان خبط
بقبضته على الطاولة!
ماذا كان ردنا على الهزيمة النكراء بعد ان حولناها الى نكسة عابرة؟
انفعاليا عاطفيا عنتريا شعاراتيا : لا تفاوض! لا صلح! لا اعتراف! اللاءات
الشهيرات الثلاث في التاريخ العربي الحديث، تحولن بعد اقل من نصف قرن
الى: نعم للتفاوض! نعم للصلح! نعم للاعتراف!
والمصيبة ان اسرائيل أصبحت تتدلل علينا، لأننا تفرقنا أيادي سبأ وأضعنا
ما كان بأيدينا من قوة.
واصبحنا متأخرين نستجدي السلام المهين بعد ان اختفى القطب السوفيتي
صديقنا الكبير، ولم يبق في العالم الا القطب الأمريكي الأوحد صديق
اسرائيل. الذي يتبنى سياستها العدوانية بالكامل، وان ضغط عليها فبرؤوس
الأنامل، لكي لا تتوجع!
- وحيث كان العراق دولة سيدة قوية مستقلة مرهوبة الجانب من الأعداء قبل
الأشقاء!
واأسفاه على استقلال العراق العظيم الذي ضيعناه بحماقات ورعونة الحكام
الأقزام؟
- وحيث كان السودان قارة عربية كبيرة مستقلة غنية فيها اجمل تنوع انساني:
عرقي وديني ولغوي وثقافي وتراثي وحضاري وقومي.
ماذا فعلنا بالسودان الكبير؟
انقلابا وراء انقلاب. واستبدادا وراء استبداد. وتهميشا للأقليات وعبثا
بحقوقها. إلى أن تحكم الإسلام السياسي في عهد النميري وقرر فرض الشريعة
في كل أنحاء البلاد واعلان الجهاد. أي فرض فكرنا الشمولي القومي الديني
والذي يرفض الآخر على الأقليات. النتيجة كانت تأجيج التمرد في الجنوب
المسيحي بدل حله ثم انتقاله الى دارفور الإسلامية محملا بالخراب والدمار
والمجاعات والكوارث ومئات الآلاف، بل الملايين من الشهداء الأبرياء
والجرحى والمعاقين والمهجرين. واليوم وحدة اراضي السودان على كف عفريت،
ولم نضيع استقلاله فحسب، بل واصبح رئيس السودان مطلوبا للعدالة الدولية
بسبب ما يحصل في دارفور من جرائم ابادة بشعة ؟
- وماذا عن الصومال الذي صار عبرة لمن يعتبر في ضياع الإنسان والأوطان؟
- وماذا عن استقال لبناننا الصغير الذي نعرضه للكوارث والمحن والضياع،
ونغامر به لتفترسه الضباع، ونزجه في حروب أكبر من طاقته بأطنان، دمرته
وأخرته عشرات السنوات الى الوراء ونعلنها بكبرياء انتصارات إلهية جوفاء؟
ويا لسخرية الزمن حيث البعض يريد منازلة امريكا في لبنان، والجيوش
الأمريكية تحد إيران النووية من كل الجهات!
والبعض الآخر يرتكب بحق الزعماء اللبنانيين أبشع الاغتيالات، راميا
التهمة بخفة على اسرائيل، في الوقت الذي هو نفسه من يحارب المحكمة
الدولية، وكأنه لا يريد محاكمة اسرائيل. تناقض نادر على طريقة جحا ليس له
مثيل!
ولهذا فهمُّ النظام السوري اليوم ليس قضايا وأوجاع الأمة العربية، بل فقط
الإفلات وبأي طريقة من المحكمة الدولية. ولهذا فهو يوظف كامل قدرات نظامه
المادية والعسكرية والمخابراتية من أجل تحقيق هذا الهدف تخريبا وزعزعة
لاستقرار لبنان.
معاناة طويلة وقصة لم تنته فصولها المأساوية بعد. واستقلال لبنان ما زال
في مهب العواصف ومزاجيات بعض المتهورين المغامرين.
وماذا عن تقدم الأمة بدل تراجعها، وتنويرها بدل تخلفها، وتحديثها بدل
ترهيبها، ووحدتها بدل تفرقتها؟
- حيث كانت في بداية القرن الماضي الحداثة والتحديث، والتقدم والتنوير،
والعصرنة ثوابت علمية مطلوبة غير مشكوك بأمرها تسير الهويدا بسلام دون
عفاريت تقطع طريقها في الظلام، وتفتك بها تشريدا من شيوخ العوام تحت ضوء
الشمس، وتنقض عليها كالوحوش المفترسة الخارجة من أدغال ما قبل التاريخ،
- وحيث كانت جمهورية لبنان الديمقراطية الصغيرة في الستينيات تعيش عصرها
الذهبي فكريا وثقافيا وعلميا وديمقراطيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا
وأمنا وسلاما وفنا راقيا حضاريا.
أي أن لبنان الصغير لو تركوه قطاع الطرق يتابع طريقه التقدمي بسلام لكان
نموذجا يحتذى به للعالم العربي وشعوبه من المحيط إلى الخليج وليس لأمريكا
أو الغرب. فالغرب ناجح ولا يحتاج إلى نماذج.
أذكر هنا قول الشهيد أنور السادات الذي قال جملته الشهيرة :" ارفعوا
أيديكم عن لبنان" وهو يقصد بذلك دول الرفض وكل التنظيمات الثورجية التي
خنعت كلها بعد أن أحرقت لبنان وزلزلت صيغته.
ماذا لو تابع لبنان طريقه الناجح بصيغته الحضارية العربية المسيحية
الإسلامية، بدل أن يدخلوه في متاهات مقامواتهم ومقامراتهم ومغامراتهم
الفاشلة وممانعاتهم الخانعة وهم يتفرجون عليه وهو يحترق في حرب تموز التي
أشعلوها من خلال أدواتهم المطيعة لهم إطاعة عمياء، وكأن الأمر لا يعنيهم.
ماذا لو تابع لبنان طريقه الديمقراطي الحضاري الناجح دون قطاع طرق
وقراصنة؟ ألا يكون ذلك حجة مقنعة بيد العرب أمام العالم على عقم فكرة
الصهيونية المبنية على النزعة الدينية اليهودية والتي هي عكس الصيغة
اللبنانية المبنية على التلاقي الحضاري بين المذاهب والعرقيات والديانات!
أين كنا في الستينيات، وأين أصبحنا في هذا الزمن المذموم ؟
أخطاء الستينيات التي لم نكترث لإصلاحها في وقتها حيث كان همنا المناطحة،
والمعاندة باللاءات الثلاث التي كانت فقط عنتريات دون سيوف، وفرسان دون
أحصنة، ومطاحن دون طحين، وإضاعة للفرص الذهبية العديدة التي كنا نملكها
دون تنازلات اليمة في حل الصراع سلميا مع اسرائيل.
هذه الأخطاء ندفع ثمنها في هذه الأيام دماءً وكرامة وتضحيات ومآس ودمارا
وغبارا وإضاعة استقلالات وتدمير دول كانت عامرة لتصبح غابرة. وللأسف
البعض ما زالوا يعيشون وكأن الدنيا لم تنقلب خلال القرن الأخير رأسا على
عقب.
مشكلتنا الكبرى أن طاقات معظم شعوب الأرض وأممها الناجحة موجهة في
الاتجاه الصحيح لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من نجاح وتقدم ومنعة وعزة
وقوة وازدهار في كل الميادين وعلى كل الأصعدة، بينما نحن العرب طاقاتنا
الهائلة مبعثرة في كل الاتجاهات وقوانا الحية موجه في الاتجاه الخاطئ
واحيانا كثيرة، الذي يعود بالضرر الفادح علينا. ولهذا لا عجب أن لا نفلح:
لا في حرب، ولا في سلام، ولا في وحدة، ولا في تقدم، ولا في بناء دولة
حديثة ديمقراطية نفتخر بها، ولم نستطع تحقيق هدف واحد من الاهداف التي
حلمنا بها بعد التحرر من نير الاستعمار، ولم نفلح الا في ميدان الإرهاب
الذي تحول الى عار أبدي على جبيننا وتهمة التصقت بنا واصبحنا بالتالي
ملاحقين ومراقبين ومكروهين ومنبوذين من كل دول العالم.
ما عدا القلة بالطبع من الدول كدول وامارات الخليج العربي التي استطاعت
الاستفادة من طاقاتها وتوجهت في الاتجاه الصحيح فحققت نقلات نوعية لافتة
وخلال زمن قصير، وازدهارا مرموقا، وتقدما ملموسا، وديمقراطية نامية لا
بأس به.
فكيف لو الدول العربية كلها سارت في الاتجاه الصحيح كما فعلت دول الخليج؟
نحن العرب اليوم مطالبون ببناء دول
ديمقراطية تحترم انسانها ليحترمها العالم!
علينا
ان نفكر بالانسان
في بلادنا
بدل ان نهدر دمه
في عبثية الحروب الخاسرة سلفا.
فالانتصار في حروب اليوم، لا يحتاج: لا إلى الرجال، ولا إلى الإيمان، ولا
الى المال، ولا الى دولة الاستبداد، وإنما إلى الذكاء والتقدم التكنولوجي
والحرية والدولة الديمقراطية.
فالتطرف لن يوصلنا الا الى
الهلاك النهائي،
وخنق كل احلام صغارنا في مهدها.
|