مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
هل نعمل في إسرائيل؟
نبيل فياض، 28
أغسطس 2004
في شتاء 1997،
رافقت أحد أقاربي، السيّد تميم دعبول، الذي كان وقتها ملحقاً ثقافيّاً
سوريّاً في
البرازيل،
إلى بلدة
القبو، التابعة لمحافظة حمص؛ وكان الهدف من الزيارة إيصال بضع ألوف من الدولارات
إلى أسر هناك يعمل أبناؤها في البرازيل، ضمن البعثة الدبلوماسيّة السوريّة
إلى بلد السامبا.
ولمّا سألت
السيّد دعبول عن النشاط الذي يقوم به هؤلاء في سبيل تقديم الوطن إلى من لا
يعرفه؛ قال: يسكرون في الليل، ويطاردون البرازيليّات في النهار! ولمّا
استنكرت أن تذهب نقود الشعب بهذه الطريقة السافلة، واستفهمت عمّن يقف خلف هذه
الظاهرة المرضيّة؛ قال: هؤلاء مرسلون "تنفيعة" من قبل صديقك المثقّف التقدّمي
اليساري الوطني، مسئول القيادة القطرية البعثيّة، "الدكتور" – لا أظن أنّ
شهادته من خارج المنظومة الشيوعيّة التوتاليتاريّة – أحمد ضرغام!!!
ورغم أن
كويتباً لم يسمع به أحد من أذناب مفتينا، الرئيس الفخري لكنيسة صن ميونغ مون،
ادعى أنّ ما ذكرته عن أكبر الفاسدين في سوريّا، صديق أحمد ضرغام، المدعو بشير
نجّار، كان تلفيقاً؛ بل وطالب كويتبنا الديمقراطي المخابرات، التي يكفّرها
وأمثاله خمس مرّات في اليوم، بوضع حدّ لي لأني تجاوزت كلّ الخطوط الحمراء؛
فإني أتحدّى الجميع، خاصّة هذا "الضرغام" البعثي الآيل للسقوط، مع قيادتيه،
أن يكذّب حرفاً مما أكتب على صفحات السياسة وبيروت تايمز!
هذا الحديث
أورده بمناسبة منع كتابين لي، أخذا من الجهد والوقت أكثر من سنوات ست، على يد
مفكّرنا الكبير والمنظّر الأيديولوجي البعثي، الرفيق أحمد ضرغام. والعملان
هما: حكايا الطوفان، الذي يناقش قصص الطوفان الدينيّة-الميثولوجيّة من
سومر إلى مير مح؛ والثاني قصّة النبي ابراهيم بين الوثائق الدينيّة
والتاريخيّة، والذي استندت فيه إلى آخر ما كتبه توماس تومبسن، أستاذ
العهد القديم الدانمركي، زئيف هرتسوغ، الأركيولوجي الإسرائيلي الشهير، في
المسألة؛ وهاينريش شباير، أستاذ الدين المقارن الألماني!الأطرف أنّ الكتاب
الأوّل، أي حكايا الطوفان، سبق وأخذت الموافقة عليه من قيادة أحمد
ضرغام القطريّة الحكيمة لكني كنت أضع على الغلاف اسماً آخر كمؤلّف؛ وقد فُقدت
(!!) الموافقة في دار النشر التي كنت أنطت بها طباعة الكتاب ثم تراجعتُ عن
ذلك لأسباب ذاتيّة؛ ولمّا أعدت العمل لأخذ الموافقة باسمي، منعه الرفيق
البعثي المثقّف، لأني، وكما ذكرت عشرة آلاف مرّة، رفضت العمل مخبراً عند
صديقه الأفسد، بشير نجّار!
عام 1997،
زارتني في دمشق الباحثة الدانمركيّة الشهيرة، باتريشيا كرونه، وكانت برفقة
أحد الباحثين الإيرلنديين من جامعة كامبرج! ولمّا سألت السيّدة كرونه عن
طريقة تعرّفها إلى أعمالي؛ قالت: إنها وجدت كتبي حول الدين المقارن، الممنوعة
بالكامل في وطن الحرف، سوريّا، في جامعة بار إيلان في إسرائيل! بل إنّ السيدة
كرونه، التي تركت بعدها كامبرج إلى برنستون في الولايات المتحدة، أصرّت علي
إكمالي ما بدأه أفراهام غايغر وهاينريش شباير ويوسف هوروفيتس في ألمانيا،
بمشروع يتناول التقاليد الإسلاميّة ما بعد القرآنيّة وعلاقتها بالهاغاداه
[القصص اليهوديّة من التلمود والمدراش والتوراة وغيرهم] كون الباحثون
المذكورون آنفاً توقفوا فقط عند النص القرآني في أعمالهم التي لا تخرج عن
دائرة الدين المقارن! ولمّا كانت السيّدة كرونه تحاضر أحياناً في الجامعة
العبريّة في القدس وتكتب في المجلّة الصادرة عن تلك الجامعة المسمّاة
بالدراسات الإسلاميّة، فقد ارتأت أن أكمل هذا المشروع، بإشرافها، وبالتعاون
مع أحد إثنين: إمّا البروفسور حاييم ملكوفسكي، أستاذ الهاغاداه في بار إيلان،
أو البروفسور يوسف برغمان، أحد أبرز المختصيّن الإسرائليين في هذه المسائل!
وفي الزيارة الثانية للسيّدة كرونه إلى دمشق، جاءتني بنماذج من أعمال
البروفسور ملكوفسكي؛ وعادت لإلحاحها بأنّ الوقت يمرّ، والساحة الثقافيّة
البحثيّة تفتقد كثيراً عملاً أكاديميّاً من هذه النوعيّة؛ ورغم إدراكي لمسألة
العمر الذي يمضي دون فائدة، خاصّة وأني أعيش في بلد " المراوحة في المكان "،
سوريّا؛ فقد رفضت العرض!
وحتى لا يساء
فهمي، فأنا لم أرفض العرض من منطلق وطني على الإطلاق: رفضته لأن القانون
السوري، المفصّل بحيث لا يطال المسئولين أو أولادهم وأقاربهم وحاشيتهم [كان
الحديث متواتراً ذات يوم عن علاقة لابنة أحد كبار المسئولين السوريين، والتي
تقيم في فرنسا، بالإسرائيليين: دون حسيب ولا رقيب] يمكن أن يودي بي إلى السجن
إذا أنا بدأت بمشروع "ثقافي" كهذا، حتى وإن كان الهدف النهائي منه خدمة
الحضارة البشريّة، عبر الدفع بها معرفيّاً إلى الأمام! فالحقيقة الناصعة التي
لا تخفى على أحد، أنّ إحدى وأربعين سنة من الحكم البعثي لسوريّا، أشفت الشعب
تماماً من فيروس الوطنيّة، الذي كان قد وصل إلى قمته قبيل الاحتلال الناصري
للوطن، عام 1958، عبر ما أسموه بالجمهوريّة العربيّة المتحدة! وكلّ من يتجوّل
في سوريّا، ويرى بالعين المجرّدة ما فعلته بها عصابة الصمود والتصدّي، من
الفساد الممنهج إلى سرقة أموال الشعب إلى القصور الأوقح إلى مصادرة الشواطىء
النادرة إلى نشر التلوّث إلى المرتديلا الفاسدة إلى السيارات الفارهة [سمعنا
أخيراً أن دولتنا الحصيفة استردّت من وزير دفاعنا السابق، سيّد الصمود
والتصدّي، نحو ثلاثمائة سيّارة، لا أعتقد أنّ بينها كوريّة أو يابانيّة
واحدة] ..!!!، لا يحتاج إلى ذكاء خارق كي يعرّف المصطلح "وطنيّة"، بحسب
قاموسنا السوري!
"الوطنيّة"،
وفق تعريف القاموس السوري للمصطلح، هي أن تمضي إحدى وثلاثين سنة في حالة لا
سلم ولا حرب، يدفع أثناءها الفقراء، خاصّة الذين نزحوا من الجولان، أسوأ
ضرائب حالة الحرب الفعليّة!
"الوطنيّة"،
كما يقولنا قاموسنا إياه، أن يعتبر القائمون على الوضع، من أمثال رفيقنا
الضرغام، أنّ الشعب كلّه غير ناضج، معاق فكريّاً، بحاجة لمن يرشده ويفكّر
عنه؛ ولأنهم يعرفون جيّداً كيف يفكّرون عن ذواتهم وعن الشعب، فقد وصلوا مع
محاسيبهم وأبناء الضيعة وأخوة الحاكورة إلى سويّات قياسيّة في البطر، ووصل
بقيّة الناس إلى سويّات قياسيّة أيضاً في الطفر!
"الوطنيّة"،
وفق القاموس ذاته، هي أن يبيعنا السادة التقدميّون أوراق عملة شعاراتيّة غير
قابلة للصرف في أي بنك، في حين يحوّلون هم أنفسهم تعب الشعب وعرقه إلى ملايين
تتكاثر، كالفطر، باستمرار في بنوك الغرب؛ دون أن يكون لأحد الحق بالاعتراض،
لأننا دولة مواجهة
تقف رأس حربة
أمام المخطّطات الرأسماليّة الأمريكيّة الصهيونيّة حتى آخر الاسطوانة
المشروخة الشهيرة إياها، والتي أضحت تضحك الثكالى ويهزأ منها الرضّع! ولا داع
لأن نذكّر هنا بما نشرته السياسة قبل أيّام، حول أمين عام حزبنا المساعد،
والطريق التي أنفق عليها من أموال الشعب: مع أن الأستاذ عبد الله الأحمر هو
أقل من تناولته ألسن الناس بالنقد في سوريّا في السنوات الأربعين تقريباً
الماضية!
"الوطنيّة"
تعني أيضاً أن يمتصّ هذا الضابط أو ذاك، وفق مصطلح التفييش السوري العسكري
الأشهر، دمّ المجنّد الفقير، الذي إن رفض عومل وكأنه في غوانتنامو!
بالمناسبة، لا أعتقد أنّ وزير دفاعنا السابق يعرف بهذه القصّة؛ ومن رأى
المعركة الشرسة التي دارت بين أحد أبنائه وأحد أبناء المسئولين من المصائب
الساقطة، في مربع التلال الوطني التقدّمي، على جبهة الأخت الفدائيّة مايا
نصري، يعرف تماماً آلية العمل التي كانت سائدة في وكر النسور ذاك!
"الوطنيّة" هي
أن يحتكر أربعة أشخاص أو خمسة مقدّرات سوريّا على الصعد كافّة؛ وحين يجرؤ
المرء على إشارة ولو سريعة إلى هذا الخلل غير العادي، تبدأ الجوقة الصامدة
المتصدّية بعزف أسطوانات لا حياة في هذا الوطن إلاّ للتقدّميين والإشتراكيين
– على طريقة مدام أمّ عمّار التي ورثت رئاسة الحزب الشيوعي السوري عن المسيو
زوجها، وأدخلت الأستاذ ابنها إلى برلماننا الموقر نكاية بأمثالنا من
الرجعيين!
"الوطنيّة" هي
أن تنتمي إلى طائفة، إلى عشيرة، ليصبح اسم سوريّا من ثم اتحاد الكانتونات
الطائفيّة السوريّة؛ أن تأخذ موقفاً معادياً من كل من لا يذعن لمفاهيمك
وآرائك، مشيخيّة كانت أم متبعّثة؛ أن تغذّي، كمسئول، كلّ ما اسمه " تقسيم "
لأنه بالتقسيم والتفتيت وحده يمكن لهم البقاء: هل سمعتم، مثلنا، عن اعتقال
نحواً من خمس وعشرين شيخاً في حماة السوريّة، التي كنّا فيها الأسبوع الماضي،
ورأينا بأم العين الانتشار السرطاني – لا يمكن مقارنته إطلاقاً بالوضع الذي
ساد قبيل أحداث حماة الشهيرة – للحركات المتطرّفة، الإرهابيّة، تحت مرأى
ومباركة الجميع على الأرجح؟ هل تعرفون أن سيّد الثقافة المطلق على التراب
السوري، المدعو أحمد ضرغام، والذي يؤكّد بما لا يقبل الشك التحالف الأصولي
البعثي، يفتح كلّ الأبواب أمام الفكر النقلي، في حين يحارب حتى اللهاث كافة
أشكال النقديّة، بباطنيّة لا تبارى؟
إذن، ودون
عناء الدخول في التفاصيل، فنحن "لسنا" وطنيين؛ ولأن الوطنيّة صارت الاسم
الآخر لكلّ الموبقات، ولأن التقدّم صار العنوان الآخر للانتهازيّة: نحن لا
علاقة لنا لا بالوطن ولا بالتقدّم!
من المخزي أن
تكون أعمالنا متوفّرة في جامعات بار إيلان والعبريّة وحيفا، في حين نجدها
ممنوعة بالمطلق في ما يفترض أنه وطننا! من المخزي بعد أكثر من أربعين عاماً
من القبع التبعثي على قلوبنا تحت عنوان الصهيونيّة أن نشعر أن أشخاصاً
ليبراليين حضاريين مثل آفي شلايم أو زئيف هرتسوغ أو يسرائيل فنكلستاين أقرب
إلينا، بما يستحيل وصفه، من إرهابيين ثقافيين ذاتويين من أمثال أحمد ضرغام
وبقيّة القيادة الحكيمة! من المخزي أن نحاول مدّ أيدينا للغرباء الذين غسلوا
دماغنا بأنهم أعداؤنا لحمايتنا من الإرهاب الديني والإرهابيين الدينيين ممن
يقال إنهم أبناء الوطن! من المخزي أن يحاول من قالوا لنا إنهم أعداؤنا
استمالتنا إليهم ثقافيّاً، بكلّ السبل، في حين يسعى من يفترض أنه ابن بلدنا
ومحافظتنا لقمعنا، بكل سلطانه ونفوذه، فقط لأننا جرحنا كبرياء صديقه الحرامي!
من المخزي أن نشعر أنّ نساء رائعات من نمط شولاميت آلوني أو ياعيل ديان أو
تامار غوزانسكي أقرب إلينا، بما لا يقارن، من شيخات الإرهاب والتكفير اللواتي
يتنقّلن كخفافيش الليل في كلّ الشوارع الخلفيّة في المدن السوريّة!
في سوريّا،
كما يعرف الجميع، نحن ممنوعون بالمطلق عن العمل الثقافي؛ وإذا كان هنالك من
يعزّينا بأن قصّة البعث وقيادتيه وتسلطهم المعيب في زمن الحريّات سوف تختتم
بنهاية أسعد وسوف يُنقل كلّ أولئك الآيلون للسقوط إلى متحف الشمع التاريخي،
فنحن نرى أن الزمن، الذي يصادرنا فيه أحمد ضرغام ومن على شاكلته منذ أكثر من
عشر سنين، يمر دون رحمة؛ من هنا، فمن حقّنا، ونحن نرى الانجازات العسكريّة
والاقتصاديّة والوطنيّة التي حققها أولئك، أن نتعامل مع من نشاء، دون خوف ولا
عقد؛ نحن نكتب الآن للبشريّة كلها، لا للسوريين ولا للعرب ولا للمسلمين
وحدهم؛ لقد تاجروا بنا حتى الموت من أجل ما أسموه "المعركة"؛ وكانت في الواقع
معركة خلبيّة أبطالها حبّات الفياغرا وبعض الفنانات والمتفننات من صاحبات
السيارات الفارهة التي تأخذ حتى بنزينها من لقمة الشعب، وميدانها غرف النوم
والمرابع الليليّة وفنادق النجوم الخمس، ومن حقّنا الآن أن نحرّر أنفسنا عبر
السلام الذي يريده الجميع؛ من حقّنا أن نكتب حيث يفتح لنا المجال، أن نمارس
حقّنا في التفكير حيث لا يراقبنا أحد، أن نعيش حيث لا تلوّث ولا فساد!
في سوريّا نطارد في حياتنا الفكريّة من قبل المتبعثين، رؤوساً وأذناباً؛
ونطارد في حياتنا الماديّة من قبل التيار الوهابي، الذي عمل وما يزال يعمل،
تحت أعين الأمن والسلطات المسئولة، لقتلنا بكل السبل! والحياة القصيرة كرفّة
العين لا تتحمّل كلّ هذا القرف: فهل نعذر في ذهابنا، من أحمد ضرغام ومشايخه
ومتبعثيّه، إلى الحدّ الأقصى؟
|