انهزام الإتجاه
المعاكس
سوريا* 10/
آذار/ 2008
كم أنا حزين
لأجلك يا عزيزي فيصل، كنتُ أتوقع نهاية سيّئة لكَ، بعد أن ركبتَ موجة
الفهلوة التي لم أكن أتمناها لكَ، كنتَ صوتا لِ المقموعين و المضطهدين، و
خصوصا عندما اقتحمتَ هذا الشرق المرعب المغلق المنغلق على ذاته، في نهاية
تسعينيات القرن المنصرم بِ برنامجك الرائع حينذاك ( الإتجاه المعاكس)، و
الذي كان واحدا من البرامج الناجحة في قناة الجزيرة الرائدة وقتذاك، لأنها
كانت تعمل بِ مهنية و موضوعية، كانت كذلك، لأنها كانت وليدة حديثة لا تزال
ترضع حليب أل
BBC
و ال
CNN
و ال FOX NEWS
و ال
CBS
و غيرها
الكثير من المحطات الفضائية العالمية، كانت تحرص على النجاح في امتحانها
أمام العالم المتمدِّن، المتحضِّر، و المتقدِّم اعلاميا، و أنا أعتقد بِ
أنها نجحت في امتحانها، طبعا بِ فَضل الطاقم الذي قَدِمَ من تلك المؤسسات
الإعلامية ذاتها، أمثال السيد جميل عازار و سامي حدَّاد، و فيصل القاسم و
إيمان بنورة، و خديجة بن قنة، و المايسترو صاحب القناة الأمير، صديق
إسرائيل و حليف أمريكا، طبعا أنا لا أُعيب عليه علاقاته و تحالفاته هذه، و
إنَّما وددتُ أن أحدِّدَ موقعه في شبكة الأحلاف الإقليمية و الدولية لِ
نعود إليه في سياق الحديث عن هذا الموضوع لاحقا. فَ الجزيرة نجحت لأنها
بدأت ليبرالية، و لأنها تناولت الأنظمة الديكتاتورية، و العقائد و
الأيديولوجيات العنصرية المتطرفة، لكن و لِ الأسف، هذه الشرفة المطلة على
العالم الخارجي، و التي كانت تسمح بِ مرور، أو تسرب بعضا من الضوء و
الأوكسجين إلى هذا السجن الكبير المعتم، قد تمَّ إغلاقها، أو بِ الأحرى قد
تمَّ إرخاء وشاح أسود كَ ظلام الليل عليها، و بسرعة قياسية، فَ راحت
الجزيرة الغرَّاء تخلع لبوسها التقوي، و تعود إلى أصلها الصحراوي، بِ
جلاليبها و شماغاتها و عصيها، و ثقافتها الأصيلة التي لا يمكن أن تتغيَّر
مهما حاول أصحابها التمظهر و التمئيل و التمثُّل، لأنها مسألة في غاية
الخطورة، أن تخترق الحدود الحمراء، لا بل الدموية، فَ الحياة تقف هنا على
هذه التخوم الرعوية، و تحت هذه السيوف البرَّاقة.
تتجلى بعض
جوانب هذه الثقافة لدى جميع الشعوب التي اعتنقت آيديولوجيات عنصرية،
متطرفة، حاقدة و إرهابية؛ و بداهة، أنا لا أتهم الأعراق، أو القوميات، أو
الأثنيات، بِ البدائية و الهمجية، أي أني لا أتهم الشعوب بِ عينها، إنما
تلك الثقافة التي تسوقهم سوق القطيع، و بالتأكيد هي تفعل ذلك لأنها
إرهابية، لأنها تُحقَن في أدمغتهم و أرواحهم بِ الحديد و النار، فمثل هذه
الثقافة موجودة في العقائد السياسية و الأثنية و الدينية، فَ الشيوعيون
كانوا يكرهون الاستعمار و الإمبريالية و الرفاهية، و يحقدون عليها، و
بالتالي على الحرية و الديمقراطية و الانفتاح، و قد أعدموا مئات الآلاف من
الآعضاء الحزبيين و اللاحزبيين تحت اتهامات شتى/ منشقين، تحريفيين،
يمينيين، عملاء، برجوازيين...إلخ/، و كذلك الأمر بِ النسبة لِ
الآيديولوجيات العنصرية التي تدَّعي التفوّق على باقي شعوب الأرض،كَ
النازية، و الفاشية، و العروبية، و الصهيونية، و ما يهمنا هي في اليهودية و
العروبية؛ فَ اليهود يدَّعون بِ أنهم شعب الله المختار، و لِ الأمانة و
الدقة، ليس الشعب اليهودي هو الذي يدَّعي، إنَّما كتبهم و شرائعهم الدينية،
و في الضفة الأخرى، هناك أيضا الشعب العربي، أو بِ الأصح، نظرية القومية
العربية التي تضع العروبة فوق العالمين بادِّعائها أنها صاحبة رسالة خالدة
سَ تبلّغها لِ كلِّ الأمم، و هي أمحت و تمحي كل المختلفين عنها و تعتبرهم،
و بكلِّ بساطة، عربا، فِ السومريون و الآشوريون و البابليون و الكنعانيون و
الفينيقيون، كلهم قبائل عربية هاجرت من شبه الجزيرة إلى العراق و سوريا و
الأردن و لبنان؛ ظلَّ أصحاب هذه النظرية يعزفون عليها و يزيدونها عنصرية
إلى أن تماهت مع قمة الآيديولوجية المتمثلة في نظرية ورقة بن نوفل و خديجة
بنت خويلد و الراهب بحيرى، و التي تبلورت على يد السيد محمد بن عبد الله
إلى صبغتها النهائية الواضحة، الجلية، النجلاء، بِ أنهم خير أمة أُخرجت لِ
الناس( كما اليهود)، و أن باقي شعوب الأرض هم في ضلال و ظلام، و أنَّ الله
قد كلَّفهم ( المسلمين) بِ إخراج تلك الشعوب من الظلمة إلى النور، و أنه (
= الله) كتَبَ عليهم القتال حتى ينتصر دين الحق ( الإسلام)، لأن الدين عند
الله هو الإسلام، فَ مَن ارتضى غير الإسلام دينا لا يُقبل منه...، و كل مَن
ليس مسلما فَ هو كافر و مشرك، و حكمهم في شرع الله إمَّا الدخول إلى حظيرة
الإسلام، أو القتل، أو دفع الجزية عن يد و هم صاغرون، أذلاَّء.
أنا واثق بِ
أنَّكَ تعرف هذه المعلومات، و قرأتَ كلَّ ما له علاقة بِ القتل و التهديد و
الترهيب، و ضَرْب رقاب الكفَّار و المرتدين، إنَّ ضيفكَ هو الآخر يعرف ذلك،
و أنه قد قرأ، و ربما لِ مئات المرات، آيات التحريض على القتل و إعدام
المرتدين و الخوارج و الكفار، لكن الفرق بين الذي يقرأ بِ عقلٍ نقديٍّ
منفتح، و بين الذي يقرأ، فقط، بِ ترداد الكلام ليس إلاَّ، فرق شاسع، فَ
الدكتورة المحترمة وفاء سلطان هي أيضا قارئة، لكنها لم تلغِ دماغها و
كيانها، و لم تعطِّل وظيفة الدماغ، فَ هي تفكِّر و تقارن، تحاكم و تستنتج،
فَ ضيفكَ حرٌّ في تعطيل أو عدم تعطيل دماغه عن العمل، كما من حقِّه أيضا
اعتبار أيِّ راعي إبل التقى الرسول و كلَّمه قبل أربعة عشر قرنا في صحراء
الجزيرة، شخصا مقدَّسا، لكن ليس من حقِّه فَرْض مقدَّسه على الآخرين، و
إرهابهم و منعهم من تناول مقدَّسه من ضمن المقدسات الأخرى بِ النقد و
التحليل، فَ ضيفكَ هكذا فعل، و أنتَ كنتَ ممالئا له، هذا إذا لم أقل متآمرا
معه ضدَّ الدكتورة المحترمة وفاء، فَ لم تكن عادلا في توزيع الوقت عليهما،
كنتَ تعطي ضعف الوقت تقريبا لِ ضيفكَ الإسلاموي مع جلوسك مؤدَّبا مكتَّفا
كَ تلميذ في الابتدائي، أمَّا عندما كنتَ تضطر لِ إشراك الدكتورة في
الحوار، و بِ الرغم من الوقت القليل المخصص لها، كنتَ تقاطعها على الدوام و
معكَ ضيفك أيضا.
أمَّا لماذا
أنا حزين عليك يا عزيزي فيصل، فَ الجواب هو في حبَّي لِ الشباب السوري (
ذكر و أنثى) الذي اجتهد في طلب المعرفة و الأدب و الفكر و الفن، حبِّي لِ
الزمن الرومانسي الذي مررنا فيه، لِ الأحلام الوردية التي كنَّا نرسمها
على أسس من العدالة الاجتماعية و الاشتراكية، حبّي لِ الإرهاصات التي
واجهتنا، و لكلمات السرِّ التي كنا نتناقلها بين بعضنا، كأغاني العزيزة
فيروز، و مارسيل خليفة، و روايات حنا مينة، و صور غيفارا، و أشعار بابلو
نيرودا....إلخ، لا أدري لماذا تهيَّأ لي بِ أنَّكَ كنتَ من ذاك الجيل
الرومانسي الثوري.
صَدّقني يا
فيصل، لقد أشفقتُ عليك ( هذه المرة ) من أعماقي و أنت في ذاك المأزق،
أدركتُ بِ أنَّكَ أحسستَ بِ الحرج، بل، الورطة التي وجدتَ نفسكَ فيها، و
كنتُ أحزن لِ أجلكَ حقيقة عندما كنتُ ألمح البراءة و الارتباك على وجهك، و
في عينيك، و كنتُ أحسُّ بِ أنَّكَ تتعرَّض لِ توبيخات و تهديدات القرضاوي،
و أنَّكَ تفكِّر بِ العاقبة، و ها أنَّكَ رأيت و نحن أيضا رأينا، فَ أول
الغيث كان في عدم تكرار الحلقة، و ثانيه، كان في الاعتذار لِ المشاهدين عن
الحلقة، و ثالثا أتوقَّع، أو يجب إعفاؤكَ من العمل في المحطة، و طبعا هذا
الإجراء مرتبط بِ المجاهدة خديجة.
أنا حزين لِ
أجلك، لأن النهج الذي تبنيته، و التقلبات و القَلْبات التي حقَّقْتَها، و
اللعب على الحبال و الأفكار الذي لعبته طوال حياتك الدراسية و المهنية، لو
فعلتها هنا في بلدنا سوريا لَ كان أفضل لكَ، و لَ كنَّا استوعبنا و
تفهَّمنا لعبتك كَ أيِّ جامعي انتهز فرصة الانتماء لِ الثوار و الاستفادة
من خيرات و منجزات الثورة العتيدة، أمَّا و أن تدخل في لعبة هي أكبر منك و
من طائفتك و مذهبك و وطنك، فَ هذا ما لا تقبله الوهَّابية و البنلادنية على
الإطلاق، و سوف تدفع الثمن لا محالة، فَ نصيحتي لكَ يا أيها السوري العزيز
هي أن تحمل ذاتكَ و امرأتك و تتبع النور الإلهي الذي دلَّتك! عليه الدكتورة
وفاء، أن تفعل ذلك دون النظر لِ الخَلْف، و دون الندم على متاع و أوساخ
الدنيا، أنقذْ نفسك و ذرِّيتكَ من براثن هؤلاء الإرهابيين الذين كُتِبَ
عليهم القتال و ضرب الرقاب من فوق الأعناق، فَ برنامج الإتجاه المعاكس
انتهى، انهزم، لَفَظَ أنفاسه الأخيرة، أسْلَمَ الروح لِ قابضها الدكتورة
وفاء سلطان، فَ هي وجَّهت كتلة من النار و النور إلى هذه الصحارى الموحشة،
المعتمة، المظلمة، و الظالمة، دعتكَ، لا بل، دعتنا كلنا لِ الخروج من هذه
الهمجية و الدخول في موطن الإنسان العاقل، الذي له دماغ حيّ يعمل، و ليس
جمجمة مليئة بِ القيح و الرصاص. |