|
 مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
جامعة شعبان عبد الرحيم.. العربيّة!!!
نبيل فياض، 19 يونيو 2004
في أنواع الحيوانات الراقيّة من غير البشر، ثمّة ظاهرة هامّة جديرة بالملاحظة
وبالتالي الإفادة منها في تطوير أنماط السلوك البشريّة: لا بدّ من وجود حيوان
بارز على كافة الصعد يقود باقي الحيوانات في حلّها وترحالها. من بين الأغنام،
على سبيل المثال، يتمّ انتقاء خروف بعينه، يستوفي شروطاً يعرفها أهل البادية،
ليصبح في المستقبل ما يطلق عليه في بلاد الشام "المرياع"، وهو الحيوان الذي
تناط به مهمّة قيادة القطيع، مهما كان كبيراً.
في دول العالم الأوّل المتحضّر، هنالك نخب حاكمة، تعتمد في صوغ قراراتها على
انتلجنسيّا شاملة الاختصاصات، وهو ما يمكن تسميته بصيرورة صنع القرار
decision making!
في دول العالم الثالث، رغم افتقادها الآليّة المعقدة والمتطوّرة لصنع القرار
وتطبيقه المتعارف عليها في دول العالم الأوّل، إلاّ أن وجود الأمثولة التي
يسير في هديها الآخرون أمر لا غنى عنه.
منذ بدايات الوعي المجتمعي
gesellschaftlich
البشري والعوام تتأطّر وفق ما تضعه لها النخبة من حدود. الشرائع الناظمة
لحركة مجتمع ما في إحدى مراحل تطوّره لم تأت إلاّ من أشخاص قياديين يتمتعّون
بمستوى معيّن من الثقافة والوعي المرتكزين أساساً على الركام المعرفي البشري
المخزّن في الذاكرة الجمعيّة الإنسانيّة بتصاعدية لا سقف لها.
في الحركات البشريّة الكبرى لابدّ أن نصادف إنساناً متساميّاً على ذاتهUbermensch
، هو مزيج من جنون طموح السياسي غير المحدود وعقلانيّة الفيلسوف الذي يدرك
تماماً أنّ كلمة منه في غير محلّها يمكن أن تحدّد مستقبل حركة جماهيريّة،
وبالتالي مستقبل أمّة. وعلى هذا الأساس كانت الحركات البشريّة الكبرى تختصر
برمز إنساني هو الدينامو المحرّك الذي يقود شعبه باتجاه ما يراه الأمل الذي
تنشده الجماهير. من هنا، وبغضّ النظر عن مواقفنا الذاتيّة من هذا القائد
الرمز أو ذاك، يمكننا القول إنّ ثورة أكتوبر الإشتراكيّة في الاتحاد
السوفييتي السابق كانت لينين؛ الثورة الماركسيّة في الصين الشعبيّة كانت -ماو
تسي تونغ؛ الثورة – أو الثورات – الاشتراكيّة في أميركا الوسطى أو الجنوبيّة
كانت تشي غيفارا؛ الدولة الفاشستيّة في إيطاليا كانت موسوليني؛ النظام النازي
في ألمانيا كان هتلر؛ نظام الفلانخه في إسبانيا كان فرانكو؛ الأمر ذاته ينطبق
على ظاهرة بسمارك وقبله نابليون وصولاً حتى عصور بدايات تدوين التاريخ
الإنساني، مثل رموز حضارة الرافدين أو وادي النيل أو الصين والهند واليابان.
الجماهير بحاجة دائماً إلى رمز-قائد له من الكاريزما ما يجعل الملايين تصدّقه
حتى وهي تعرف أنه يكذب عليها أو أنه سيقودها في الطريق الأقصر إلى الجحيم.
والمثال الأوضح على هذا في التاريخ العربي المعاصر جمال عبد الناصر، الذي كان
أفضل من خاطب الغرائز الجماهيريّة الأدنى، وكانت الناس تهرول خلفه رغم ثقتها
المطلقة أنه يسحبهم بسرعة الصوت إلى الهاوية. ورغم إقرارنا أنّ عبد الناصر
كان أبرز ظاهرة صوتيّة-غرائزيّة عربيّة في القرن العشرين، والتي لا يمكن
مقارنتها بأية حال مع أية ظاهرة صوتيّة منافسة كأم كلثوم، فالواقع الفعلي
يقول إن الرجل كان أمثولة سارت في هديها – أو غيّها – الملايين، ومازال هنالك
بعض من يصدّق، أو بالأحرى ينتشي، بما يسمعه من خطب رنّانة لحبيب الملايين.
ورغم محاولة كثيرين في طول العالم العربي وعرضه تقليد عبد الناصر في محاولته
الناجحة خلق أمثولة جماهيريّة، إلاّ أن النسخة الأصليّة ظلت أنجح بما لا
يقارن من الصور الباهتة، ربما لافتقاد غير عبد الناصر الإمكانيّات الصوتيّة
المخاطبة للغرائز الدنيا التي كان عبد الناصر يمتلكها.
السمة الأساسيّة في المنظومات القياديّة العالميّة اليوم هي افتقادها المطلق
للشخصيّات الكاريزميّة التي عرفها العالم على مدى الزمان والتي ربما كان
آخرها تيتو اليوغسلافي ونهرو الهندي وديغول الفرنسي وجون كنيدي الأمريكي.
ورغم الدور المحوري الهام للغاية الذي تلعبه شخصيّات بارزة على الصعيد
العالمي من أمثال جاك شيراك الفرنسي وجورج بوش الأمريكي وطوني بلير
البريطاني، إلاّ أن هؤلاء جميعاً غير قادرين على الصمود في أية مقارنة مع
الشخوص الكاريزميّة التي عرفتها تلك الدول في خمسينيّات القرن الماضي
وستينياته. بالمقابل، ومع انتشار المثل الديمقراطيّة في دول العالم الأوّل من
رأس الهرم إلى قاعدته، صارت السمة الأميز لمنظومات القيادة "القرار غير
الفردي"
القائم على جهود مجموعات اختصاصيّة احترافيّة تتولّى من مراكزها البحثيّة
توجيه صيرورة صنع القرار في عالم لم يعد باستطاعته تحمّل الأخطاء غير القابلة
للإصلاح.
العالم العربي، أو بشكل أدق، ما اصطلح على تسميته بالعالم العربي، لا في
العير ولا في النفير. فبعد رحيل من أسموهم " القادة التاريخيين "، الذين كان
آخرهم الطاغيّة صدّام حسين، وافتقاد هذا الجزء من العالم بالكامل لمراكز
البحث الرصينة – لا يمكن على الإطلاق تسمية تلك المؤسّسات النغل التي تنشئها
أجهزة الأمن بالمراكز البحثيّة – التي يمكن أن تساهم في تقديم بانوراما أطياف
سلبيّة أو إيجابيّة لما يمكن للسياسي اتخاذه من قرارات مصيريّة، صرنا، بحمد
الله، بلا قادة ولا تاريخ.
عمرو عبد الرحيم.. أم شعبان موسى:
دون أن نذرف دمعة أسى واحدة بلا طائل، نعترف بكلّ نشوة أن العرب انتهوا!
رصاصتان في رأس العروبة كانتا كافيتين لإخراج العرب من الجغرافيا، بعد أن
سقطوا – هل دخلوا يوماً؟ - من التاريخ: واحدة أطلقت يوم الحادي عشر من أيلول
في نيويورك، والأخرى يوم التاسع من نيسان في بغداد. لقد أقنعونا بقوّة غسيل
الدماغ الإعلامي العربي الرسمي بوجود حضارة عربيّة، والتي لم تكن في الواقع
أكثر من تهويمات مشائخيّة ترفضها سلال الزبالة المحترمة. لا شكّ أن التاريخ
العربي عرف ظواهر فائقة في حضاريتها، بمقاييس زمانها ومكانها، كابن رشد على
سبيل المثال، لكن هذه الظواهر فرضت نفسها بقوتها الذاتيّة لا بدفع العوامل
الموضوعيّة المكوّنة للوجدان المعرفي العربي، التي هي، باعتراف الجميع،
معادية بنقليّتها الكابحة لكافة أشكال التغيير والتطوير والإبداع. وإذا كنّا
نكابر بالمحسوس، على الطريقة البعثيّة، ونلح بأننا من أصحاب الحضارات، فكلّ
الظواهر اليوم تكشف بما لا يدع مجالاً للشكّ أننا شعب لا علاقة له بالحضارة،
التي هي في جوهرها حريّة بشريّة في التحليق نحو العوالم الجديدة. وما شعبان
عبد الرحيم، رسول الفن العربي، وعمرو موسى، سفير السياسة العربيّة، غير
الدليل الأوضح على ما قلناه آنفاً.
في لبنان، وبسبب تركيبته الديمغرافيّة الخاصة للغاية، كان ثمّة محاولات في
النصف الثاني من القرن العشرين للخروج من أفق اللاحضارة العربي المسدود، وخلق
حالات حضاريّة على كافة الصعد؛ فعرفنا في هذا البلد ظواهر ثقافيّة وسياسيّة
وفنيّة جديرة بالتأريخ، على رأسها أسطورة الثلاثي الفني، الأخوين رحباني
وفيروز، الذين أضفوا على الوجدان العربي نكهة تسام لم تتذوقه بعدهم؛ لكن
الاحتلال البعثي الشقيق للبنان أعاد إدخال الوطن الفيروزي في دنيا اللاحضارة
العربيّة؛ الكويت، بالمقابل، بعد الطفرة النفطيّة وتدفّق الشعوب عليها من
كافة أرجاء العالم الأمر الذي خلق فيها وضعاً ديمغرافيّاً تعدّديّاً غير
مألوف في تاريخ تلك المنطقة فنشأ لدينا ما يمكن أن نسمّيه "طلائع الدخول من
باب الحضارة الواسع" عبر ظاهرة المعرفيّة التخصّصيّة الجادة، التي انفردت بها
الكويت تقريباً بين دول المنطقة، أعاد فيها شقيق بعثيّ شرقيّ هذه المرّة
الوضع إلى نقطة الصفر، بحروبه العبثيّة التي استهلكت خيرات الخليج وأعصابه
أوّلاً، واحتلاله الكويت ومحاولته إنهاء أية مظاهر حضاريّة في هذا البلد
ثانياً. وهكذا، وبفضل البعثيين أوّلاً وحلفائهم الأصوليين ثانياً صرنا كلّنا
في اللاحضارة سوا. وظلّ الانحدار قاعداً على ركبة ونصف حتى وصلنا حضيض
الثنائي المسمّى شعبان عبد الرحيم-عمرو موسى.
شعبان عبد الرحيم-عمرو موسى، كظاهرة مرضيّة شاذّة في تاريخ اللاحضارة، ليسا
فقط التعبير الذي يجرح العين لأشكال الغرائز الدنيا، بل لقد تراجع هذان –
وأمثالهما – بالعرب إلى ما دون سويّة الحيوانات الراقية من غير البشر. فكما
قلنا في بداية المقالة، يسير القطيع في الحيوانات الراقية خلف حيوان منتخب
لصفات تميّزه عن غيره، ويكون هذا الحيوان المنتخب مسئولاً عمّا قد يعترض
القطيع من أخطار. وحتى في الأصناف البشريّة الرديئة، في الأنواع البشريّة ما
قبل اكتشاف النار والحضارة، كان ثمّة رأس مفكّر، إذا صحّت التسمية، يحاول
السير بالجماعة إلى حالة أقل سوءاً. – إلاّ في حالة الثنائي إياه: فالقطيع
يسير، وما يفترض أنه قائد يسير في هداه. وهكذا، ولأن القطيع بلا قائد يكون
دائماً في حالة انحدار معرفي صارخة، فالقائد الذي يسير خلف غرائز القطيع يضطر
للهاث مهرولاً على سلم النزول إلى الهاوية. مسايرة غرائز القطيع معادية
للحضارة على الدوام؛ فغرائز القطيع تتطلّب باستمرار تنازلاً على الصعيد
الفكري لتلبيّة رغبات الغالبيّة العظمى، التي تتراجع عقلانيّاً، إذا لم تضبط،
بشكل تصاعدي. من هنا يمكن أن نفهم الشعبيّة المخيفة التي حققها الثائي إياه
من مناصرتهما لقضايا جماهيريّة متفوّقة غرائزيّاً، فاشلة منطقياً. وإذا كان
شعبان عبد الرحيم قد نجح تقريباً في خلق صور باهتة عنه في طول الوطن العربي
وعرضه، فإن عمرو موسى نجح للغاية في استنساخ أنواع منه، من وزراء عناترة
ووزيرات من نمط الخنساء بعد صخر أبو غريب؛ وكالعادة، فالنسخ المقلّدة تظل
أبهت وأقل إقناعاً من الأصل. مع ملاحظة أن المصريين لا يُشق لهم غبار..
ردحاً.
أمّا بالنسبة لجامعة [أفضّل أن تسمّى مفرّقة] عمرو موسى المسماة بجامعة الدول
العربيّة، التي لا ينقصها الصومال وجيبوتي وجزر القمر وربما يدخل فيها
القذّافي ميكرونيزيا قريباً، فهي لا تختلف بشيء عن تلك المحطّات الفضائية
"الفنيّة" التي برعت في تقديم شعبولاّ على طبق من ذهب: إسفاف وهبوط وسقوط..
وحريم لا تجيد غير مخاطبة مناطق بعينها من جسد الذكر.
|
