يحدث الآن في مصر الثورة 1
2011
الأحد 20 فبراير
ليس من السهل بالتأكيد أن
ترى مكونات بحر عامر بالتيارات والدوامات، وأن تحدد بدقة
معالم وتفاصيل خريطته، وعلى هذا النسق تأتي أي محاولة
لاستقراء الوضع الراهن بمصر ثورة اللوتس، ليكون مجرد
محاولة لمقاربة من قبل وجهة نظر معينة، تقف إلى جوار وجهات
نظر أو منظورات أخرى، تتعد برؤية الراصد وتقديراته الخاصة
للأمور، وفي ذات السياق علينا في هذه السطور أن نغامر بعرض
ما نتصوره واقعاً، دون أن نزعم لرؤيتنا صحة مطلقة.
نجد بالساحة المصرية الآن احتفالات الشعب المصري بانتصار
شبابه شبه الإعجازي، ونجاحه في اقتلاع من جلس على سدة
الحكم لثلاثة عقود، وكان يعد لنا وريثه ليرثنا لثلاثة أو
أربعة عقود أخرى. . نجد أيضاً وزراء وأعمدة من النظام
حبيسي الزنازين رهيني التحقيق. . وهناك وزارة للداخلية قد
حرقت الكثير من مقارها، واختفت من الساحة في بداية الثورة،
لتظهر الآن رويداً رويداً، رافعة شعارات نهج جديد في
التعامل مع الجماهير. . نجد وزارة انتقالية يتم في عهدها
تعديل الدستور، ليكفل انتخابات رئاسية وتشريعية وفقاً
لمعايير الديموقراطية العالمية. . نرى قوات مسلحة تقف
موقفاً محايداً مشرفاً، وقد أخذت على عاتقها حماية الوطن،
وحماية الثورة حتى تحقق آمالها.
هذا ما يبدو على السطح، لكن ليس من المحتم أن يكون ما تحت
السطح مماثل أو متطابق مع ما فوقه. . المشكلة أننا لا
نستطيع أن نتعرف أو نجزم بما هو تحت السطح، وإن كنا نستطيع
بصورة تقريبية الاستدلال على بعض معالمه، من إشارات قوية
أو هينه، تظهر عفواً أو يتم إرسالها عمداً ومع سبق
الإصرار. . لكننا نعيد ونكرر أن ما سوف نستعرضه في سطورنا،
يفتقد إلى التأكيد اليقيني، الذي يحب معتنقوا نظرية
المؤامرة في النظر إلى الحياة أن يخلعوه على تصوراتهم،
التي قد لا تكون في بعض الأحيان أكثر هلاوس وأضغاث أحلام.
لنأت إلى معالم السطح واحدة فواحدة، لنقلبها محاولين
اكتشاف ما تحتها:
انتصار الشعب ممثلاً في أزاحة الطاغية ووريثه قد تحقق
يقيناً، وهو الآن يصارع أو يكابد مصيره في شرم الشيخ، وهو
وضع لا يحتمل تأويلات أو تراجعات، مهما اكتشفنا بعد ذلك من
معالم وحقائق. . لكن إذا كان مطلب الثورة لم يكن مجرد
إسقاط الرئيس، وإنما أيضاً إسقاط النظام، فإن لنا أن ننتقل
إلى ما نراه من وقوع العديد من رؤوس النظام تحت طائلة
المحاسبة والتحقيق، إلى حد دخولهم لزنازين ليمان طرة. .
هنا نتساءل، هل يعني سقوط هؤلاء سقوط النظام؟. . لا نعني
بالنظام هنا معناه السياسي العلمي، وهو مجموعة النظم
والعلاقات التي تحكم الدولة، وإنما نعني هؤلاء الذين قام
النظام البائد على أكتافهم. . إذا كان قد تم تقديم نفر يعد
على أصابع اليد الواحدة من هؤلاء إلى المحاسبة، فإن
الباقين مازالوا ملء السمع والنظر، وإن انكمشوا إلى ما تحت
السطح وعلى رأسهم مفيد شهاب، وزكريا عزمي الذي مازال يؤدي
دورة بالقصر الجمهوري، وكأن رئيسه ليس مخلوعاً ومقيماً في
منفاه الاختياري في شرم الشيخ. . كما وأننا لا نعرف
تحديداً ما هو دور مفيد شهاب الآن في عهد الثورة، كما لا
نعرف ماذا يفعل صفوت الشريف، وهل يجلس في بيته منتظراً
دوره في المحاسبة، أم يعمل بجد تحت السطح؟. . لنا أن
نتساءل لصالح من يعمل الآن زكريا عزمي، وما هو الدور أو
العمل الذي يقوم به بالتحديد، وهل يعمل كما يتقول كثيرون
لصالح رئيسه المنفي ونجله، أن الورثة الجدد هم من يجند
نفسه لخدمتهم؟. . لكن هؤلاء وكثيرين لم نذكرهم من رؤوس
النظام، ربما كانوا أقل خطورة على الثورة من مئات وآلاف
غيرهم من المستوى الثاني والثالث. . لا نقصد بهذا الإشارة
إلى جميع المسجلين في قوائم الحزب الوطني، فنحن نعرف من
طبيعة النظام الذي رزحنا في أغلاله لستة عقود منذ انقلاب
العسكر في يوليو، أن الكثير من الأبرياء والشرفاء لم يكن
أمامهم سوى الانخراط في العمل فيه ومعه، لكننا نقصد
بالتحديد الجذور العميقة للفساد، أو آلاف الفاسدين الصغار،
الذين هم فيما نرى الأشد حرصاً على استمرارية النظام رغم
الإطاحة برأسه، لأن زوال النظام سيعني زوالهم النهائي،
بعكس الرؤوس الكبيرة، التي تستطيع الهرب بأموالها أو
أموالنا التي تنتظرهم بالخارج، كما أنه من العسير في حالات
كثيرة أن تجد يد القانون دلائل مادية تكفي لإدانتهم، خاصة
مع ما يتسرب الآن من أنباء عن قيام الكثيرين القابعين في
أماكنهم، بحرق وإعدام الدلائل والمستندات الكفيلة بتمكن
العدالة من وضع الأغلال في أياديهم.
نأتي إلى لغز وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة، الذين
اختفوا من الشارع، ويعودون الآن تدريجياً، رافعين شعار
"الشرطة في خدمة الشعب"، وياله من شعار شؤم يذكرنا بالحقبة
الناصرية، حين رفعت قوى الأمن هذا الشعار، فيما كان ناصر
يهتف "ارفع راسك يا أخي المواطن"، في الوقت الذي كانت فيه
جميع الرؤوس والجباه تسف من تراب الأرض أو المعتقلات
الرهيبة. . أين ذهبت جحافل القوى الأمنية؟. . هل تبخرت، أو
انشقت الأرض وابتلعتها؟. . أم أن العادلي قد لعب بها لعبة
كر وفر، انقلبت عليه وعلى نظامه وبالاً، ثم تلك القوات
الآن بكامل قوتها وجبروتها، تنتظر من يمهد لها الأرض لتعود
من جديد، لتُلْبس الجماهير التي حرقت مقارها طرح الحريم،
لحساب سيد أو أسياد جدد، سوف يتربعون قريباً إن لم يكن
الآن على رأس ذات النظام؟!
كل التقدير الوطني والعالمي للجيش المصري، الذي لم يجد
أمامه عملياً سوى موقف واحد يقفه أثناء الثورة، وهو الحياد
بين النظام والشعب. . فلم يكن قادة الجيش بمكنتهم لو
أرادوا، أن يصوبوا نيران الدبابات للملايين الثائرة. . لكن
السؤال الآن هو ماذا بعد زوال رأس النظام، هل يقف المجلس
الأعلى للقوات المسلحة مع الطرف الآخر من معادلة الحياد
وهو الثورة؟. . أم أنه يقف الآن مع النظام، لتحجيم نتائج
الثورة في رتوش ظاهرية، مع تقديم بعض أكباش الفداء من
الرؤوس الأكثر شهرة ونقمة عليها من قبل الجماهير؟!!
هل نشهد الآن صفقة كتلك الصفقات العديدة عبر العقود
الأربعة الماضية، بين الإخوان وتيار الإسلام السياسي
عموماً وبين النظام، فيمنحوا الشرعية والمزيد من الحرية،
في مقابل الكف عن المساهمة بقدراتهم الديناميكية في تحريك
جماهير الثورة، لترجع الأمور تدريجياً للهدوء، وتعود ريمة
أيضاً بالتدريج إلى عادتها القديمة، ونعود ثانية وإن بثوب
قشيب من حرية نباح ذات هامش أوسع من ذلك الذي تمتعنا به في
ديموقراطية مبارك ونجله؟!!
للحديث بقية عما يحدث الآن في مصر الثورة.
|