مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
الإصلاح السوري..
والزمن الذي لا يجامل
نبيل فياض 7
يوليو 2004
ممّا لا شكّ
فيه أنّ سوريّا 2004 تختلف جذّريّاً عن سوريّا 2000: خير دليل على ذلك هذا
الكمّ من الكتابات النقديّة للنظام والرموز البعثيّة، التي سقطت أو الآيلة
للسقوط، من كتّاب وباحثين ومواطنين عاديين من قلب الوطن، دون أن يستدعي ذلك
تدخّل القوى الأمنيّة التي كانت سابقاً تضرب بيد من حديد كلّ من توسوس له
نفسه انتقاد أحد من المحسوبين على الدولة، حتى وإن كان على هامش الهامش!
ومّما لا شكّ فيه أيضاً أنّ سوريّا تعرف شكل إصلاح، رغم إصرار الدولة غير
المبرّر على رفض مصطلحات بعينها، كالإصلاح، واستخدام ألفاظ أخرى، تعطي
المضمون ذاته، مثل التطوير. لكن الحقيقة القاتلة تبقى بأن الإصلاح هو الأمر
الأكثر إلحاحاً في هذا الزمن، إذا ما أردنا لسوريّا الخروج من عنق الزجاجة
الخانق، الذي يشعر به السوري العادي، حيثما كان.
على نحو دوري؛
يقال لنا: انتظروا 1\7، وسوف ترون كم من الرؤوس "العفنة" ستتساقط! ويأتي 1\7،
ولا نرى رأساً يسقط أو حتى يقارب النضوج السابق للسقوط؛ وحين نسأل؛ لماذا؟
يقال: انتظروا 1\1، وسوف ترون الرؤوس المتدحرجة على مقصلة الفساد! ويأتي
الموعد إياه، ولا نرى مقصلة ولا رؤوساً متدحرجة. الآن تسود في الشارع السوري
اسطوانة جديدة؛ تقول: إنّ رؤوساً كثيرة ستختفي من على الساحة السوريّة، خاصّة
الأمنيّة منها، في مطلع العام القادم، ويتحدّثون باستفاضة تفاؤليّة عن
التشريع الرئاسي القاضي بعدم التجديد لمن تعدّى السن، ويوردون بالتاريخ
الدقيق موعد الاستغناء عن هذا المسئول أو ذاك [نمتلك بدقّة المواعيد
والأسماء، لكننا نحجم عن نشرها كي لا نفقد الصدقيّة إذا لم يحصل ما نتنبّأ
به]؛ وأخشى ما أخشاه أن نضطر العام القادم، في أيام كهذه، لكتابة مقالة أخرى
حول الإصلاح المنتظر والرؤوس التي لن تينع!
إنّ كم الفساد
المستشري في الوطن السوري، والذي كان الاستبداد البعثي أحد أهم عوامله، يحتاج
إلى علاج سريع حاسم، يمكن أن يعيد إلى الناس ثقتهم المهزوزة بالدولة! فبسبب
الاستبداد الذي يجعل اللصوص الكبار فوق الشبهات أو المحاسبة، وبسبب انتهاء
دور القضاء فعليّاً، حيث أضحى المحامي عموماً مجرّد وسيط بين القاضي والأطراف
المتقاضية، أضحى التفسّخ، بأشكاله التي لا حصر لها، القاعدة المتعارف عليها،
في حين صارت الاستقامة وضعاً مرضيّاً لا يستحق صاحبه غير الشفقة لأنه "لا
يعرف أين مصلحته"!
إنّ إزاحة هذا
المسئول أو ذاك، مثل استبدال وزير الدفاع الذي "لم يترك دفّاً إلاّ ورقص
عليه"، ليس هو المطلوب شعبيّاً، لأنه لا يحلّ أية مشكلة. والحديث اليوم عن
إزاحة غيره من "عليّة" القوم، لا يعني غير إعطاء حبّة أسبرين أخرى لذاك
المريض بالسرطان العصيّ على العلاج؛ وحتى لا يمرّ الزمن على الشعب السوري في
انتظار "غودو" الذي لن يأتي أبداً، يمكننا هنا تقديم شكل مداخلة، جوهرها
مقارنة بين سوريّا، وأقرب الأقطار إليها، من كل النواحي، لبنان، ومحاولة فهم
سبب هذا التخلّف الحضاري لدمشق، مقارنة ببيروت، بما يتجاوز ألف عام:
1 ـ معروف
للجميع أنّ ما يقارب مليون مواطن سوري يعملون في لبنان، ويعيلون من ثم نحو
ثلث سكّان سوريّا، من بلد لا أنهار فيه ولا بترول ولا أراض زراعيّة ممتدّة
ولا صناعات قويّة ولا مناجم فوسفات.. إلخ! كيف باستطاعة لبنان، هذا البلد
الصغير محدود الموارد إعالة ثلث الشعب السوري، الذي تعاني غالبيته من حياة
تهبط بثقة واستمراريّة إلى ما دون خط الفقر؟ ما الذي يميّز لبنان عن سوريّا
حتى يكون باستطاعته، وهو البلد "الأضعف"، مساعدة الشعب السوري بهذه الطريقة
غير العاديّة؟
الليبراليّة!
هذه الكلمة وحدها كافية لاختصار عمق الفوارق والمأساة! فلبنان، بليبراليّته
التي لا تلين، والتي صارت جزءاً من العيش اليومي اللبناني، استطاع أن يخطو
إلى الأمام خطوات ليست بالخافية على أحد، في حين تراجعت سوريّا كثيراً، أقلّه
أنّ الوقوف في المكان بحدّ ذاته نوع من التراجع. وكأشخاص عايشنا بعمق
التجربتين السوريّة واللبنانيّة، يمكننا التوقف عند بعض مفاصل هامّة جعلت من
بيروت مثلاً مدينة فشلت كلّ الحروب في تلويث جمالها، في حين تبدو دمشق مثل
عجوز متصابية فشلت كلّ الشعارات التي تعلو الجدران الملوّثة في إخفاء تجاعيد
وجهها البشع:
إذا ما قاربنا
المسألة الإعلاميّة، فلبنان، بحريّته، متقدّم على سوريّا إعلامياً بما يستحيل
تجسيره. ورغم التواجد السوري الضاغط على التراب الوطني اللبناني، فالصحافة
اللبنانيّة العريقة ما تزال الأولى في المنطقة الناطقة بالعربيّة؛ وإذا ما
قارنّا التجربة اللبنانيّة بما عرفه السوريون منذ أربعين عاماً ونيف من صحافة
موجّهة بطريقة ستالينيّة، فالمقارنة قطعاً لن تكون في صالح السوريين؛ دون أن
ننسى بالمناسبة تطفيش الطاقات السوريّة البنّاءة التي رفضت التدجين البعثي.
وحتى عندما أراد السوريّون الانفتاح صحفيّاً بعد أن شعروا أن صفير القطار
الذي فاتهم لم يعد يسمع، فقد جانبهم النجاح لأنهم أوّلاً وكالعادة أعطوا
تصاريح الدوريّات للمسئولين وأبنائهم الذين كان هدفهم التمظهر الثقافي لا
غير، وحين أراد هؤلاء الانطلاق نحو عالم صحافة فعلي، كان الفشل يقف لهم في
آخر الطريق، ليس فقط لأن البلد، كما أشرنا، نزف طاقاته الخلاّقة على مدى ما
يقارب النصف قرن، بل أيضاً لأن الباقين الخلاّقين القلّة يرفضون العمل في
الصحافة المحليّة، خاصّة كانت أم عامّة، لأنهم ما يزالون يحاولون الاحتفاظ
بما تبقي لهم من كرامة! بالمقابل، فإن تجربة الإعلام المرئي أو المسموع
الخاصّة في لبنان أضحت راسخة إلى درجة البداهة، في حين ما تزال سوريّا تفتقد
الحدّ الأدنى المطلوب من هذه التجربة الهامّة. في لبنان على سبيل المثال أكثر
من ست محطّات تلفزيونيّة متنوعة، أقلّها أهميّة أهم بكثير من التلفزيون
السوري الرسمي، الذي لا يراه أحد إلاّ في المواسم. وما تزال الدولة، كالعادة،
تقف متفرّجة في ظلّ هذا الوضع المأساوي لتلفزيون مفلس تسوده الشلليّة
والمحسوبيّة والفساد الممنهج! وبسبب هذه التجربة التلفزيونيّة-الإعلاميّة
اللبنانيّة الفريدة، نجد اليوم الإعلاميين اللبنانيين يملأون بجدارة أروقة
الأوساط الإعلاميّة في كثير من الدول الناطقة بالعربيّة، خاصّة الخليج
العربي! وهذا كلّه يعني، ضمن أشياء أخرى كثيرة، التسويق
السياحي-الثقافي-الإعلامي للبنان ضمن محيطه الطبيعي، دون أن ننسى خلق كثير من
فرص العمل داخل لبنان وخارجه.
يعرف الجميع
أنّ المنظومة الاقتصاديّة السوريّة هي واحدة من أغرب المنظومات الاقتصاديّة
في العالم، والمرء لا يحتاج لأن يكون خبيراً اقتصاديّاً ليكتشف كم العيوب
الهائل فيها. فهذه المنظومة ليست اشتراكيّة ولا رأسمالية؛ ليست موجّهة ولا
مبادرة فرديّة: المنظومة الاقتصاديّة السوريّة هي هجين غريب بين عيوب النظام
الرأسمالي وسيئات الاشتراكيّة؛ وغايتها الأولى والأخيرة خدمة مصالح القائمين
عليها. بل إنّ التعريف "منظومة" هو آخر ما يمكن تطبيقه عليها؛ أقلّه أن هذا
التعريف يحتوي ضمناً أحد أشكال الإيحاء بأن فيه بضع نظام؛ في حين أنّ
المنظومة السوريّة ليست أكثر من أفعال اعتباطيّة آنيّة يتمّ لويها وفق
مقتضيات المصلحة الفرديّة لأصحاب الفعل. وهكذا، يمكن القول، إنّ القطاع العام
استُغلّ من قبل القائمين عليه، الذين صاروا بفضله من أصحاب الملايين، حتى لم
يعد فيه ما يستغلّ؛ وبعد أن أنهى هؤلاء استغلالهم الأسوأ، راحوا هم أنفسهم
يفتحون النار على القطاع العام باعتباره أحد مخلّفات الماضي، ويطالبون الدولة
بالتعصرن عن طريق الانفتاح على الرأسماليّة ونظام المبادرة الفرديّة؛ ولمّا
كانوا هم الدولة، بقضّها وقضيضها، كان لا بدّ من أن تشهد سوريّا طفرات
رأسماليّة غير مسبوقة تجلّت في هجمة رأسماليّة غير عاديّة لدعاة الإشتراكيّة
السابقين، أو بشكل أدق: أولادهم، للإمساك برقبة الاقتصاد السوري مرّة وإلى
الأبد. بالمقابل، فلبنان كان بلد المبادرة الفرديّة والاقتصاد الحرّ منذ
البداية. وهكذا، كان القطاع المصرفي فيه راسخ المعالم، وظل الوضع الاقتصادي
متماسكاً، رغم الحرب الضارية، والذي أوصل هذا البلد الصغير، كما قلنا، إلى أن
يكون بإمكانه تشغيل مليون عامل سوري من العاطلين على العمل. من هنا، ليس
غريباً أن نجد الأسرة اللبنانيّة، على سبيل المثال، تمتلك أكثر من سيّارة، في
حين ينحشر كبار الضباط والمهندسين والأطباء السوريين في وسائط نقل بدائيّة،
لا تذكّرنا إلاّ بكوريا الشماليّة أو كوبا.
2 ـ ممّا لا
شكّ فيه أنّ التعدّدية-الليبراليّة-الديمقراطيّة تجعل الفارق جذريّاً بين
النظامين السياسيين في لبنان وسوريّا. فالمنظومة السياسيّة اللبنانيّة، رغم
تحفظاتنا غير البسيطة على ممارساتها وطبيعتها البنيويّة، تجعل من المعارضة
شأناً طبيعيّاً؛ الأمر الذي يحدّ نوعاً ما من الممارسات الديكتاتوريّة ويجعل
من الفساد، المعلول الطبيعي للديكتاتورية، مسألة أكثر صعوبة مما هي عليه
الحال في النظم اللاديمقراطيّة؛ دون أن ننسى طبعاً الحيويّة الاجتماعيّة التي
يبدو الديالكتيك السياسي أساسها الإبستمولوجي، والذي يصل إلى حدوده الدنيا في
النظم الاستبداديّة. بالمقابل، فالمنظومة السياسيّة السوريّة، عبر الهيئة
الأغرب المسمّاة "بالجبهة الوطنيّة التقدميّة"، والتي لا تشبه غير مكتب تسيير
مصالح خاصّة، تفتقد أدنى درجات التفعيل السياسي أو الاجتماعي؛ "الجبهة
الوطنيّة التقدميّة"، لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي، كما تقول النكتة
السوريّة الساخرة، هي أبعد ما تكون عن الديمقراطيّة، بمعناها الفعلي؛ من هنا،
فإذا كانت الديناميكيّة السمة الأهم للمجتمع اللبناني، فالإستاتيكيّة هي
الوجه الحقيقي للمجتمع السوري. مع كل ما تعنيه الاستاتيكيّة من تراجع وتفسّخ
على كافّة الأصعدة!
3 ـ إنّ
الغلاسنوست، أو الشفافيّة، هي أحد أبرز العناصر التي تفرّق بين المنظومتين
السوريّة واللبنانيّة، وطبعاً لصالح الثانية دون ريب. وإذا أردنا التوقف عند
السلطة التنفيذيّة عند الطرفين على سبيل المثال، يمكن القول، إنّ رفيق
الحريري، بسلطته الماديّة-الإعلاميّة الهائلة، لا يمرّ يوم إلاّ ويتعرّض
لسهام النقد العنيفة، وأحياناً التجريحيّة، لهذا السبب أو ذاك، الأمر الذي
يجعله يعد إلى العشرة قبل الإقدام على أية فعلة يمكن أن تسلّط عليها سهام
المعارضة؛ بالمقابل، فإنّ رئيس وزراء حكم سوريّا زمناً طويلاً وفي مرحلة
مفصليّة، وانتحر بطريقة أقرب إلى أفلام إنغمار برغمان أو روايات كافكا، اسمه
محمود الزعبي؛ وخلّف وراءه أساطير يتداولها السوريّون همساً حول فساد أولاده
وأسباب انتحاره ومعرفة ما إذا كان انتحاره مسألة قضاء وقدر أم لا، لا يوجد
حتى الآن من تجرأ على طرح ملفاته علنيّاً! حادث انتحار الزعبي، كما يراه
عموم الشعب السوري، كان يفضّل أن يحوّل إلى حلقة ثقة تعيد ربط الشعب السوري
بدولته، عن طريق إعلام هذا الشعب، الذي سرق الزعبي ومن على شاكلته أمواله،
بتفاصيل هذه الفعلة غير المسبوقة!
لكن الدولة
اختارت الصمت المطبق، وكأن هؤلاء الناس، الذين كان الزعبي واحداً ممن أوصلوهم
إلى هذه الحالة المغرقة في قتامتها، لا حقّ لهم في معرفة لصوصهم وقاتليهم!
أخيراً؛
فالإصلاح الاقتصادي لا يستطيع السير دون مثيله السياسي؛ ودون فصل لحزب البعث
عن الدولة، دون تخليص المؤسّسات بالتالي من الانتهازيين والفاسدين، لا يمكن
للوضع السوري عموماً أن يتحسّن؛ الديمقراطيّة-الليبراليّة أساس الدياليكتيك
السياسي؛ المعارضة أساس كشف الفساد ومن ثم تقليصه، ودون ذلك لا أمل في أي
حلول مطروحة!
ثمّة تطوّر،
كما قلنا، في آليّة تعاطي الدولة مع الأفواه المعارضة، وحريّة التعبير أوسع
بكثير مما كانت الحال عليه قبل سنوات، لكن هذا لا يكفي؛ فليس بالحرف وحده
يحيا الإنسان. |