الواقع أنه من الصعب نجاح الديمقراطية في أي
بلد عربي، في المستقبل المنظور على الأقل، لأسباب كثيرة، أبرزها أن
الديمقراطية نبتة غريبة على المنطقة، إذ لا وجود لها في التاريخ أو الاجتماع
أو الثقافة أو الدين، وحظها قد لا يكون أفضل من حظ العلمانية أو الحداثة أو
التنوير.
فهذه المفاهيم شوهت أولا على مستوى "المصطلح"
إذ ربطت بالغرب والعمالة للغرب و"الغزو الصليبي" والاستعمار.. الخ. ثم صفيت
على مستوى الواقع، بأن تم عزل وإرهاب دعاتها، ومحاصرتهم على مستوى الثقافة
والتعليم والإعلام ومختلف وسائل الخطاب العام.
كي تنجح الديمقراطية في منطقة ما لا بد لها من
وسط مناسب وتربة صالحة. هذا الوسط هو الدولة، المواطنة، القيم المشتركة
والمؤسسات.
أيا من هذه العناصر لا يتوفر في البلدان
العربية. فالدولة هنا لا وجود لها إلا على الورق. أما في الواقع فهناك
القبيلة (العشيرة، العائلة)، الطائفة، الدين والمنطقة. الدولة العربية في
أبسط صورة لها هي طغمة حاكمة وعبيد. وبالطبع لا يمكن بناء دولة بهذه
المواصفات، ولا يمكن تصور أن توجد مواطنة دون مواطنين. فالعلاقة في الدولة
العربية هي علاقة "طغمة بعبيدها" أو "شيخ القبيلة برعاياه"، أو "رجل الدين
بأتباعه".
المواطنة أساسها المساواة أمام القانون، يستوي
في ذلك من هو في الحكم ومن هو في المعارضة ومن هو في الشارع. وفي الدولة
الحقيقية يعامل المواطن باعتباره كيانا بذاته، بغض النظر عن أصله أو انتمائه.
في الدولة العربية لا وجود لمثل هذا المواطن. الإنسان في هذه الدولة يعرف
بانتمائه العائلي أو القبلي أو الطائفي أو الديني أو الجهوي. فيقال لتعريف
الشخص "ابن فلان، من عائلة فلان، من قبيلة فلان، من منطقة كذا.. الخ".
فالدولة العربية هي حصيلة اجتماع كتل اجتماعية
(قبائل، طوائف، أديان.. الخ) وليست حصيلة مجموع مواطنيها.
ولما كانت الديمقراطية لا تنشأ ولا تنجح إلا في
مجتمع المواطنين، فقد استحال تطبيقها في المجتمعات العربية.
وبالمثل ليس صعبا استنتاج انعدام وجود قيم
مشتركة بين من يعيشون بين ظهراني هذه الدولة العربية، فما الذي يمكن أن يجمع
بين الطغم والعبيد أو بين هذه الكتل الاجتماعية المتنافرة من الطوائف
والقبائل والأديان، والتي تعيش مرغمة على الانضواء تحت هذه المظلة القسرية،
مظلة شيخ القبيلة أو الطائفة أو الطغمة.
وما الذي يمكن أن تعنيه الديمقراطية بالنسبة
لأي عربي أو مسلم يعيش في هذه الدول العربية أو تلك؟.
من المفارقات أن الكثير ممن يعيشون في هذه
الدولة يلهجون بذكر الديمقراطية، صبح مساء، ويطلبونها كما يطلب العليل حبة
الدواء. لكنك لو سألت أي من هؤلاء لماذا تريد الديمقراطية، أو ما الذي تعنيه
لك الديمقراطية، لسمعت إجابات، لا عد لها ولا حصر، ليس من بينها أي إجابة لها
علاقة بالديمقراطية.
السبب هو أن أبناء الطائفة أو القبيلة
المستضعفة والمظلومة، أي عموم العبيد، في الدولة العربية، يريدون أن يرفعوا
الظلم وأن يتحرروا من سيطرة الطغمة الحاكمة، وهم يتصورون أن الديمقراطية
ستقدم لهم مثل هذا الخلاص. هم يريدون أن يعيدوا الاعتبار لأنفسهم ويصبحوا
سادة قادرين على اضطهاد باقي العبيد. أي أن العبيد الحاليين يريدون أن
يتحرروا. وليس صدفة أن الحماس للديمقراطية كلفظ يتناسب عكسا مع وضع الطائفة
أو القبيلة أو الدين أو الجهة في هذه الدولة. فكلما تدنى وضع هذه الأخيرة
ازداد حماسها للديمقراطية وكلما علا وضعها انخفض حماسها.
أما إذا طرحت لهم الديمقراطية كخيار نهائي
بجميع متطلباتها، فإن جميعهم يرفضونها، سواء باسم الدين أو باسم الخصوصية أو
باسم الحفاظ على العادات والتقاليد أو باسم العداء للغرب ولأميركا أو بأي اسم
آخر.
إنهم يريدون أن يتحرروا فحسب من ظالميهم، لكي
يظلموا غيرهم، وليسوا يريدون الديمقراطية.
ولذلك رحب العراقيون بقيام الولايات المتحدة
بتحريرهم من صدام حسين وعائلته، لكنهم رفضوا الديمقراطية وسيقاومون أي محاولة
لتطبيقها.
والمؤسف أن الأميركيين لا يزالون يحلمون
بالديمقراطية هناك، من دون أن تستوقفهم مئات وآلاف الأمثلة اليومية التي تحدث
أمام أعينهم وتؤكد عكسها. أحدها سمعته مؤخرا بالصوت على سبيل المثال وليس
الحصر. هو رئيس قسم شرطة النجف، المكلفة باعتقال مقتدى الصدر، ولكونه شيعيا
فإنه حين يذكره لا يقدر سوى أن يقول "سماحة السيد مقتدى الصدر حفظه الله"!
ومثلها حقيقة أن جزءا من أفراد الشرطة العراقية الجديدة انضم في الأحداث
الأخيرة إلى جانب عصابات مقتدى الصدر.
الحقيقة أنه ينبغي شكر الولايات المتحدة على
تحرير العراق من صدام، ولما تزمع أن تفعله في المستقبل لتحرير باقي العبيد
العرب من قبضة الطغم الحاكمة التي تمسك برقابهم، وحيث أنه كما ثبت الأمر، ليس
من أحد في العالم، باستثناء الولايات المتحدة، قادر أو راغب على القيام بهذه
المهمة، فقد وجب شكرها