مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
عفواً حزب البعث: سوريّا ليست عربيّة!
بقلم: نبيل فياض
يبدو صعباً
إفهام الناس كم من شعارات وممارسات اعتقد أصحابها ـ أو: المستفيدون منها ـ
أنها صحيحة وقابلة للتطبيق، ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان أن مثلها مثل
الدواء الذي انتهت صلاحيته منذ زمن طويل ـ
هذا إن
كانت له صلاحية أصلاً ـ غير قابلة للاستخدام! لكن السؤال الذي يلاحقنا
بعيونه الوقحة: كم من الناس قضوا من جراء هذا الدواء الفاسد منذ عام 1963 ـ
وربما 1958 ـ حتى الآن؟ كم من الناس قضوا على مذبح المفاهيم العائمة
واستشهدوا في ساحة "الفكرة أهم من الإنسان"؟ لقد طرح البعثيون شعار: الوحدة
والحريّة والاشتراكيّة ـ كالناصريين تماماً، مع فارق الترتيب ـ فماذا كانت
النتيجة؟
بدل أن
تتوحد الدول التي أسموها عربيّة ـ بما في ذلك جزر القمر والصومال وجيبوتي
وشنقيط ـ
نحن الآن على
أبواب تقسيم العراق، وربما قريباً السعوديّة؛ السودان مقسّم عمليّاً، وفي
لبنان القطيعة واضحة لمن لا يكابر بين المناطق المقطّعة أصلاً مذهبيّاً..
إلخ!
كلمة
الحريّة، التي أجبرنا البعثيون على ترديدها، كالببغاء البلهاء المصابة
بالربو، وذلك باعتبارها ـ الحريّة ـ
الإثفية الوسطى
من ثالوثهم العظيم، لا تحتاج إلى جهد هائل كي تكشف لنا عن مآسيها الصارخة
إن في العراق حيث القبور الجماعية والتطهير العرقي والتخلّص من المعارضة
على طريقة الحجّاج، أو في سوريّا حيث لا معارضة ولا نقد ولا كشف فساد ولا
حتى سماح بمقاربة التطرّف الديني، الذي أثبت الوضع الحالي في العراق أنه
كان العنصر الأوحد الفاعل في كواليس النظام الصدّامي: سبب رئيس هو أن
دكتاتور الثقافة الحمصي في دمشق، لأنه علوي، يخشى من أي سماح بفكرة تجعل
قوى الإرهاب الإسلامي المتنفذّة للغاية في سوريّا اليوم تكفّره وتشاغب عليه
وتفقده بالتالي منصبه ـ وهذا هو المهم ـ وتضيّع عليه وعلى أقاربه الذين
زرتهم مرّة في بلدته القبو الاستفادة من خيرات هذا الوطن، خاصّة من اللاعمل
الديبلوماسي في البرازيل!!!
أمّا
الاشتراكيّة فحدّث ولا حرج!!! وإذا كان النظام الذي سقط في العراق قد كشف،
مع تسلّل عدسات التلفزيون إلى الوطن الذي كان معزولاً، فقر الشعب المدقع
وغنى صدّام الفاحش، فإن أي ملاحظ خارجي لن يفشل في المقارنة بين بيوت
المسؤولين والتجّار ورجال الدين في الصبّورة ويعفور والمالكي وباقي فئات
الشعب في دفّ الشوك والدويلعة والتضامن والطبّالة.. في دمشق. ـ مع ملاحظة
أن العلويين هم الطائفة الأكثر حرماناً في سوريّا، بعكس ما قد يتصوّر
بعضهم. سوريّا الآن ممتلكة لبعض أفراد من طوائف مختلفة لا يسمحون لطائر أن
يمرّ من سمائها دون الإفادة منه. ـ وممارسات هؤلاء، التي ظهرت واضحة الفجر
في انتخابات (!!!) مجلس الشعب الأخير، وأخص هنا بالذكر المدعو محمّد حمشو
الذي كان يوزّع الملايين في لحظات في بلد حيث راتب المهندس لا يتعدّى مئة
وخمسين دولاراً، كانت أكثر من وقحة. لقد كنّا على الدوام ضدّ الاشتراكيّة
ومع نظام المبادرة الفرديّة الرأسمالي، الذي يحمي حقوق الإنسان ويمنع القهر
والتسلّط تحت أي شعار ويضمن الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعيّة: في
سوريّا الآن منظومة اقتصادية تتمسّك في آن باحتكاريّة الرأسماليّة وقمع
الشيوعية ـ دون أي من حسنات المنظومتين!
تحديد
الهويّة القوميّة علميّاً:
رغم أن
الانتماء القومي أو الديني لا يعنينا في شيء، فنحن نرغب حقّاً في تفنيد
الانتماء القومي العربي الذي أقام عليه البعثيون والناصريون دعاويهم غير
العقلانيّة من أجل المزيد من التسلّط وامتصاص خيرات الأوطان.
أولاً:
اللغة، في
اعتقادنا، غير كافية وحدها لإثبات انتماء شعب ما إلى قوميّة بعينها:
الأرجنتينيون، مثلاً، يتحدّثون الإسبانيّة، ومعظمهم من أصول إسبانيّة،
لكنهم الآن ليسوا إسباناً: لأن التقاليد والبنى المعرفيّة الأرجنتينيّة
ميّزت بمرور الزمن بين الشعبين؛ القول ذاته ينطبق على البرازيل والبرتغال؛
استراليا وبريطانيا؛ النمسا وألمانيا.. إلخ.
ثانياً:
الدين، غير
كاف وحده كحامل للقوميّة: الفلبين وإيطاليا وإسبانيا والمكسيك والنمسا
بلدان مسيحيّة كاثوليكيّة متمايزة قوميّاً؛ بريطانيا والسويد والنرويج
وجنوب إفريقيا بلدان مسيحيّة بروتستانتية متمايزة قوميّاً؛ روسيا وبلغاريا
ورومانيا واليونان بلدان مسيحية أرثوذكسيّة متمايزة قوميّاً؛ اليابان
والتيبت وكوريا وبورما وفيتنام وكمبوديا بلدان بوذيّة متمايزة قوميّاً..
إلخ.
ثالثاً:
بعض من
تاريخ مشترك غير كاف وحده لخلق شكل من الانتماء القومي: وإلاّ لكان العراق
فارسيّاً ومصر إيطاليّة أو بريطانيّة وسوريّا تركيّة والجزائر فرنسيّة..
إلخ.
بالمقابل،
فإن أيّاً من العناصر المشار إليها آنفاً لا تنطبق على سوريّا كي نقول إنها
بلد عربي صرف: فمن جهة، العربيّة ليست اللغة الوحيدة القويّة في سوريّا:
الكرديّة مثلاً لغة مئات الألوف من الشعب السوري؛ الآرامية ـ السريانيّة هي
اللغة والأصل للشعب السوري قبل الغزو الإسلامي للبلد؛ إضافة إلى جزر هامّة
من لغات أرمنيّة وشركسيّة وداغستانيّة وتركمانيّة.. إلخ. بالمقابل، فإن
كثيراً من الدول التي أقحمتها السعودية في المؤسّسة الآيلة للسقوط، التي
يرئسها شعبان عبد الرحيم السياسة العربية، المسمّاة جامعة الدول العربيّة،
غير ناطقة بالعربيّة، إنْ كليّاً: كما في جزر القمر وجيبوتي والصومال، أو
جزئياً، كما في موريتانيا! بل إن بعضاً من الدول المعتبرة أساسيّة في جامعة
عمرو موسى هي غير ناطقة جزئيّاً بالعربيّة مثل السودان أو الجزائر أو
العراق أو المغرب أو حتى مصر..
نصل الآن
إلى الدين: فسوريا بلد هو أبعد من أن يكون بلداً إسلاميّاً، وفق التعريف
السعودي للمصطلح. المسيحيون، بكافة طوائفهم، في سوريّا والمهجر، هم الثقل
الأكبر معرفيّاً وحضاريّاً [لولا الوجود المسيحي في سوريّا ولبنان لكانت
بلاد الشام مثل اليمن أو موريتانيا]؛ ولولا القمع البعثي المتأسلم لنافست
سوريّا، بطوائفها المسيحيّة التي يمكن اعتبارها الرابط الحضاري الغربي
الشرقي، أقوى دول المنطقة الشرق أوسطية، على كافة الصعد. لكن القمع إياه
أدى إلى نزيف مسيحي قاتل من بلد المسيحيّة الأصيل: هل يمكن أن ننسى خطّة
إخلاء الجزيرة السوريّة من السريان والآشوريين؟ هل يمكن أن ننسى هجمة
المسيحيين السوريين لنيل الجنسية اللبنانيّة، ليصبحوا بالتالي مواطنين من
الدرجة الأولى، بدل كونهم أهل ذمّة في وطنهم الأصلي؟ هل باستطاعة المسؤولين
العباقرة تصوّر كم من سيبقى في الوطن من مسيحيين، في ظل هذه الهجمة
الإرهابيّة الأصوليّة البوطوية على سوريّا، إذا ما فتحت أي سفارة أبوابها
لاستقبال مهاجرين من المنطقة؟ من ناحية أخرى، فالطوائف غير السنيّة في
سوريّا، تشكّل مع المسيحيين ما يقرب من نصف عدد السكان السوريين: وهذه
الطوائف، باستثناء قلّة لا وزن لها من الإثني عشريين من أذناب ملالي فارس،
تبدو أقرب إلى العلمانيّة والتحضّر الغربيين منها إلى الإسلام بقالبه
السعودي المثير للتقزّز.
إذا ما
أردنا التوقّف عند مسألة التاريخ المشترك سننتج بسهولة ملفتة أن سوريّا،
على الدوام، كانت معبراً لهذا الجار القوي أو ذاك، بسبب موقعها الجغرافي
الأبعد عن العزلة. فمنذ القدم كان الفارسي يجتاحها وهو يحارب الروماني،
حاملاً معه أعرافه واعتقاداته، خاصّة ميثرا الذي ترسّخ في الساحل السوري
حتى بعد ظهور المسيحيّة، مثله مثل الروماني الذي كان يجتاحها مهاجماً فارس
أو ردّاً لهجوم فارسي على روما؛ وكان هو الآخر يحمل معه كثيراً من بناه
المعرفيّة التي ما تزال أوابدها ماثلة للعيان في مناطق سوريّة لا حصر لها.
كذلك كان الحال قبل الفرس والرومان بين المصريين القدماء والآشوريين وغيرهم
ممن حكموا بلاد الرافدين. من ناحية أخرى، فقد أشارت المفكّرة الشهيرة،
باتريشيا كرونه، إلى أن سوريّا افتقدت على الدوام الحكم المركزي، بعكس بلاد
الرافدين أو حوض النيل، حيث كانت دول المدن الصفة الأميز للوضع السياسي
السوري القديم. بل يمكن القول بثقة إن تفكّك سوريّا ما قبل الغزو الإسلامي
هو الذي سهل على المسلمين احتلالها السريع. هذه اللامركزية، برأينا، عرفت
تعبيراً واضحاً عنها في كثرة الانقلابات في سوريّا قبل استيلاء البعثيين
على السلطة.
إنّ الحديث
عن هويّة واحدة لسوريّا فيه كثير من التعسّف وسوء القراءة للتاريخ السوري،
قديمه وحديثه، وتعامٍ مطلق عن الواقع الديموغرافي السوري المبني أصلاً على
أسس التعدّديّة. هذه التعدّديّة التي نشير إليها باستمرار، والتي تتباهى
بعض دول العالم المتحضّر الآن بأنها جزء من هويتها الثقافيّة، تثبت من
ناحية غنى المجتمع السوري، وقبوله تقليديّاً الآخر [شكل جنيني
للديمقراطيّة] من ناحية أخرى. فإذا كانت سوريّا عربيّة إسلاميّة فحسب،
وكلّنا نعرف أن سوريّا كانت تعبق بالفكر والمعرفة والثقافة قبل الغزو
العربي الإسلامي، فماذا كانت الهويّة السوريّة قبل هذا الغزو؟ سوريّا لم
تكن الربع الخالي وفجأة جاءتها جحافل الغزو الإسلامي لتقيم فيها حضارة!!!
وتعطيها هويّة! الشعب السوري ما قبل الغزو كان يشعر بانتماء ما إلى هذه
الأرض، وما الانشقاقات المسيحيّة ذات الطابع المذهبي القومي الجذور، مثل
النسطورية واليعقوبيّة والمونوتيليّة، التي نشأت بنوع من الردّة على تسلط
الحكم الخلقيدوني، إلا أحد الأدلّة الكثيرة على عمق الإحساس السوري
بالتميّز. بل إن زنوبيا، التي جاءت بلونجينوس الحمصي [لاحظوا: لونجينوس
حمصي وليس كرديّاً] كي يدبّج لها فلسفة وثنيّة سوريّة، وببولس السميساطي كي
يضع لها خطوط فلسفة مسيحيّة سوريّة، إلا دليل يضاف أيضاً إلى سلسلة الأدلّة
التي لا تنتهي على الإحساس السوري العميق بالهويّة قبل الغزو سيئ السمعة
المشار إليه آنفاً.
البعثيون،
وقبلهم المحتل المصري الناصري، أرادوا شطب سوريّا ما قبل معاوية من
التاريخ: وجاءوا بمجموعة من الكتبة والفريسيين من المصابين ببرانويا
الإرهاب المعرفي الإسلامي والشوفينيّة العربيّة، من أمثال الرفيق الأخواني
علي عقلة عرسان، كي يخلقوا جوّاً ثقافيّاً خانقاً لكلّ من يرفض مقولة
"الهويّة العربيّة الإسلاميّة" لسوريّا. وأبسط متطلبات العقل والحريّة؛
تقول: إن النشيد الوطني السوري، الذي يتباهى بكائنات مقرفة من أمثال الوليد
والرشيد، صار عبئاً إضافيّاً على سلة أكاذيبهم الممتلئة أصلاً: ولا بدّ من
تغييره بما يضمن أن يشعر كلّ سوري، في الوطن أو المهجر، بأن النشيد يمثّله.
سوريّا، على
الدوام، كانت جزءاً من الحضارة المتوسطيّة التي وضع أسسها فلاسفة اليونان،
الذين تأثروا، بشكل أو بآخر، بالمخزون المعرفي السوري المغرق في قدمه،
ومحاولة البعثيين، وقبلهم الناصريون، أن يجعلوا من السوري قرداً يمنيّاً أو
جيزانيّاً، هو أجبن اعتداء ـ فهو يتم خلسة وبالقلم لا السيف ـ على الوجود
السوري الذي كان قبل أن يخترع المسلمون آلهتهم وقبل أن يسرق العرب خيرات
الوطن ومعارفه. من هنا، فإن أبسط ما يمكن القيام به، ونحن نرى الانحدار
المعرفي الاقتصادي العلمي الأخلاقي عند العرب المسلمين، هو تقديم طلب
انسحاب مما يسمّى منظمة المؤتمر الإسلامي وبرفقته طلب انسحاب آخر من منظمة
شعبان عبد الرحيم السياسة المسمّاة بجامعة الدول العربيّة، وبالمقابل،
تقديم طلب انضمام إلى المجموعة الأوربية، يعيد سوريّا، كشعب حضاري، إلى
مكانه الطبيعي. فالإنسان، كي يرتقي، يرافق أناساً من نوعيّة راقية، تضيف
إلى رقيّه رقيّاً: لا مجموعة من القرود الوهابيين تعيد الإنسان إلى عصور ما
قبل اكتشاف النار.
القوميّة،
برأينا الذي لا نجبر عليه أحداً، لا تقوم على توافه لغويّة أو خرافات
دينيّة، بل إن مقوّمها الأساسي معرفي ثقافي؛ وما يربطنا حضاريّاً، كسوريين،
على مدى الزمان الموغل في قدمه، بالشعوب المتوسطيّة المتحضّرة، كاليونانيين
والإيطاليين والفرنسيين، أقوى بما لا يقارن مما يربطنا بقرود الوهابيين
المتصحّرة في الربع الخالي واليمن السعيد ونجد.
نبيل فياض
30 يناير 2004
|