الكعبة
يتوجه المسلمون أثناء تأديتهم صلواتهم اليومية الخمس صوب مكّة، حيث تقع
قبلتهم (الكَعْبَة). وقد ذُكرت الكَعْبَة في القرآن باسم "البيت العتيق".
(1)
ما
ورد هذا الاسم لدى الشعراء أيضاً، إضافةً لاسم "البيت المعمور".
إنَّ أقدم وصف
لدينا عنها، هو أنها كانت بناءً مربعاً بسيطاً، وفي وسطه ساحة شبه مربعة،
والحجارة موضوعة بدون مادة تمسك البناء، ولا يزيد ارتفاعها عن ارتفاع قامة
الإنسان، كما أنه لا سقف لها.
في العهد الوثني
كانت الكَعْبَة مركزاً مقدساً لدى قريش كما القبائل العربية الأخرى؛ بيد أنها
لم تكن متفردةً بالتقديس، إذ تذكر المصادر التاريخية الإسلامية أسماءَ بيوتٍ
أخرى كانت لها نفس أشكال التوقير، وترتبط بها عين الطقوس؛ مثل بيت اللاّت،
وذي الخلصة،
ورئام. لا
بل إن المصادر التاريخية تتحدث عن كعبات أخرى، وهي: الكَعْبَة اليمانية،
وكَعْبَة نجران، وكَعْبَة شدّاد، وكَعْبَة غطفان والتي أراد أصحابها أن تكون
بديلاً لكَعْبَة مكّة.
الكَعْبَة هي
البناء المُرَبَّعُ، ولذلك أطلق على هذا البناء المقدس اسم الكَعْبَة. بيد أن
شكلها في الواقع مُعَيَّن مُنْحَرفٍ غير متساوٍ. وليس بوسع العين أن تميز عدم
التساوي هذا؛ لوقوع الكَعْبَة في تجويف، ووجود الكسوة السوداء عليها
.(2)
لم يكن العرب
يبنون بيوتهم بشكل دائري، تقديساً منهم لشكل الكَعْبَة؛ ولهذا فلدينا اسم
(دار) للسكن. وفيما بعد تمّ تجاوز هذا المحرّم؛ فصارت البيوت تُبنى بشكل
مربع. ومن الصعب تحديد تاريخ هذه النقلة، لكن الروايات الإخبارية تعزوها
لأشخاص محددين. ويأتي ذلك في إطار محاولة تعليلية تعبر عن عجزٍ في إدراك هذه
العملية. وهي كانت بدون شكٍ مؤشراً على تطور ديني، قاد لإزالة القيد على بناء
البيوت المربعة.
ربما كانت
الوظيفة الدينية للكعبات أنها خدمت مكاناً للأوثان. إذ يذكرون أن بيت الصنم
ذو الخلصة كان يُسمى الكَعْبَة اليمانية. ولهذا لم يتردد لامنس باعتبار أن
وظيفة الكَعْبَة كانت في الأصل أن تحتوي الحجر الأسود.
(3)
كما
كان بعض المستشرقين يميل لأطروحة أن الكَعْبَة كانت إطاراً للحجر الأسود.
(4)
وإذا علمنا أن
الحجر الأسود الذي يرتبط اسمه بالكَعْبَة لم يكن الحجر المقدس الوحيد، حيث
كان الجاهليون يقدسون الحجارة. فإن أطروحة أن تكون الكَعْبَة صندوقاً للحجر
الأسود، أو أنها بيت لأحد الأوثان لهي أطروحة جديرة بالتبني ما دامت المعطيات
التي لدينا لا تقدم تفسيراً أخر. وبالتالي فأصول تقديس الكَعْبَة يمكن
إيجادها في العقيدة الوثنية التي ترتبط بعبادة الحجارة، وهي العبادة التي
كانت شائعة لدى عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام.
لا شك أن بناء
الكَعْبَة ارتبط بالاستيطان الأول البدوي لمكّة؛ فالأخبار تحدثنا أنه كان في
موضعها خيمة قبل أن تكون كَعْبَة. وقد تقدست هذه البقعة نتيجةً لهذا
الاستيطان الأول، كما يبرهن على ذلك ارتباط الكَعْبَة لا بالحجر الأسود فحسب،
بل ببئر زَمْزَم.
لا يسهل تحديد التاريخ الدقيق لأول بناء للكَعْبَة، والأشكال الدينية التي
ارتبطت كَعْبَة مكّة بها عبر تاريخها قبل الدعوة الإسلامية؛ لكن نمو مكّة
وتوسع نشاطها الاقتصادي أدى إلى تطور في الرؤى الدينية للمكيين، وتالياً إلى
تطور المقدس المرتبط بالكَعْبَة. ولهذا فإنها صارت بشكل ما مركزاً يحيط بها
أوثان العرب.
ولدينا من الروايات ما يؤكد أنه وبعد أنْ أُعيد بناؤها قبل
إعلان الدعوة الإسلامية ببضع سنوات، قام
المكيون بوضع صور
الشجر، والملائكة، وصورة إبراهيم، ويسوع وأمه مريم. وحتى رُوي أنه كان فيها
تمثال مريم ويسوع (عيسى حسب اللفظ الإسلامي). ويرى الأب يوسف درّة الحداد
(5)
بأن
رسم صور المسيح وأمه والملائكة والأنبياء ما بين الطير والشجر عادة مسيحية.
ويستنتج من أن الكَعْبَة قبل الإسلام كانت مقاماً للتوحيد الكتابي الإنجيلي
(ص 600). و في إطار تحليله التاريخي لأصول الدعوة القرآنيّة، وارتباطاً بوجود
شخصية ورقة بن نوفل يصل إلى استنتاج بأن "الكَعْبَة مسجد مسيحيّ قبل القرآن"،
ويعزّز رؤيته بما يرويه صاحب الأغاني من أنَّ سادس ملوك جُرْهَم ـ أهل مكّة
القدماء ـ كان اسمه عبد المسيح بن باقية (ص 678 ـ 679).
تحتاج نظرية الحداد لنقاش واسع، فهي تأتي في سياق بحث معقد يتعلق بمصدر
الإسلام، ونشير إليها هنا من أجل تأكيد تعدد المظاهر الدينية للكَعْبَة جرّاء
تطور المنظومة الدينية القرشية. هذه المنظومة جعلت الكَعْبَة مركزاً وثنياً
وتوحيدياً. لقد أرادا المكيون لكعبتهم أن تكون مثالاً لحالهم الاجتماعية
والاقتصادية. وسعة أفق المكيين سمحت لهم بأن يستعينوا من أجل إعادة بناء
الكَعْبَة بنجارٍ قبطيٍّ كما تؤكد المصادر الإسلامية الأولى. وربما هذا يفسّر
اللّمسة المسيحية في الرسوم على جدرانها الداخلية، والتي تمت إزالتها بعد
استيلاء جيوش المسلمين على مكّة (8 هـ / 630 م).
قبيل إعلان
الدعوة الإسلامية ببضع سنوات تعرضت الكَعْبَة للتهدم نتيجةً للسيول، وذلك
بسبب بساطة البناء الذي كان مكوناً من حجارة بدون ملاط، ولم يكن لها سقف.
فقرر القرشيون إعادة بنائها. وتذكر الكتب الإخبارية أن مُحَمَّداً شارك
ببنائها. وتضفي عليه طبعاً صفة محورية في البناء. وقد تم البناء بطريقة
أفضل حيث زادوا من علوها، وشيد بناؤها بمتانة
أشد.
إن تحوّل
الكَعْبَة مركزاً للعقائد الدينية من وثنية وتوحيدية، يعكس تصيّر مكّة مركزاً
تجارياً كبيراً؛ ولهذا لم يقيض للكعبات الأخرى أن تحقق نفس الحضور، ولا أن
تكون بديلاً للكَعْبَة.
بعد هجرة المسلمين ليثرب، حاول مُحَمَّد استمالة اليهود، بيد أنه أخفق، وإذْ
كان لذلك آثار كبيرة على العلاقة بين المسلمين واليهود، فإن مُحَمَّداً قام
بنقلة خطيرة وماهرة، فحول قبلة المسلمين من القدس، إلى الكَعْبَة. كانت هذه
الخطوة الجريئة تراجعاً عن مناوئته للوثنية، ومحاولة لاستمالة العرب الوثنين
إليه. وقد أثبت فيها محمد بُعد رؤيته السياسية. إن تحويل القبلة صوب مكّة،
مهّد الدربَ نحو القبائل العربية التي كانت تكّن أعلى درجات التوقير
للكَعْبَة. وبهذا فإن الكَعْبَة ذات الأصل الوثني ارتبطت بالإسلام؛ وقد توثقت
الرابطة قبيل وفاة مُحَمَّد، عندما قام بإدماج الحج الوثني من خلال التقيد
بشعائره أثناء حجه الأخير، والذي يعرف في المصادر الإسلامية باسم "حِجَّة
الوَدَاعِ" ( 10 هـ / 632 م)
مع مُحَمَّد،
صارت الكَعْبَة الوثنية رمزاً للإله المتعالي؛ ولهذا جدَّ المسلمون في إيجاد
العلاقة بين كَعْبَة مكّة واللّه؛ فقاموا بربط كَعْبَة مكّة بسيرة الكون.
وبهذا فإنهم دفعوا تقديس كَعْبَة مكّة قدماً، وقذفوا الكعبات الأخرى في غياهب
النسيان.
إنَّ عملية تأصيل كَعْبَة مكة استدعت البحث عن المثال الأول لها، عن النموذج
الكوني، وهذه سيرورة تختص بها العقائد الشرقية. فالمرويات الإِسلامية تذكر أن
الكَعْبَة كانت ياقوتة من يواقيت الجنة. وجاء في "أخبار مكّة للأزرقي"، رواية
تقول إِن الكَعْبَة خُلقت قبل أنْ يخلق اللّه الأرض بأربعين سنة. وتقول
الأسطورة إن اللّه وضع بيتاً تحت العرش على أربع
أساطين
من زبرجد وغشاهن بياقوته؛ ثم إنه طلب من الملائكة أن يبنوا له بيتاً في الأرض
بمثاله. ونجد لدى الأزرقي مادة واسعة من الروايات الأسطورية الخاصة
بالكَعْبَة والحجر الأسود وبئر زَمْزَم؛ وهي أوسع من قصص الأنبياء للثعلبي،
وابن كثير.
على الرغم من أن الكَعْبَة كانت تتمتع بقدسية خاصة لدى عرب
الجزيرة العربية، والمسلمين إلاّ أنها تعرّضت مرراً للتدنيس؛ فتروي الأخبار
بأنه سُرق ما كان يُهدى إليها مرّة بعد مرة أيام جُرْهَم. وفي العهد
الإسلامي، وبالتحديد، في سنوات حكم يزيد بن معاوية تعرضت الكَعْبَة لحريق
أصابها بدمار شديد. كان ذلك لمَّا حاصرت قوات الأمويين سنة (64 هـ) بقيادة
الحصين بن نمير السَّكونيّ مكّة بسبب تحصَّن عبد اللّه بن الزبير فيها. لقد
قامت قوات الأمويين بضربها بالمنجنيق، حتى أن حجارةً أصابت الكَعْبَة. وبعد
أن وصل خبر موت يزيد، انسحبت القوات الأموية. ومن أجل ترميمها، قام ابن
الزبير بهدمها، ثمّ أعاد بناءها. لكنه أنجز ذلك بعد أن خاض مجادلات حادة مع
الشخصيات الاعتبارية في مكّة لإقناعهم بوجهة نظره.
وبعد ثماني سنوات، وجه عبدُ الملك بن مروان الحَجَّاجَ بنَ يوسفَ لقتال ابن
الزبير، ولم يتردد الحجاج بضرب مكّة بالمنجنيق منتهكاً الحرمة التي أعلنها
مُحَمَّد على مكّة في حِجَّة الوَدَاعِ. نجح الحجَّاج في سحق ابن الزبير، ولم
تمض أشهر، وفي سنة (74 هـ) حتى قام الحجَّاج بنَقْض بنيان الكَعْبَة، فأعادها
على بنائها الأول تنفيذاً لأمر عبد الملك بن مروان. كان واضحاً أن ابن مروان
لم يكن يقبل المحافظة على بناء الكَعْبَة كما بناها ابن الزبير، بحيث ترتبط
بشكلها الهندسي بأحد أعداء الحكم الأمويّ الألداء. وبكل الأحوال فإن
الحَجَّاج أثبت بذلك أنه من الشخصيات التاريخية الفذة والكبيرة، والتي انتهكت
حرمة المقدس الإسلامي مرراً: فهو قد ضرب مكّة بالمنجنيق، وأعاد بناء
الكَعْبَة لا لضرورة فنية، كما كان يجري بسبب تصدعات، بل لضرورة سياسية.
ويورد السجستاني في كتاب "المصاحف" باباً بعنوان: (ما غيّر الحجّاج في مصحف
عثمان) ويحصى للحجاج تغيره أحد عشر حرفاً، فمثلاً: "شَرِيَعَةً وِمِنْهَاجاً"
فغيره "شِِرْعةً وَمِنْهَاجَاً"؛ و "فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاتَقَوا
لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير" فغيرها "مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا". وهذه الأعمال لا تسيء
للحجاج، بل تعلي من شأنه؛ لأنها تدلل على قدرة كبيرة، وفهم عميق، سمح له
بالتجرؤ على المقدس الخاص به في إطار مشروع بناء الدولة الذي كان يعمل على
إنجازه. على عكس الوليد بن يزيد الذي عُرف بانتهاكه للمقدس بدون أن يحمل
وعياً أو مشروعاً سياسياً. ذلك ما ترويه سيرته، وفيما يتعلق بالكَعْبَة،
تخبرنا المصادر أنّ الوليد سعى لانتهاك قدسيتها في عهد حكم عمه هشام بن عبد
الملك؛ ذلك أن هشاماً كلّفه مهمة الأشراف على الحج سنة (119 هـ)، فحمل معه
قبّة على قدر الكَعْبَة ليضعها عليها، وحمل
معه خمراً، وأراد
أن ينصب القبَّة على الكَعْبَة، لولا منع أصحابه له، خوفاً من ثورة الناس
عليهم.
لم تدفع هذه الأحداث والانتهاكات للكَعْبَة بالعقل الإسلامي إلى البدء بعملية
نزع صبغة المقدس عنها. ولهذا ففي سنة (1019 هـ)، لمَّا تعرضت الكَعْبَة
لتشققات، وازدادت التصدعات نتيجةً للأمطار، رفض العلماء المسلمون إعادة
بنائها أو ترميمها. فوُضع للكَعْبَة نطاق معدني نحاسي مغلف بالذهب. لكن ذلك
لم يحل دون انهيارها سنة (1039 هـ)، نتيجةً لأمطار غزيرة وسيول. وهذا ما أثار
في نفوس الأهالي ذعراً كبيراً.
الحجر الأسود
وكما قلنا آنفاً، فثمة رأي يفيد بأن الكَعْبَة ربما كانت صندوقاً للحجر
الأسود. ويبدو أن الحجر الأسود حجر نيزكي، أو جزء من معبود مقدس قديم. وهو
موضوع على الزاوية الجنوبية ـ الشرقية، بارتفاع خمسة أقدام عن الأرض. وعلى
الأغلب فإنَّه صُقل من الملامسة عبر القرون.
نقطة أخرى، ثمة حجر أقل شهرة، يقع في الجزء المواجه للجنوب، والمسمّى الرّكن
اليمانيّ. وبهذا فإنّ عبادة الحجارة تقع في صلب الإسلام رغماً عن إعلانه أنه
دين توحيدي. وعندما يروي الرواة المسلمون التاريخ القبل إسلامي، فإنهم يشيرون
إلى الجذر الوثني للحجر الأسود، لكنهم يتجنبون الخوض في شأنه، ولا يحاولون
تفسير سبب تقديسه في الإسلام. وهذا يدلل على قوة الأسطورة التي تحكم على
ملكات المؤرخ، فلا تستوقفه هذه العلاقة، ويقبل بتوقيره وتقديسه، مع أن
الإسلام ظاهرياً يرفض الوثنية، والوسائط.
إن تقبيل الحجر
الأسود الذي دخل في الإسلام، يرتبط بالموقف السياسي لمُحَمَّد، الذي كان يريد
كسب عرب الجزيرة العربية، وقام في أواخر حياته بتقديم تنازلات أخرى لصالح
الوثنية، وذلك من خلال تبني مراسيم الحج الوثنية. ويُروى عن لسان عُمَرَ بنِ
الخطّابِ قوله بعد أن قبّل الحجر الأسود في خلافته: "
واللّه
لولا أنّي رأيت رسول اللّه قَبّلك ما قبَّلتُك. ولقد أعلم أنك حجر لا تضرّ،
ولا تنفع". والواقع ليس التزام عمر بالموقف المُحَمَّدي، هو ما دعاه لتقبيل
الحجر الأسود، وهو الذي عُرف عنه اعتراضاته الشديدة والدائمة على قرارات
مُحَمَّد في قضايا مختلفة، مثل موقفه من أسرى قريش بعد معركة بدر؛ ورفضه صلح
الحديبية. ولاحقاً أثناء خلافته قيامه بالاجتهاد في موقع النص القرآني. إِنّ
الحقيقة تكمن في إدراك عمر
لأهمية توقير
الحجر الأسود لدى عرب الجزيرة العربية. وبالتالي كان تقبيله الحجر الأسود
يصدر عن الرؤية السياسية وضرورة كسب أهل الجزيرة العربية الوثنيين.
بدوره تعرَّض الحجر الأسود مرات عدة لانتهاكات تنال من قدسيته، ففي عام (317
هـ) تمكن القرامطة من قلعه وذهبوا به إلى البحرين فبقي هناك إلى عام (339
هـ)، حيث تم إرجاع الحجر الأسود ليتم تطويقه بطوق فضي. وتروي بعض الأخبار أن
رجلاً روميّاً حاول سنة (363 هـ ) قلع الحجر، لكنه تعرّض للقتل فوراً. كما
تعرّض في العصر الحديث لمحاولة سرقة، ففي سنة (1351 هـ / 1933م) جاءه أفغاني
فسرق قطعة من الحجر الأسود وقطعة من أستار الكَعْبَة وقطعتي فضة، فكان جزاؤه
الإعدام.
بئر زَمْزَم
إِنَّ نشأة الحرم المقدس بالترافق مع الاستيطان الأوّل، اشترط توفر المياه
له، ولهذا ارتبط بئر زَمْزَم بهذين المقدسين (الكَعْبَة، والحجر الأسود).
والمؤرخون المسلمون يتحدثون عن نشأة أسطورية لبئر زَمْزَم، ويربطونه بإبراهيم
وإسماعيل. وثمة تفصيل يتحدث عن أن جُرْهَم قاموا بدفنه حين رحلوا عن مكّة؛
فقام عبد المطلب بن هاشم ـ جد مُحَمَّد ـ بإعادة اكتشافه. والراجح أن هذا
التفصيل مضافٌ للإعلاء من مقام مُحَمَّدٍ، أو أنَّ عبد المطلب قام فعلاً بحفر
بئر زَمْزَم، ولاحقاً رُبط بالعهد قبل الإسلامي، ونسب إلى إبراهيم. وربما
كانت هذه القضية مترافقة مع تطور الدعوة الإسلامية، والتحول إلى ما يُدعى
أنّه الديانة الإبراهيمية. وبهذا فإن استقصاء التاريخ الخاص بالبئر لا يمكن
أن يتم بمعزل عن السياقات التاريخية للحركة الإسلامية.
إن القصص التي
تتحدث عن الكَعْبَة والحجر الأسود وبئر زَمْزَم، نُسجت لتبرير الرابطة بين
الإسلام وبين الوثنية العربية، ولإضفاء الصفة الإلهيّة على المعبودات
الوثنية.
من الناحية
العملية كان بئر زَمْزَم أغنى بئر بالمياه في مكّة. لكن التحليل الذي أجري
لمياهه في القرن التاسع عشر بيّن أنّها ليست صالحة للشرب؛ فحسب النتيجة التي
نُشرت في "المجلة الطبية البريطانية" يونيو (حزيران) 1894، تبين أن مياهه
تحتوي على كمية من الأجسام الصلبة، أكثر من أي بئر يسُتعمل لغايات الشرب.
(6)
*
* *
إن بقاء تقديس
الكَعْبَة، والحجر الأسود، وبئر زَمْزَم، تبين ارتباط الإسلام الشديد
بالوثنية. كما تظهر عجزه عن تجاوز البيئة الوثنية التي نشأ فيها. إن الإسلام
لم يتمكن من إنتاج ثقافة تتجاوز هذه الآثار الوثنية التي دخلت في منظومة
عبادته أبان نشأته لأسباب سياسية. كما تبين التناقضات العميقة التي تميّز
الإسلام؛ فمن جهة يرتبط بالتوحيد الإلهي، ويتعالى معه للسماء، ويرفض الوسائط؛
ومن جهة ثانية، يوقر أشد درجات التوقير هذه التجليات الوثنية، والحجارة،
ومعابد الحجارة. إنّ هذه الثنائية توحيدية ـ وثنية، وإذ تحكم مظهر عباداته،
فإنها تحكم بدورها، كل منظومته، فتسمها بالتناقض، فتسم الشخصية الإسلامية
بدورها بالتناقض.
مصادر المقال الإضافية
المفصل في تاريخ
العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، المجلد السادس، الطبعة الإيرانية؛ الرَّوْضُ
الأُنف في شَرحِ السِّيرَة النَبويَّة لابن هِشَام
للسُّهَيليّ
؛ تاريخ الأمم
والملوك للطبري؛ السيرة النبوية لابن هشام؛ قصص الأنبياء للثعلبي وابن كثير؛
معجم البلدان، مادة الكَعْبَة.
1 ـ
ورد ذكر
الكَعْبَة في القرآن في: سورة البقرة: 2 / 125 ـ 127، 191، 217؛ سورة المائدة
: 5 / 2، 95، 97؛ سورة الأنفال: 8 / 34 ؛ سورة التوبة: 9 / 7 ؛ سورة الفتح:
48 / 25، 27 ؛ سورة قريش: 106 : 3.
2 ـ
Arabia- The Cradle of Islam
, by
S. M. Zwemer, p 35
3 ـ
slam- Beliefs and Institutions
– H.
Lammens, translated form the French by Dension Ross, London, 1929.
tammuzm@lycos.com
|