الإعلام المصرى والغرق فى الوحل
لقد تجاوز وضع الإعلام المصرى مصطلحات مثل المحنة والأزمة والسقوط
والنكسة، لقد أصبح الإعلام المصرى غارقا فى الوحل بالفعل، حتى أننى
اتساءل أحيانا هل يمكن أن نطلق عليه إعلام من الأساس؟..أما المسألة
المؤكدة فهى أن الدولة العميقة فى مصر شريك أساسى فى إغراق هذا الإعلام
فى هذا المستنقع الأسن. إن وجود برنامج مثل الصندوق الأسود معناه أن
هناك أطرافا فى الدولة العميقة وصلت إلى قمة الأنحطاط، ففى مقابل
الإعلام الإرهابى الذى ترعاه جماعة الاخوان المسلمين وحلفاءها،هناك
الإعلام العفن الذى ترعاه الدولة العميقة فى مصر بمساعدة رجالها سواء
فى الصحافة أو فى قطاع الأعمال، من يدعم ويقف وراء أمثال أحمد موسى
ومصطفى بكرى وعبد الرحيم على ومحمد الغيطى وتوفيق عكاشة وخالد صلاح
ومجدى الجلاد؟........والقائمة طويلة جدا، من جعل من هلافيت ساقطين
مليونيرات ونجوم مجتمع؟، هل توجد دولة محترمة فى العالم بها صحافة تهدد
مواطنيها أنها تتجسس عليهم؟، وتقول للمستثمر لا تأتى إلينا لأن كل
خطواتك مراقبة ومسجلة وسيذيعها سى عبد الرحيم على؟، هل توجد دولة
محترمة فى العالم تصدر بها صحف ووسائل إعلام دون معرفة من يملكها أو
يمولها ومن يدفع خسائرها؟.هل تنافسنا صحافة أخرى فى كم الأكاذيب
والتجنى والتشويه المتعمد للناس مثل الذى ينشر فى صحافتنا؟. فى أحدى
البرامج قال المخرف محمد الغيطى أننى زرت إسرائيل عدة مرات، وأننى
طالبت أمريكا بضرب مصر عسكريا بدون أن يقدم دليلا أو قرينة أو حتى خبر
مفبرك يؤيد هذه الأكاذيب؟..
فى تقرير للمخبر عبد الرحيم على كتب بروفيل عنى أننى راعى الشذوذ
والالحاد والإرهاب!!!....تخيلوا أنا راعى الإرهاب والشذوذ
والالحاد!!!... فى خبر آخر أننى راعى وممول الفيلم المسئ لنبى
الإسلام!!!..هذه مجرد أمثلة على فجور بعض وسائل الإعلام فى مصر. وهناك
آلاف القصص المشابهة التى تخص غيرى.
يبقى السؤال ما هى الأسباب وراء هذا الأنحطاط الإعلامى؟
أولا:إعلام أمنى
عندما تحشد المؤسسات الأمنية قوتها لمنع حبس صحفى مخبر تنفيذا لحكم
قضائى واجب النفاذ، فنحن أمام مؤسسات ضالعة فى صناعة الإعلام وصناعة
الصحفيين....أما الأنحطاط فهو أفتخار متزايد بين الإعلاميين بعلاقتهم
بهذه المؤسسات الأمنية، وسعادة هذه المؤسسات بالتنويه عنها بأنها
المتحكمة فى المشهد الإعلامى بما يؤدى إلى تسارع السقوط فى الوحل لمن
لم يقع بعد ، ويأس الآخرين من إمكانية الصمود. إن دول مثل كوريا
الشمالية وسوريا وليبيا القذافى وعراق صدام ومصر مبارك وما بعده ، هى
دول ليست متحكمة فقط فى المشهد الإعلامى والصحفى بل صانعة له حتى تحول
معظم الإعلاميين والصحفيين إلى مخبرين وأدوات أمنية، والقلة المستقلة
تعانى من الحصار والتضييق عليها فى كل شئ...ووصل التدخل الأمنى إلى
الإملاءات عبر التليفونات من حيث المواضيع المرغوب تناولها، والأشخاص
الواجب تلميعها أو تشويهها، والنقاط الواجب التركيز عليها، والحملات
الموجهة الواجب القيام بها.. عندما تدير وتتحكم الدولة العميقة فى
المشهد الإعلامى برمته فكيف نتوقع إعلاما محايدا مستقلا محترما بعد
ذلك؟...إن تدخل الدولة العميقة فى مصر فى صناعة المشهد الإعلامى أكبر
بكثير من توقعات حتى أكثر المتشائمين.
ثانيا: الفساد الإعلامى
والفساد ليس فقط ناتج عن تداخل التحرير والإعلان، ولا من تداخل
الإدارة والتحرير، ولا من تحكم الملكية فى الإدارة والتحرير معا...ولكن
الفساد أوسع من هذا بكثير...أنها معادلة بسيطة تطلقها الدولة العميقة
للصحفى:أنت معنا رابح دائما. إن الفساد هو نتاج شراكة بين الصحفى وبعض
رجال الأعمال والدولة العميقة، هو نتاج إبتزاز رجال أعمال غير مرضى
عنهم، أنه نتاج التستر على فاسدين فى كافة المواقع بشرط ذهاب جزء من
الكعكة إلى الصحفى، أنه نتاج عمالة لبعض الدول العربية التى تنفق بسخاء
على شراء الصحف والصحفيين ووسائل الإعلام. إنه نتيجة خلل مرضى فى توزيع
الأجور بحيث يصل مرتب صحفى إلى الف ضعف مرتب صحفى آخر. أنه نتيجة رشوة
الدولة للصحفيين المقيدين بالنقابة بمرتب شهرى لا يوجد مثيل له فى أى
دولة محترمة فى العالم، ومن أعجب العجائب أن من يتشدقون بحرية الصحافة
وإستقلالها هم من يناشدون الدولة بزيادة الرشوة الشهرية للصحفيين.إنه
نتاج تستر الدولة بكافة مؤسساتها على تضخم ثروات بعض الصحفيين بطريقة
غير مشروعة . إنه نتاج مشاركة صحفيين فى الفساد الإدارى فى الدولة
بالإستيلاء على بعض الأراضى والحصول عليها بملاليم، والحصول على شقق
وشاليهات كأنهم من كبار القوم الفاسدين...أنها منظومة كاملة من الفساد
داخل الإعلام تتماهى مع نظيره فى الدولة وتتستر عليه وتشجعه وتطيل
عمره.
ثالثا :غياب الموضوعية
معظم الصحفيين والإعلاميين فى مصر لا يعرفون الفرق بين الانحياز
والموضوعية، فالانحياز موجود فى كل مكان فى العالم وهو مشروع لأنه يعبر
عن طبيعة البشر وميولهم واختياراتهم فى الحياة، وصدق المثل الروسى
القائل: الموضوعية أن تعلن تحيزك من البداية. أما غياب الموضوعية فهو
مسألة أخرى، أنها تتعلق بعدم التوازن فى طرح الأراء المختلفة، أنها
تتعلق بالشخصنة والسطحية فى التناول، أنها تتعلق بالقراءة المبتورة
وغير العميقة للأشياء، أنها تتعلق بنزع الجمل من سياقها وتضخيم الهامش
على حساب المتن، أنها تتعلق بالتشويه المتعمد للخصم بدون دليل أو قرينة
أو منطق مقبول، أنها تتعلق بالانحيازات الفجة السافرة، أنها تتعلق
بمناقشة التفاهات على حساب احتياجات المجتمع الحقيقية، واخير أنها
تتعلق بالأكاذيب والسعى نحو المصادر الضعيفة والمختلقة لتشويه الخصم.
ساعطيكم مثلا للفرق بين الانحياز والموضوعية فيما فعلته صحيفة
النيويورك تايمز أثناء الأنتخابات الرئاسية الماضية، فقد أجتمع
المحررون وناقشوا أى من المرشحين يستحق دعم الصحيفة، وأتفقوا على دعم
أوباما، ونشرت الصحيفة فى ركن رأى الصحيفة أو الايدتوريال بالأنجليزية
بيانا يوضح دعم محرروا الجريدة لأوباما، أما الموضوعية فهى تبنى
الصحيفة لتغطيات متوازنة لكل من المرشحين لأن هذا يتعلق بحق القارئ فى
المعرفة وحرية الأختيار......إن وجود الموضوعية أو عدمها يتعلق بامانة
الصحفى الأخلاقية ومهنيته وأحترامه لذاته وأتساقه مع نفسه.......ومما
يؤسف له أن الطنطنة الفارغة فى مصر عن مواثيق الشرف الصحفى هى لتغطية
أمراض مزمنة فى جسم الصحافة المصرية...فى الصحافة العريقة المستقلة فى
الدول المحترمة يندر الحديث عن مواثيق الشرف الصحفى لأن هناك قوانين
ومساءلة للصحفى داخل مؤسسته أو من خلال دولة القانون،أما فى مصر
فالكلام عن مواثيق الشرف الصحفى يشبه محاضرة الساقطة عن الشرف.
رابعا:غياب المهنية
عندما نتحدث عن مهنية الصحفى فنحن نتحدث عن المنتج الإعلامى الذى يبرز
هذه المهنية من خلال، الصدق، التوازن، التنوع والتعدد، الإنصاف،الدقة،
أخلاقيات جمع المعلومات، الكتابة بوضوح، الفصل بين التعليق والخبر،
وفصل الإعلان عن التحرير، الحفاظ على سرية المصادر وحمايتها،
الموضوعية، وضوح المعايير، المصداقية، الإستقلالية، أحترام مصادر
الاقتباس وحقوقها، مراعاة المهنية والحرفية عند النقل، نسب الأفكار
لأصحابها، ابعاد الأخبار المعطوبة والكاذبة والملتوية والمشكوك فى
مصادرها، تعلم فن الأنتقاد وآلياته وضروراته، الالتزام بحق الرد، غرس
قيم الاستقامة والشجاعة والعدالة والرحمة والتسامح وقبول الآخر والعمل
الإيجابى، التأهيل العلمى والتدريب الكافى للصحفى،الموازنة بين الحماية
القانونية لحرية الرأى ومساءلة الصحفى المخطئ والصحيفة المتجاوزة
للقانون.
للأسف لا تغيب هذه المعايير عن الإعلام المصرى فحسب ولكنه خلق لنفسه
معاييرا أخرى تفرد بها وميزته عن باقى وسائل الإعلام فى الدول المحترمة
ومنها: الردح والشتائم، الإغراق فى المحلية، إعلام المنولوج بحيث تشاهد
صحفى يجلس ساعات يحكى للمشاهدين وكأنه مدرس فى مدرسة إلزامية،إعلام
الوعظ حيث تحول الصحفى إلى واعظ محاضر فى الشرف والأخلاق، شيطنة الخصوم
وخاصة معارضى النظام، تقمص الصحفى دور الزعيم السياسى، إعلام مدار
سياسيا ودينيا، إعلام مغرض، مروج للأكاذيب والخرافات،محمل بالهواء
الرخيص سواء فى الأنتاج أو فى الشخصيات، ملتزم بقوائم للضيوف تأتيه من
الجهات الأمنية بها المنع والمنح،إبتزاز الإعلاميين لبعضهم البعض
بالقضية الفلسطينية ومسألة التطبيع،إعلام ايدولوجى، إعلام مغرق فى
نظريات المؤامرة، معاد للعلم والتنوير والعلمانية لصالح الدولة الدينية
المستبدة والخرافات والأوهام، ملئ بالاخبار الكاذبة والمفبركة والضعيفة
والأمنية والمدفوعة الآجر، مهترئ ومعبر عن المصالح الشخصية لبارونات
الإعلام، محرض على الكراهية، تنضح على جلده دولارات النفط والريالات
المسعودة، مباع فى الواقع لدول وجماعات ورجال أعمال، يخسر المليارات
ومع هذا مستمر، معادى للأقليات، متخصص فى حملات التشويه المتعمد، مدافع
بالحق والباطل عن الصحفى المخطئ....باختصار هو انعكاس لميراث ثقافى
ودينى موغل فى القدم والاستبداد والعنف والخداع والالتواء والعداء
للآخر والعنصرية ضد غير المسلم.
إن الصحافة الحرة هي إفراز لمجتمع ديمقراطي، ولكنها يمكن أيضا أن تكون
سببا في خلق هذا المجتمع الديمقراطي، وهي انعكاس لاستقرار مفهوم
القواعد الأخلاقية في المجتمع نفسه، ولكنها
يمكن أن ترتقى بهذه القواعد أو تنزل بها للوحل
،
وبالتأكيد وراء كل صحافة حرة شعب حر مثقف منفتح على العالم ونظام حكم
ديمقراطي يسعى لتطوير ذاته.. وللأسف ساهم الإعلام المصرى بالنزول
بالمعايير الأخلاقية للمجتمع وفى تأخير الاستحقاق الديموقراطى.
|