أمريكا القدوة الحسنة أم....؟
منذ أكثر من ربع قرن و أنا أستمتع بِ رائعة فانجيلس ، المعزوفة الجميلة
التي ألّفها هذا الفنان اليوناني الأمريكي الجنسية، و التي سمّاها ( غزو
الجنة )، و منذ أكثر من ربع قرن، و أنا أنظر إلى أمريكا بِ نظرة ليبرالية
إلى حدّ التطرف، لم أكن أرى فيها سوى الخير، الجمال، العدالة، القانون،
الحرية، الديمقراطية؛ أنا لم أكن أرى تلك القيم في الواقع، إنما كنت أراها
في مخيلتي لا غير، أي، كنت أرى كل الذي كنت أرغب في رؤيته، و في الوقت نفسه
لم أكن أرغب في رؤية ما يسيء إلى هذا النموذج الإنساني( المفترض )، لم أكن
أرغب في الخوض في كيفية تشكل هذه الدولة ( القارة )، علما بِ أن معظم
المشتغلين في الثقافة و القانون و الأدب و السياسة و الشأن العام، يعلم بِ
أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد تأسست على جثث و جماجم أصحابها الأصليين
( الهنود الحمر )، فَ منذ أن وطأت أقدام البعثات الاستكشافية أرض العالم
الجديد، موطن الهنود الحمر، واستقبال هؤلاء المساكين لِ أولئك المستكشفين و
مساعدتهم بِ الأكل و الشراب، راح ذاك الرجل الأبيض، بعد أن رأى الأراضي
البكر و الخيرات المكتنزة فيها، راح ذاك الرجل يخطط لِ الاستيلاء عليها، و
تم استقدام الغزاة من أنحاء أوروبا، و قام هؤلاء بِ ردّ الجميل لِ أصحاب
الأرض و ذلك من خلال فوهات البنادق و المسدسات و المدافع التي جلبوها معهم
إلى العالم الجديد لِ يعمّدوها بِ دم أصحابها، و هكذا بدأت أول و أبشع
إبادة جنس على وجه الأرض، و تتراوح أرقام الإحصائيات بين ( 80- 100) مليون
قتيل من كل الأجناس و الأعمار، و كان بطل هذه المأساة الإنسانية الأب
الروحي لِ أمريكا السيد الرئيس جورج واشنطن.
تلك الشعوب كانت قانعة بِ أسلوب عيشها و طريقة حياتها على أرضها، في
أكواخها و ضفاف أنهارها و عمق غاباتها و أدغالها و مستنقعاتها، كانت قانعة
بِ أدوات صيدها و طبخها، سعيدة بِ أغانيها و رقصاتها و قصص عشاقها، كانت
راضية و فخورة بِ لون بشرتها المائلة لِ الحمرة، كانوا مقتنعين بِ أوشامهم
و ريش الطيور على رؤسهم، كانوا سعداء بِ آلهتهم و إيمانهم و عقائدهم و
طقوسهم، و كانوا راضين بِ نتائج إيمانهم و بِ مصيرهم الآخروي. الإبادة
الأولى كانت في القتل و الذبح المباشر لهم، و لن أدخل في بازار المناحات و
البكائيات، و لن أدغدغ المشاعر الإنسانية بِ اللجوء إلى وصف التفاصيل
المهولة في مأساة هؤلاء، كَ قَتْلِ الأطفال أمام أعين آبائهم و أمهاتهم، و
قَتْلِ الآباء و الأمهات أمام أطفالهم، و قتل الكل أمام الكل، حَرْق
أكواخهم و بيوتهم و هم في الداخل و اصطياد الهاربين من لظى النيران كَ
الأرانب. أترك هذه الصور أمانة في عهدتكم لِ تبعثوا فيها الحياة و تمعنوا
النظر و تصيخوا السمع لِ مكوناتها، و إنْ شئتم ب التصوير البطيء، فَ مثلا،
الأم مطروحة على الأرض و هي تنزف جراء إصابتها بِ رصاص الرجل الأبيض، و هي
تتبع بِ نظراتها طفلها الرضيع الذي يعبث على صدرها باحثا عن مصدر حليبها
المقدّس، هل تتصورون حجم الحزن و القهر في روحها قبل الموت؟؟. أمّا الإبادة
الثانية، فَ كانت ( و لا تزال ) في تزوير الحقائق عن طريق أقوى سلاح على
الإطلاق- سلاح الإعلام- فَ قد شرع الأمريكيون منذ زمن بعيد على إنتاج كمّ
هائل من الوثائق و الصور و الأفلام، و التي كلها كانت تقدّم طيبة و براءة و
شهامة الرجل الأبيض أمام همجية و بدائية و وحشية الهندي الأحمر، فَ في
الأفلام المنتجة حول نفس الموضوع، و لأن أحداث الفيلم متخم بِ الأكاذيب و
التزوير، كان المشاهدون/ في لقطات معينة/ يصفقون لِ الرجل الأبيض على قتله
لِ الهندي، و كانوا يمتلؤن غيظا و حقدا على الهندي الأحمر( المسكين- الضحية
). أمّا بِ خصوص أحداث و ظروف تلك الإبادة، فَ قد توصّل الجانب الأمريكي من
خلال دراساته و أبحاثه و تحقيقاته و تحليلاته إلى أنّ عدد الذين قتلوا في
تلك الأحداث لا يتجاوز المليونين من الهنود. تصوّروا كيف يمارسون الإبادة
الثالثة من خلال تسفيه القضية. تقلّص العدد من/ 100/ مليون إلى أقل من
مليونين؛ فَ ليكن مليون، فَ الجريمة هي أن هؤلاء الغزاة قدموا من خلف
المحيطات إلى أرض مسكونة لها أهلها، فَ بِ أيّ حقّ و وفق أيّ دستور و قانون
يتم إبادة أصحاب الأرض و سَلْب ممتلكاتهم و نسائهم و استعباد ذكورهم و
إناثهم؟؟!!.
هذه
الجريمة هي الرحم الذي خرجت منه الجريمة التي ارتكبها الأتراك، فَ هم قدموا
من خلف الحدود إلى أراض مسكونة لها أصحابها، تماما كما فعل الغزاة
الأوروبيون في بلاد الهنود الحمر، و ارتكبوا مجازر إبادة ضد أصحاب البلاد
راح ضحيتها ملايين من الأبرياء من أصحاب الأرض (أرمن سريان عرب يونان
بلغار..)، و اتبعوا نفس أسلوب الأمريكان في تسفيه قضية الإبادة حين وصلوا
بِ نتيجة تحقيقاتهم و أبحاثهم و تحاليلهم إلى رقم ما بين ( 500000 إلى
600000) ضحية لِ قتلى الأرمن، بدل المليون و نصف المليون قتيل بِ حسب مصادر
الأرمن، أما أراضيهم و حقولهم و مزارعهم و منازلهم و ممتلكاتهم و كنائسهم و
أديرتهم و تاريخهم، أصبحت من الماضي، و لا مجال لِ الخوض في هذه المسألة، و
أيضا اتبعوا سياسة التزوير و التضليل و التلفيق كما فعلت الإدارات
الأمريكية. إنهما وجهين لِ عملة واحدة و هي الإجرام، إنهما شريكان في القتل
و النهب، الأمريكان قتلوا أصحاب الأرض و الأتراك أيضا قتلوا أصحاب الأرض،
الأمريكان لم يعترفوا بِ الإبادة و التعويض، الأتراك أيضا لم يعترفوا بِ
الإبادة و التعويض، فَ هذا الإنكار و تكذيب الإبادة ليست الإبادة الرابعة،
بل هي دعوى لِ الإبادة مجددا، و تأكيد على أنهم كانوا يستحفون ما حصل لهم.
عن أيّ المجازر يتوجب على أمريكا أن تعتذر و تعوّض؟ فَ أمريكا رضعت بدل
الحليب دماء الشعوب، و كبرت على أشلاء الأبرياء الذين فتكت بهم، فَ هل يجب
أن تحاكم على إبادتها ملايين الهنود الحمر، أم على إبادتها مئات الآلاف من
أبرياء هيروشيما و ناغازاكي بِ إلقائها قنبلتين ذريتين عليهما بِ أمر صريح
من الرئيس هاري ترومان/ 1945/، أم على غزوها لِ العراق و تدميره بنيويا
اعتمادا على سيناريو انتج في الغرف المعتمة، و الذي تبين فيما بعد و من
مصادرهم/ الأمريكان/ أنه كان كذبا و تلفيقا بِ حقّ الدولة العراقية؛ أم على
غزوها و قتلها لِ آلاف مؤلفة من الفيتناميين؟ أمريكا استطاعت أن تروّج
ادعاءات كاذبة كَ سند لِ حروبها التدميرية الاستعمارية ضد الشعوب و الدول،
و التي مفادها، أنها تساعد الشعوب لِ الحصول على الحرية و الديمقراطية، و
لِ الإطاحة بِ أنظمتها الاستبدادية القمعية الفاسدة، و هناك أكثر من نصف
العالم يصدّق هذه الإدعاءات، و جزء من سبب التصديق هو في طبيعة الأنظمة
التي هاجمتها أمريكا مباشرة أو عن طريق العملاء و الحلفاء، كَ نظام صدام
حسين في العراق، و نظام الطالبان في أفغانستان، و نظام القذافي في ليبيا، و
بن علي في تونس، و علي عبدالله الصالح في اليمن، و مبارك في مصر، و الأسد
في سوريا، فَ العامل المشترك بين هذه الأنظمة، هو الاستبداد و الديكتاتورية
و الفساد، هناك نظام الطالبان الذي يمتاز على الآخرين بِ الظلامية و
البدائية، فَ إذا كانت المسألة كما تسوّقها الميديا العالمية الخاضعة لِ
اللوبي اليهودي صانع الخبر و منتجه و موزّعه، فَ لماذا لم تدرج أمريكا
أنظمة أسوأ و أكثر بدائية و ظلامية من تلك التي هاجمتها و أشعلت النيران في
بلدانها و حرّضت على الحروب الطائفية و المذهبية و الأثنية بين شعوبها؟ فَ
السعودية رائدة و خير انموذج في البدائية و الظلامية و التخلف و القمع و
الاستبداد و الفساد و العبودية، و هوأخطر نظام، ليس فقط على شعبها، و إنما
على العالم كله، و ذلك من خلال تصديرها التخلف و الجهل و البدائية و
الإرهاب، و أمريكا تعرف ذلك من خلال حليفه قائد غزوة مانهاتن، السعودية لا
يوجد فيها نظام، و إنما عائلة مالكة و مثلها الكويت و قطر و البحرين و عمان
و الإمارات و المغرب و الأردن، فَ لماذا لم تدخل تلك البلدان في واحة
الحرية لِ تتنعّم بِ الربيع الذي جلبته إلى هذا الشرق البائس؟؟!! أمريكا
تعتمد الخداع و التضليل و الكذب و الإرهاب في تعاملها مع الآخر، لا بل، و
حتى مع الداخل الأمريكي، فَ النظام الأمريكي يزدرد الأخلاق و العدالة و
الإنسانية، و هو بعيد كلّ البعد عن هذه القيم، القيمة الوحيدة عنده التسلط
و السيطرة على الآخر بِ صرف النظر عن الكيفية، فَ مبدأ الغاية تبرّر
الوسيلة انتشر من أمريكا مع كلّ النتائج البشعة التي رافقته. فَ مَن يجب أن
يعترف أوّلا بِ جرائم إبادة الجنس، الأمريكان أم الأتراك؟ و هل يمكن أن
تصبح أمريكا القدوة الحسنة في العالم؟؟؟
فاهان كيراكوسيان / سوريا
20/4/2014 |