الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

 

 

بقلم مالِك مِسْلِماني

tammuzm@lycos.com


 انحطاط العقل الفقهي

 قراءةٌ في كِتَابِ: سَدَنَةُ هَيَاكِلِ الوَهْمِ "نقد العقل الفقهي" لعبدِ الرَّزاق عِيد*

السَّدَنة في اللغة مفرد سَادن وهي مفردة تشير إلى الطور الوثني في العلاقة بين الإنسان والمقدس، إذْ كان السَّادن يرعى تمظهر العلوي في الجزيرة العربية، فهو خادم الكعبة و بيت الأصنام. السَّادن هو الشخصية التي تتصدى للوساطة بين البشر والقوى الماورائية. وعبر رعايته للمكان المختص بالقداسة يوثّن السَّادن العلاقة بين الإنسان والمتعالي. والإسلام رغم كونه ديناً توحيدياً إلاّ أنه بقي يحتفظ في بنيته الداخلية بالأنساق الوثنية. ويبدو أنّ البُنَى الوثنية للأديان ترتبط باستحالة بلوغ العقل الديني طور الفلسفة. وهذا ما شكّل في الإسلام الأس الفكري لاستمرار السدَّنة، الذين لم يألوا جهداً في تعزيز الخرافي للحفاظ على هيمنتهم على البشر. لقد اصطدم الفكر الديني المستنير، الذي يريد تحرير عقل الإنسان من الخرافي بأولئك الذين يريدون تحويل المقدس إلى سلسلة في عنق الإنسان، وتغييب العقل لصالح الخرافة. وسمّى محمد عبده أولئك الذين قاوموا إدخال العلوم الطبيعية، والجغرافية، والرياضية إلى الأزهر "سدنة هياكل الوهم" (ص 109)، ولم يتردد مؤلف الكتاب، الباحث عبد الرزاق عيد في استعارة المصطلح من محمد عبده، ذلك أن موضوع كتابه يتعلق بنقد العقل الفقهي، وهو ما كان جوهر معركة محمد عبده الإصلاحية (ص 179).

سياق الكتاب

وإذا كان الباحث قد شرع بمحاورة الفكر الديني من خلال تفكيك آليات العقل الفقهي، فإنه جاء في سياق مشروع نقدي، كان قد تناول الفكر القومي والماركسي من خلال مجموعة كتب ( "طه حسين: العقل والدين ـ بحث في مشكلة المنهج"؛ "الثقافة الوطنية / الحداثة ـ مشكلة الهوية"؛ "ياسين الحافظ ـ نقد حداثة التأخر"؛ "أزمة التنوير ـ شرعنة الفوات الحضاري"). حيث قام المؤلف فيها بعملية استفتاء العقل النهضوي التنويري في تجربة الفكر القومي والماركسي. في الكتاب موضوع القراءة يقوم المؤلف بوضع تجربة الفكر الديني المعاصر بمواجهة عصر النهضة من خلال استفتاء مقارن بن عقل مدرسة الإصلاح الديني (محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، رشيد رضا، علي عبد الرازق، عبد الرحمن الكواكبي، عبد الحميد الزهراوي )، وعقل التردي الفقهي ممثلاً بالممارسة الفكرية والنظرية للفكر الديني المعاصر. وقد حاور الفكر الفقهي من خلال مناقشة ممثله النموذجي البارز ـ سعيد رمضان البوطي، الذي يُعتبر مثقفاً إسلامياً "أكاديمياً"، والذي كان عميد كلية الشريعة في دمشق، حيث أشرف على إنتاج المنظومة الدينية، الفقهية والسؤال الذي يطرحه الكاتب في كتابه هو:

((مدى إمكانية هكذا وعي على الانتظام في سلسلة فكر الإصلاح الديني، أم أنه انقلاب عليه، وقطيعة فكرية ومنهجية مع تقاليده؟)) (ص 12). والمؤلف يقر بأن ثمة مغامرةً في نقاشه للبوطي، لكونه قادراً على إطلاق حكم الردة في موضوع يتعلق حتى ولو بعالم الجن و الشياطين (ص 7)، لأنه يعتبر الإيمان بها من أشراط قيام الساعة مثل ظهور يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، والدجال، وغيرها من الضروريات التي لابد منها للإيمان بالكتاب والسنة (ص 100 ـ 101). فكيف الحال، والباحث يفكك البنية الأساسية للنظرة المشيخية للعالم. منهج البحث لدى البوطي / الدائرة المغلقة وفق البوطي، يتلخص البحث العلمي لدى المسلمين في قاعدة جليلة كبرى، هي قولهم: "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعياً فالدليل". وبالتالي فإنّ العلم والبحث العلمي والمعرفة ليست إلاّ معرفة صحة الخبر والرواية والسند، والأدوات العلميّة لذلك، يدعوها "فنوناً": فن مصطلح الحديث، وفن الجَرْح والْتَعْدِيْل، وعلم الرجال. وهكذا فإنّ البحث هو بحث عن حقيقة منجزة، اكتشفها قبلنا السلف وسلف السلف، ولا ندري نحن الخلف ماذا تبقى أمامنا للبحث عن الحقيقة، ما دامت قد قيلت ووصلتنا بالخبر المتواتر اليقيني الذي لا يتواطأ على الكذب. إنّ العلم وفق هذا المنظور هو مجرد "تذكير" بهذه الحقائق؛ وعندها تغدو وظيفة العلم، والبحث العلمي هو تذكير الناس بما عرفوه ويعرفونه، وصدقوه ويصدقونه (ص 25)؛ ولهذا، فإنّ ما ينتجه الخطاب الفقهي الوعظي المنبري هو معاودة القول، وهذا ما نتلمسه في خطاب البوطي عبر كتبه الكثيرة، التي تقرأ الواحدة منها فيكفيك عن مجملها؛ لأن النظام المعرفي الذي تنتهجه فقهياً غير قادر على إضافة معنى جديد في الذهن، أو فكرة جديدة في الوعي، أو معلومة تضاف إلى الذاكرة؛ فهو ليس إلاّ إنعاشاً للذاكرة بما يتداوله الوعي الثقافي الإسلامي العامي من معلومات تلقاها منذ الطفولة في ساحة المسجد أو على مقاعد المدرسة (ص 8 ـ 9). ولذلك فإن الباحث عيد يختار كتاب البوطي الرئيس "كبرى اليقينيات الكونية"، كونه من بواكير إنتاجه (الطبعة الأولى 1969)، حيث قال فيه كل ما لديه، ولم يضف جديداً على مدى أربعة عقود كتب فيها البوطي كتباً كثيرةً (ص 15). السؤال التفكيكي / نقد التواتر يرى الخطاب الفقهي المشيخي أنّ العلم والبحث العلمي هو البحث عن حقيقة في الماضي، وأنَّ السلف قد نقلوا إلينا الخبر الصحيح الذي يرتقى إلى مستوى اليقين. لكنّ المؤلف يطرح سؤالاً عن إنْ كان ثمة في سياق علوم النقل خبر يرتقى إلى مستوى اليقي. ويأخذ تاريخ نبي الإسلام، بوصفه الشخصية المركزية في هذا التاريخ، ليجد أن الروايات تختلف عن مبلغ سنّه لحظة وفاته (60، 63، 65 سنة). وقد يكون مبلغ سنّ محمّدٍ لحظة وفاته مسألة فيها خلاف كون لم يتم التوثق من ميلاده بسبب غياب نظام الكتابة في مكة، وكون الرّواة لم يشهدوا بأمّ أعينهم ولادته، لكن عندما نأخذ حدثاً كبيراً في مرحلة الإسلام الأول، وهو حدث وفاته فإننا نجد أن الروايات لا تتفق على يوم وفاته ويوم دفنه. فتقول أولى الروايات، إنّ محمداً رحل في الثّاني من ربيع الأول 11 هـ / حزيران (يونيو) 632 م؛ بينا تقول ثانيتهما، إنّ وفاته كانت في 12 ربيع الأول لنفس العام. و لم يتوقف الخلاف عند هذه النقطة، بل تعداه إلى يوم دفنه الثرى؛ فقيل دُفن يوم الثلاثاء، وذهب البعض إلى القول بأنّ مُحمَّداً بقي مسجى ثلاثة أيّام ولم يُدْفَن إلاّ في يوم الأربعاء. والأشد عجباً بصدد تاريخ وفاة مُحمَّدٍ يورده عيد نقلاً عن الطبري، فيقول: ((يبدو لنا من خلال إحدى الرّوايات وكأنّ هناك خلافاً حول تاريخ وفاته ليس بالشهر واليوم فحسب، بل في أية سنة، هل هي السنة الحادية عشرة للهجرة كما هو متفق، أم في السنة العاشرة؟)) (ص 36). بعد ذلك يتساءل المؤلف: ((هل يمكن أن يضطربوا كل هذا الاضطراب في تحقيق الخبر المتواتر عن حدث جليل كموت نبيهم أعظم من في هذه الأمة، بينما هم قادرون على التواتر في حفظ أقواله..!؟)) (ص 38). إذاً، كيف للمنهج العلمي ـ حسب البوطي ـ أن يقدم لنا التواتر اليقيني على مستوى الأقوال ولا يتحقق ذلك على مستوى أحوال مؤسّس الإسلام؟ وبالتالي فنحن أمام استحالة يقينية الأقوال ما دام ذلك كان على مستوى حدث كبير مثل حدث وفاة محمدٍ. ابن عباس ومولاه عكرمة، وأبو هريرة والموقف منهم وفق قواعد الجَرْح والْتَعْدِيْل طور العلماء المسلمون منهجاً أطلقوا عليه اسم "عِلْم الجَرْحِ و الْتَعْدِيْلِ" يبحث بحال الرواة لتبين صدقهم من كذبهم؛ وقد قام الباحث بتوظيف هذا المنهج عندما عرَّض ثلاثة من الرّواة البارزين للجرح: وهم ابن عباس، وعكرمة، وأبي هُريرة. ماذا تخبرنا كتب السِّيَر والتاريخ عن تلك الشخصيات؟ أبو هريرة ففيما يتعلق بأبي هُريرة، هذا الرجل الذي تملأ أحاديثه ليس كتب الصحاحين فحسب، بل والكتب المدرسية، نجد أنه صار عاملاً لعمر بن الخطاب على البحرين بعد أن كان من مساكين المجتمع الإسلامي في عهد محمدٍ، وقد عزله عمر عن ولاية البحرين، وضربه لسوء أمانته. ويقول المؤلف بصدده: ((والرجل كان على درجة من الذرائعية النهازة حتى يمكن اعتباره النموذج البدئي لمثقف السلطة في التاريخ العربي الإسلامي، فقد قبل أن يكون عميلا للأمويين، حيث وضع نفسه وعلمه تحت تصرفهم، فوضع أحاديث كثيرة للإشادة بهم، فكافأه معاوية على تعاونه "الأمني" فولاه على المدينة، وأغدق عليه الأمويون الأموال وزوجوه بسرة بنت غزوان ـ أخت الأمير عتبة بن غزوان ـ بعد أن كان خادماً لها، وبنوا له قصراً في العقيق، وبهذا يمكن تقويمه جدّا لخط فقهاء السلطة، ووعاظ السلاطين حتى يومنا هذا الذي ينتهي إلى الحفيد الشيخ الدكتور البوطي)) (ص 64 ـ 65). عكرمة أما عكرمة ـ مولى ابن عباس ـ، فقد اُتهم بأنّه يرى رأي الخوارج، وبأنّه كان يقبل جوائز الأمراء، واُتهم أيضاً بالكذب، ويتساءل المؤلف إنْ كان التشكيك بوثوقية عكرمة ليس إلاّ تشكيكاً بسيده ابن عباس، لكن رفعة مكانة السيد حالت دون ذلك، فتوجهت التهمة إلى المولى ـ أي عكرمة (ص 59). ابن عباس، وهل هو حبر الأمة وترجمان القرآن؟ إنَّ مسلك ابن عباس الأخلاقي، والروايات المتوفرة حوله تجعل صدقية ابن عباس كراوٍ عدلٍ محل شك، فعندما تناهت إلى عليِّ بن أبي طالب شكوك بصدد نزاهة ابن عباس، كتب عليٌّ إليه طالباً إعلامه بشأن الجزية ومن أين أخذت وفيما وُضعت. عندها تخلى ابن عباس عن عمله في البصرة، لكن بعد أن أعلن أن أموال البصرة هي أمواله وأموال بني قومه؛ حيث استدعى أخواله من بني هلال بن عامر، وانضمت قيس إليهم، فوضع ابن عباس الأموال، قائلاً: ((هذه أرزاقنا اجتمعت))، فتبعه أهل البصرة فلحقوه بالطّفّ يريدون أخذ المال، تلك هي الصيغة التي يختارها ابن الأثير عن الطبري. بينما الطبري يضيف رواية أخرى تفيد أن ابن عباس لم يبرح البصرة إلاّ بعد مقتل علي بن أبي طالب، فيمم صوب الحسن فشهد الصلح بينه وبين معاوية، لكن هذه الرواية، إذ تفترق في زمن الحدث، لكن الحدث كواقعة لا تغيره الرواية الثانية التي تقر بحمله للمال (ص 72). هذه الواقعة حدثت في سنة 40 هـ، في سنة اغتيال علي بن أبي طالب، وفي السنة التي يكون فيها ابن عباس قد تجاوز الخمسين من عمره، أي اكتملت خصائصه ومميزاته الشخصية، بل وعطاءاته على مستوى التفسير والسنة وفقهه الرباني. ولاحقاً ستجعل صلته وعلاقته بمعاوية بن أبي سفيان منه مثلاً أعلى لصورة الفقيه السلطاني بالنسبة للفقهاء الأحفاد أضراب البوطي، ومن لف لفه من فقهاء اليوم (ص 76 ـ 77). إنّ الوقائع التاريخية ترسم لنا حقيقة أنَّ ابن عباس ليس حَبراً وترجماناً، بل مجرد نهّاز، يجري وراء الفرص، يقدم "الغنيمة" على "العقيدة"، وعندما نحاكمه بشروط الجَرْح والْتَعْدِيْل نجد أنَّ شرط العدالة غير متوفر فيه، حيث تُشترط العدالة بالتقوى والمروءة. ابن عباس هوميروس العرب في سياق مناقشته لممثل العقل الفقهي المشيخي، يتوقف المؤلف عند عبقرية ابن عباس التخيلية الميثية، فيجد في تفسيره للقرآن، وروايته للإسراء والمعراج، وتأويلاته لعالم الخلق والكون كنزاً ميثولوجياً مدهشاً، ويتأسف الباحث على كون الفقهاء والمفسرين ضيعوا على الثقافة العربية والتراث العربي هذه الثروة الشعرية السحرية، إذْ لو جُردَّ ابن عباس حسب الباحث من اللبوس الفقهي الوعظي المقدس لاكتشفنا فيه قيمة فنية وإبداعية تؤهله لأن يكون هوميروس العرب، وعندها لن نكون مرغمين على البحث في سيرة الفنان أو الشاعر أو الأديب عن صفات العدول الثقة. فأجمل الحكايات والروايات الملحميّة هي ما تخترنه من غرائبيّة، وفضاءات طقسيّة سحريّة (ص 91). لكن البوطي، ممثل العقل الفقهي يعتبر هذه الميثولوجـيات حقائق تاريخيّة، مما جعله عاجـزاً عن تحسس جماليات التخييل الفنّي (ص 93). الإسراء والمعراج في الجزء الخاص بإسراء ومعراج ابن عباس، يؤكّد المؤلف على أنّ نصّ الإسراء والمعراج المتداول اليوم باسم ابن عباس هو نتاج جماعي، كان يعاد صياغته وفق أسئلة الثقافة الدينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة لهذه المرحلة التّاريخيّة أو تلك. وبالتعارض مع البوطي يشيد الباحث بالدكتور لويس عوض، الذي أشار إلى أهمية نص معراج ابن عباس، وقارنه بـ "الكوميديا الإلهية" لدانتي. والدكتور عيد في هذا الفصل إذ يتابع معاورة الجرح والتعديل من خلال محاجته لابن عباس ولمبدأ التواتر النقلي، فإنَّـه يقدم مثالاً يكتسـب دلالة هامة وكبرى بالنسـبة للفكر الديني المتداول في (الثقافة العالمة والعامة) معا، وذلك عندما يستند إلى المنقول (العقلي) مادام متوفراً في مواجهة المنقول (الميثي) وذلك من خلال اعتماده رواية عائشة عن الإسراء و المعراج، بأنَّه إسراء مُحمّدٍ بالروح لا بالبدن، في مواجهة الروايات النقلية الأخرى القائلة بالعروج بالبدن! من المفارقات أنّ البوطي يطالب الدولة بمصادرة وإتلاف نص ابن عباس، هذا النص الذي مارس تأثيراً كبيراً لا على الآداب التّركيّة والفارسيّة فحسب، بل على الآداب الأوروبيّة، إذْ كانت دراسـات كثيرة قد أكدت تأثير هذا النص (وكذلك "رسالة الغفران" للمعري) في الآداب الأوروبية ("الكوميديا الإلهية" لدانتي، وملحمة "أغنية رولان"). يتهم البوطي معراج ابن عباس بأنّه من الإسرائيليات، لكن عيد ـ مؤلف الكتاب ـ يرى أن نص ابن عباس هو أكثر روايات المعراج بعداً عن الإسرائيليات، ودفاعاً عن الذاتية الثقافيّة للأمة الإسلامية والعربية أيضاً (ص 143). إنّ الفني والإبداعي في إسراء ومعراج ابن عباس، يسقط كل الافتراءات الإسرائيلية التي تسربت إلى روايات المعراج الأخرى، إذْ لم يعد محمدٌ يقول أمرني موسى، ولم يعد يقوّل خطاباً يعلي من شأن بني إسرائيل ويقرّ بضعف أمته أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً. ويورد الباحث جزءاً من الرواية المنسوبة لابن عباس، والتي يرى فيها رداً على الاستعلاء اليهودي ونفوذ الإسرائيليات، يكتب: ((فلما دنوت ـ أيْ محمدٍ ـ منه نظر إليَّ و جعل [موسى يقول]: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم الخلق على اللَّهِ، وهذا ـ مشيراً إلى محمّدٍ ـ أكرم مني على ربه، هذا النبي القرشيّ الهاشميّ العربيّ الأبطحيّ، هذا الحبيب الكريم، هذا العظيم، هذا محمد الأمين ابن عبد اللّه بن عبد المطلب)) (ص 146). إنَّ الوعي الاجتماعي بالهوية، والأنا الثقافية للأمة، جعلها تستنكر هذه الاستهانة بهويتها وأناها الحضارية التي تعج بها روايات الإسراء والمعراج؛ في حين أن أشد مظاهر حضور الإسرائيليات نجدها في رواية أنس بن مالك، وكلِّ القراءاتِ الأربعين التي أحصاها ابن كثير. ويبلغ هذا الاستعلاء اليهوديّ والدونيّة العربية في رواية أنس بن مالك حداً من ساديّة الآخر ومازوخيّة الأنا، حيث يقول محمدٌ وحسب ما لقنه إياها موسى، بأن أمته أضعف الأمم قلوباً وعقولاً، وأبصاراً. ختاماً يشكّل هذا الكتاب حجر زاوية جديد في بناء الفكر العربي العَلمَاني، ذلك أن نفي التواتر ـ الأطروحة الأهم والأخطر في الكتاب ـ هو طريق تمهيد لمقاربة النصوص المقدسة وفق منهجية تاريخية تقبل النص وفق "معقوليته" (العقلانية) فتدرجه في إطار الثقافة (العالمة)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وفق "حقيقيته" (الواقعية) المتوضعة في الثقافة (العامة) بوصفه يمثل الجانب الميثي، الشعري، الفني، الذي يستجيب لتعطش ذات الفرد الإنساني نحو المطلق، ليتابع بذلك تقاليد العقلانية العربية منذ الاعتزال، مروراً بابن رشد، وصولاً إلى مدرسة الإصلاح الديني الحديثة (مدرسة محمد عبده)، إذ الحفر من أجل فك الارتباط بين الميثوث واللوغوس، بين الديني والدنيوي، بوصفهما نسـقين متغايرين على اعتبار أن أدوات الأول الإيمان، والثانـي البرهان، أيْ الأول الديني (القيم) الذي لا يقبل (لماذا، وكيف) حسب تعبير أبي حيان التوحيدي المعتزلي، والثاني الدنيوي (الوجود) الذي أداته البرهان لارتباطه بعالم الحس والتجربة والنسبية والصيرورة.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها