مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
الأستاذ عبد الحليم خدّام:
إلى أين ستقودون الدولة والمجتمع؟
نبيل فياض، 20 سبتمبر 2004
قبل الخوض في أيّة تفاصيل، لا بدّ من الاشارة إلى مجمل تغييرات تجتاح سوريّا
منذ أكثر من عام، لا يمكن تقنين مسبباتها في عامل وحيد، مهما كان هامّاً،
محليّاً أم إقليميّاً أم دوليّاً؛ ومن تلك التغييرات يمكننا الوقوف عند
الأمور التالية:
الانفتاح الايجابي على العقليّة النقديّة غير العميلة خاصّة من قمّة الهرم
السوري؛ والتراجع الملموس للعقليّة الانتهازيّة، التي يمثّلها المتبعّثون
بأفضل ما يمكن، والتي طالما أخفت أغراضها النفعيّة تحت قناع نظريّة المؤامرة
أو الصراع مع قوى لا نعرف أين تبدأ ولا كيف تنتهي: وحين تكون القمّة إيجابيّة
نقديّاً، يصعب على من هو دون القمّة اتخاذ مواقف مخالفة، خاصّة وأن النَفَس
العالمي العام لم يعد يتقبّل إطلاقاً العقليّة الأحاديّة؛ ولم يعد في وسع
أيّة دولة أيضاً أن تعيش ضمن ستار حديدي على الطريقة الكوريّة الشماليّة،
وبشكل محدّد إذا كان وضعها الجيوسياسي يفرض عليها عكس ذلك؛
التغييرات الجذريّة في صفوف القوى الأمنيّة، كالأمن الجوّي على سبيل المثال
لا الحصر، واستبدال العسكريين الأميين تقريباً والذين كانوا يتعلّمون فقط عبر
نظرية التجربة والصح والخطأ من الذين احتلوا مقدمة الصفوف أمنيّاً زمناً
طويلاً، بأشخاص لا تنقصهم الخبرة العمليّة ولا الثقافة الواسعة المدعّمة
بشهادات عالية أكاديمياً، الأمر الذي يعني تفهّماً أفضل لصيرورة التغييرات
التي تعصف بالمنطقة على كافة الأصعدة؛
وصول قطاع كبير من الدولة إلى الاقتناع أخيراً بأن مجموعة المثقفين النقديين
ليسوا معادين "للوطن"؛ ورغم كلّ ما يقوم به المتضررون من تعميم العقل النقدي
سوريّاً، فالوضع حتى الآن مريح، بل إنّه يتقدّم باستمرار، وإن ببطء ودون
مستوى التوقعات؛
اقتناع غالبيّة الناس أن أحد أسباب الوضع غير المرضي الذي نعيشه اليوم هو
الانتهازيّة-الشعاراتيّة لمجموعة المتبعثين الذين لا همّ لهم غير مصالحهم
الخاصّة: وأية جولة في سوريّا، ريفاً ومدينة، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن
رموز التبعّث لم يكن همها غير تسويق شعارات لا يؤمن بها أحد "فقط" لرفع
رصيدها المصرفي-العقاري-الرأسمالي!
في حديثه الأخير إلى إحدى الدوريّات السوريّة، قال الأستاذ عبد الحليم
خدّام، نائب الرئيس السوري، إنّه يعارض تغيير القانون السوري، خاصّة الفقرة
التي تقول إن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع! وبذلك أثبت الأستاذ خدّام،
بكلّ أسف، صحّة ما نقوله دائماً، من أنّ بعض السياسيين السوريين، يقفون على
يمين الجميع، بما في ذلك المؤسّسة الأمنيّة! إضافة إلى ما سبق، فقد أثبت
هؤلاء السياسيّون أنهم يفتقدون إرادة فهم أن العالم تغيّر بالكامل بعد سقوط
الكتلة السوفيتيّة وبرجي التجارة العالميين! – مع ذلك، فالأستاذ خدّام،
كسياسي خُضرم أكثر من أيّ شخص آخر في القيادة السوريّة، لا يمكن أن ينطبق
عليه ما قلناه باستمرار حول قضيّة التغيير وإرادته؛ إذن، لماذا يأخذ تلك
المواقف اليمينيّة غير المبرّرة من مسائل حُسمت في بلدان من نمط بوركينا
فاسو، التي فيها أكثر من ثلاثين حزباً تتطاحن في سبيل الوصول إلى السلطة؛ وما
الذي يدفع به إلى الإصرار على أن حزبه "يجب" أن يظلّ قائد الدولة والمجتمع؛
وهل أنّ حزب البعث مؤهّل أيديولوجيّاً للاستمرار كقائد لدولة تغيّرت ظروفها
للغاية منذ عام 1963، ولمجتمع متحرّك بطريقة أقرب إلى الأمواج العاتية على
شاطيء بانياس؟
إذا جعلنا الأخير أوّلاً، وانطلقنا من نقاش موضوعي لمسألة المنطلقات
العقائديّة الأبسط لحزب البعث العربي الاشتراكي، لكانت النتيجة مفجعة: فقد
طرح هؤلاء مقولة "وحدة، حريّة، اشتراكيّة"، فإلى أي مدى كانت هذه المقولة
قابلة للتطبيق، بل إلى أي مدى ساهم البعثيّون في تعميم هذا الشعار عربيّاً،
أو تنفير الناس منه؟ دون أدنى شك، فالحدود القطريّة العربيّة، باعتراف
الجميع، مسألة تخطيط مصلحي غربي أوّلاً وأخيراً: ومن يعرف تاريخ "لبنان
الكبير"، على سبيل المثال، يدرك دون جهد يذكر أنّ مسألة الحدود النهائية لهذا
القطر أو ذاك لا علاقة لها، إطلاقاً، بأي من المكوّنات الأساسيّة للشأن
القومي! إنّ من درس تاريخ المنطقة في الخمسين سنة الأخيرة، وشاهد بأم العين
تصرّفات البعثيين في الكويت أو لبنان حيث تمّ التصرّف في الحالتين كاحتلال
كولونيالي استبدادي في ما يفترض أنه قطر شقيق، يفهم سبب نفور الشعبين الكويتي
أو اللبناني من قضيّة الوحدة إياها، ويعترف لنفسه على الأقل بالتالي أنه إذا
كان الأوربيون قد رسموا الحدود العربيّة على الورق، فإن البعثيين وغيرهم من
ناصريين وما شابه، بتصرفاتهم التي يعرفها الجميع، رسموا الحدود في القلوب
والأعين! الحريّة، من ناحية أخرى، قضيّة لا تثير في النفس، حين تذكر بعثياً،
غير الشعور بالغثيان: هل ثمّة مبرّر لذكر فظائع الطاغية صدّام حسين بحق
الحريّة في العراق؟ هل ثمّة مبرّر للترحم على الديمقراطيّة-الليبراليّة
الوليدة التي عرفتها سوريّا زمن ما أسموه "الانفصال"، والتي كان يمكن لو أنها
استمرّت أن لا يصل البلد إلى سلسلة الانهيارات التي يعرفها حاليّاً؟ هل ثمّة
مبرّر للتذكير بالإنهاء التعسّفي لكافة أشكال الحريّات بعد وصول البعثيين إلى
السلطة عام 1963؟ هم احتفظوا بالحريّة لأنفسهم، ومنعوها عن غيرهم في ظل
الشعارات الكبيرة التي ملّها الناس: وفي هذا كانوا التنظيم الأكثر انسجاماً
مع مبادئه والأكثر تناقضاً مع الحريّة كفعل أخلاقي! أمّا الاشتراكيّة فحدّث
ولا حرج: وكما قلنا باستمرار، فرموز التبعّث، بعد أن سرقت القطاع العام في ظل
الشعارات [شعارات ليس إلاّ] الاشتراكيّة، استدار أبناؤهم الآن لسرقة الشعب
كلّه عبر مشاريعهم الرأسماليّة التي يمولونها من النقود التي سرقها آباؤهم
الاشتراكيّون! هل ثمّة من يؤمن اليوم بالاشتراكيّة في المنظومة البعثيّة؟ هل
أن الأستاذ خدّام، وأولاده وبناته، يؤمنون فعلاً بالاشتراكيّة؟ من تصريحاتهم
وممارساتهم الكثيرة يظهر هؤلاء وكأنهم أعتى أعداء للاشتراكيّة: فلماذا تاجروا
بنا كلّ هذه المدّة بشعار انتهى بالتقادم، واستداروا إلى النقيض تماماً
ليتاجروا بنا من جديد؟
إن كبت الحريّات وتغييب النقد البنّاء ومنع الشفافيّة تحت عناوين لم يعد
زيفها خافياً على أحد، إضافة إلى التهام القطاع العام بتدريجيّة مدروسة لصالح
الرأسماليّة الفاسدة الوليدة هو المبرّر الأهم برأينا لإصرار بعضهم على الدور
الريادي للبعث في قيادة الدولة والمجتمع! بالمقابل، فنحن نقبل بهذا الدور،
شريطة الحفاظ على حقوق غير البعثيين، إذا قالت صناديق الانتخاب "الحرّة"،
بالمعنى المتعارف عليه دوليّاً، كلمتها، وأعلن معظم الشعب على رؤوس الأشهاد
أنه يوافق على استمراريّة حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع!
في ظل الاشتراكيّة إياها، أشاد الأستاذ عبد الحليم خدّام قصوراً أين منها
حكايا ألف ليلة وليلة تحتاج إلى دخل رأسمالي لا مثيل له في بلد حيث أكثر من
نصف السكّان يعيشون تحت خط الفقر؛ في ظلّ الاشتراكيّة إياها أشاد أولاده
مصانع "عصيّة على النقد بسبب تقنين الحريّة البعثي الشهير"، افتتحوا مطاعم
ومجلاّت – وجوب التمظهر التثاقفي – لا يجرؤ أحد على سؤالهم "من أين لك هذا؟"،
وتناثرت حولهم الأقاويل في الداخل والخارج دون أن يسمح للشعب-الزوج المخدوع
بأن يعلم شيئاً وإن كان "الآخر"!
مما لا شكّ فيه، أن البلدات والمدن السوريّة تتأثّر للغاية بشخص من يخرج منها
من رجالات سلطة: وكلّ من يقارن دير عطيّة، القريّة الصغيرة السوريّة التي
أوصلها مسئول أوحد إلى مصاف قرية سويسريّة "دون مبالغة"، ببانياس التي قدّمت
للقيادة السوريّة ثلاثة من أبرز رموزها، ومنهم الأستاذ خدّام: بانياس التي لا
تشبه بأصوليتها وتخلّفها غير كابول طالبان، يفهم تماماً لماذا يريدون أن
يظلوا قادة للدولة والمجتمع!
الأستاذ خدّام، المحامي المثقف الذي نعرف جميعاً أنه الأبعد عن الأصوليّة،
الفيروس الذي يندر أن تجد سوريّاً وقد نجا منه، مطلوب منه في هذه المرحلة،
خاصّة وهو يعرف تماماً أن الوطن باق وكلّ ما عداه زائل، أن يعمل جاهداً على
تغيير هذه الفقرة تحديداً في الدستور، من أجل إقصاء المتبعثين الانتهازيين عن
رقاب الناس من ناحية، وإشراك الشعب كلّه في عمليّة بناء الوطن من ناحية أخرى. |