نبيل
فياض، 13 فبراير 2004
لا مجال
للجدل بأن أفعالاً محدّدة ليس لها مكان في المنظومة المعرفيّة الإسلاميّة
الأرثوذكسيّة: أبرزها ـ صار، أصبح، أضحى، تغيّر، تحوّل.. إلخ. بالمقابل،
ثمّة أفعال أخرى لها في المنظومة ذاتها مكانة لا تحتلها في أية منظومة
غيرها، باستثناء اليهودية الأرثوذكسيّة ربما: أبرزها ـ سرمد، أبّد، دام،
استمرّ.. إلخ. فالإسلام، لأنه يتناول الحياة بأدق تفاصيلها "من منظور
الأبديّة"، لا يستطيع فهم التحوّل بفعل الظروف الزمانيّة المكانيّة. ولأن
لا شيء في الحياة البشريّة يمكن أن يدوم أو يتكرّر بالدقّة ذاتها في كلّ
زمان ومكان، ولأن الإنسان كما يقول الشاعر الكبير، لوبيه دي فيغا، "أنا
أكون أنا وظروفي"، فالاختلاف جوهر الطبيعة البشريّة: لأن ما من بيئة
زمانيّة أو مكانيّة تشابه الأخرى، مهما تقارب التاريخ والجغرافيا. من هنا
يمكن القول، إن أسوأ ما جاء به الإسلام من مفاهيم هو التعميم: اعتبار
الناس سواسية كأسنان المشط.
الفكرة في
الإسلام
ـ
التي تخدم أصحابها طبعاً ـ هي الأساس: والإنسان تحصيل حاصل. في كلّ
الأيديولوجيّات التي تضع الإنسان على رأس أولوياتها نجد أن "باترون"
الفكرّة يقصّ بحسب البشري: في الإسلام الإنسان يقصّ وفق "باترون" الفكرة.
المنطق الأخلاقي يقول، إنه من المعيب قصّ يديّ الكائن البشري أو ساقيه أو
حتى رقبته إذا كانت غير متناسبة مع باترون الفكرة؛ لكن الإسلام استأصل
شعوباً وثقافات وحضارات لأنها، في نظره، كانت مناقضة لمنظوره للكون
والبشريّة. ألم يقض الإسلام جذريّاً على الحضارة الزرادشتيّة العظيمة في
إيران؟ ألم يستأصل الإسلام القوميّة الآراميّة ـ السريانيّة الراسخة من
وطنها الأصلي: سوريّا؟
ألم ينه
ماضي مصر القبطي الهلنستي الأعرق، باستثناء جزر صغيرة لا وزن لها، بضربة
واحدة من قبضته القاتلة؟ لم يفعل الإسلام ما فعله بقدراته الفكريّة أو
الثقافية (هل ننسى حرق المكتبات الذي بدأ مع عمرو بن العاص في
الاسكندريّة ولم ينته مع صلاح الدين الأيوبي في مكتبة الفاطميين
القاهرية؟)، لأنه باستثناء حفنة متشظيّة من الميثولوجيات الهاغاديّة
الأصل وبعض هالاخوت مملّة، لا ثقافة في الإسلام ولا من يحزنون؟ إنّ ما
حدث في مكّة حين اقتحمها جيش المسلمين، وقتل بعض المكيّين حتى وإن
تعلّقوا بأستار الكعبة [أغلب من قتل كان سببه إيذاء غرور محمد عبر شكل
انتقاد له لم يعجبه]، هو الدليل الأبرز على عنف المسلمين في ذبح البشر
على عتبة الفكرة. لماذا يبدو المسلمون هم الأعنف،على الدوام، في ترويج ما
يعتقدون أنه أفكار هامّة؟ أبسط تعليل هو الضعف! فهشاشة الفكرة الإسلاميّة
عموماً، تجبر معتنقها على فرضها بالسيف، لأنها لا تمتلك قوة الفرض
الذاتي. أي عاقل في هذا العالم يمكنه تصديق قصص الطوفان والخليقة وآدم
وحواء وقابيل وهابيل والإسراء والمعراج، خاصّة بعد شيوع علم الدين
المقارن ومعرفة الأصول اليهودية لما اعتقد أنه تراث إلهي أصيل؟! من
يستطيع الآن قبض مسألة الخلافة الإسلاميّة بعد انتشار التعليم واستذكار
الناس كتب
التراث
الإسلامي التي لا تحتوي غير الإرهاب والمؤامرات والعهر المقدّس وانتهاك
أبسط حقوق الإنسان؟ من
باستطاعته تصديق الأصل الإلهي للشرع الإسلامي بعد ما كتبه شاخت وكرونه
وغيرهما؟ إنّ الضعف الذي يعيشه المسلمون حاليّاً هو الحظ الأفضل للبشريّة
منذ خمسة عشر قرناً. فلو كان المسلمون أقوياء، كما كانوا زمن عمر بن
الخطّاب مثلاً، لفرضوا أفكارهم "ذات المنظور الأبدي" على سائر البشر،
بغضّ النظر عن الفوارق الثقافيّة وغير الثقافيّة بين الشعوب! تخيّلوا
مثلاً نساء الدانمارك بالبرقع ورجال موسكو بالجلباب الوهابي القصير؟
تخيلّوا مثلاً تطبيق حدّ الزنا في مانيلا أو بانكوك أو كمبالا؟ سنضطر
حتماً لاقتلاع جبال الهيمالايا من مكانها! تخيلوا مثلاً تطبيق الشريعة
الإسلامية السمحاء في كوريا أو اليابان وسوق النساء كالخنازير
الصغيرة خارج سوق العمل إلى مواقعهن الطبيعيّة كحريم! تخيّلوا مثلاً
تطبيق الشريعة الإسلاميّة في الهند! وفي الإسلام لا وجود لأي دين خارج
إطار الثلاثي المرح المعروف! يعني سيساق ملايين الهندوس والسيخ والبوذيين
من الوثنيين إلى المسلخ إلا إذا اعترفوا بالإسلام ديانة لهم ولأبنائهم من
بعدهم!! تخيّلوا مثلاً أن يغزوا المسلمون الصين ويفرضوا الشريعة
الإسلامية في وطن المليار نسمة: باستثناء أقليّة مسلمة صغيرة، سوف يفرم
المليار صيني إذا لم يتخلّوا عن الشيوعيّة الملحدة
ـ
والعياذ بالله
ـ
أو الكونفوشيوسيّة الوثنيّة أو البوذية الشركيّة أو الطاويّة الكافرة!
فكلّ هذا الهراء لم يخلقه الله، لأنه لم يعلم نبيّه محمداً به! بل
تخيّلوا أن يغزو المسلمون فرنسا! أوّل ما سيقومون به رجم بريجيت باردو
وصوفي مارسو وإيزابيل أدجاني وغيرهن من فنانين ومثقفيّن وأدباء علمانيين!
وبعدها يخيّرون الشعب الفرنسي بين الإسلام أو الموت: فالله سبحانه لم
يورد في كتابه العزيز أي شيء عن العلمانيّة!
تخيّلوا
مثلاً إذا احتل المسلمون إيطاليا وقاموا بفرض الهالاخوت المحمدي على وطن
الفن والجمال! كم من التماثيل الرائعة، التحف الفنيّة النادرة، اللوحات
الكنسيّة التي لا تقدّر بثمن ـ ستعرف طريقها إلى الدمار! كما فعل بنو
طالبان بتماثيل بوذا!
تخيّلوا
أن تكون أفغانستان الطالبانيّة بقوة الولايات المتحدة! ماذا يمكن أن يحل
بالعالم! بل تخيّلوا أن تكون السعودية الوهابيّة بقوة أمريكا! لقد دخل
الأمريكان العراق، ولم نسمع للحظة عن أي نوع من التبشير المسيحي في البلد
الذي يقولون إنه محتل؟ فماذا لو كانت السعودية الوهابيّة هي التي غزت
الولايات المتحدة؟ وحده الضعف الإسلامي، العسكري ـ الاقتصادي ـ المعرفي ـ
السياسي، هو الذي يجبر المسلمين على ليّ أفكارهم أمام الآخر المخالف!
سؤال يطرح نفسه هنا: هل يبيح الإسلام للمسلم العيش مسالماً في دولة
كافرة؟ الجواب البسيط للغاية: لا! واجب المسلم تجاه الكافر إمّا أن
يؤسلمه أو يقتله! [هل يمكن أن نستذكر حكاية إسلام أبي سفيان؟] إذن ما هو
مبرّر المسلمين العيش في فرنسا العلمانيّة خاصة إذا عرفنا أنها تجبرهم
بحذاء
القانون
على التخلّي عن سلاحهم الاحتجاجي الأخير؟ ما هو مبرّر المسلمين على العيش
في بلد وثني ـ هندوسي، خاصّة أن الهندوس يعملون ما بوسعهم لتبشير
المسلمين بديانتهم الوثنيّة بحجّة أنها ديانة الهند القوميّة ويحققون في
ذلك نجاحات ليست بسيطة؟ بل لماذا يستنكر "علماء" المسلمين أي تطبيق
للعلمانيّة في بلاد ذات غالبيّة إسلاميّة ويرحبّون بذلك في بلد هم فيه
أقليّة مثل بريطانيا أو الهند؟ وإذا عرفنا أن "المانو سمرتي"
يحدّد بدقّة للهندوسي شرائعه الحياتيّة، فماذا لو فاز في الهند حزباً
أكثر تطرفاً من بهاراتا جاناتا، الذي توقعنا في كتابنا حوارات عام 1992
أن يفوز بسبب التطرّف الإسلامي الذي لابدّ أن يخلق تطرّفاً موازياً،
وأجبر الهنود، تحت رايات الغالبيّة، التي فلقنا بها شيوخ المتعة في إيران
والعراق، على الالتزام بالشرع الهندوسي، بغضّ النظر عن الانتماء الديني
أو الفكري؟ أليست إيران الخمينيّة، وعراق آل الحكيم، يطبقّان ما يعتقدان
أنه شرع إلهي على من آمن بهذا الشرع ومن لم يؤمن به؟
بالمناسبة، نحن نعتقد أن بداية الصدام بين الحضارات، التي يروّج لها
الإسلاميّون وغيرهم من متطرّفي الغرب، لابدّ ستكون في الهند: حيث الفقر
والتخلّف بين الهندوس، والانغلاق المعرفي الذي هو هويّة إسلاميّة حيث
يكون المسلمون. إنّ أبسط ما يمكن قوله حول الحركات المتشدّدة الإرهابيّة
الإسلاميّة، كأسباب ثقافيّة، هو أنها ردّة فعل على انهزام الفكرة أمام
الإنسان. لقد أُجبر الإسلام، بقوة العقل والمنطق، على اتباع طريق التفافي
نفاقي لضمانية استمراره، فضعفه لا يساعده على المواجهة، الآن على الأقل.
وكلّ النصوص التي يوردها مشايخه الرسميّون ووعاظ السلاطين لا تستطيع منع
الحقيقة الأساسيّة من أن الفكرة تداس لغايات الاستمرارية: فالنص الأصلي
المقدّس، غير القابل للتغيير، في المضمون أو الفهم، يرفض أي نوع من هذه
المقاربات المشايخيّة الرسميّة السلميّة مع ما هو بنظر الإسلام كفر صريح،
حتى وإن كانت في سبيل اللافناء. وهذا الصدام بين الفهمين: فهم وعاظ
السلاطين ومشايخ السلطة النفعي الالتفافي النفاقي المقحم على جوهر
الإسلام، وفهم الحركات الأصوليّة الإرهابية الحرفي الدقيق الملتزم بأصول
الدين الفعليّة، في النهاية، هو صدام بين الفكرة والإنسان: بين الفهم
التغييري وإن كان بقوة المنطق والظروف، والفهم السكوني الذي لا يستوعب
ما يمليه الزمان والمكان من تبديلات لا مجال لردّها. ما نعتقده هنا هو
أنه كلّما ازداد المسلمون انفتاحاً في مسألة لا مطلقيّة مطلق فكرة، كلّما
ازدادت وقويت التيارات الأصوليّة المتعصّبة الإرهابيّة في الدول ذات
الغالبيّة الإسلاميّة، وانعكس ذلك سلباً على الجو العالمي عموماً. كلّ
الكون في أزمة اليوم. ليس
السبب
الإرهاب الأصولي أو العقليّة التكفيرية أو قوة الوهابيين النفطيّة: السبب
معرفي تربوي؛ وإذا كان المرء في كليّة الشريعة
ـ
جامعة دمشق عاصمة سوريّا، التي يفترض أنها وطن التعدّدية الأقدم، وأول
موطيء قدم في الشرق للفكر الحداثوي، ما يزال يتعلّم رفض الآخر تحت رايات
المفاهيم المقدّسة؛ فكيف بالأحرى يمكننا مطالبة السعوديين البدو بأن
يغيّروا نمط تفكيرهم الوحداني الذي أعطاهم هوية وحقيقة بين شعوب الأرض؟
وحتى تتغير طرائق التربية والتعليم في الدول ذات الغالبيّة الإسلاميّة،
حتى ينتج الإسلام منظومات فكرية تقبل بالآخر حقيقة لا نفاقاً، حتى يصبح
الله على قدم المساواة مع بوذا وبراهما وأهورا مازدا: سيظل الإرهاب
قائماً والعنف مستشرياً أخيراً، لا أستطيع سوى أن أشكر أستاذي ومعلّمي
الأب من رهبنة الآباء البيض، البلجيكي ألفرد هافنت، الذي علّمني بصبر
ودقّة أفضل ما حصلت عليه في عمري حتى الآن: أقصد، لاهوت
الصيرورة. ومجتمع خرج منه وايتهد، سيّد الصيرورة المعاصر، لا يمكن أن
نخشى عليه من الانحدار الحضاري.
نبيل
فيّاض؛ الناصرية،
7 فبراير 2004