"ثورة
الأرز" لا تُزهق
وحده
الضغط الجوي هو المعتدل في لبنان أمّا بقية الضغوط فهائلة، تهوي بأثقالها على
اللبنانيين من الأجواء الإقليمية المشحونة بلا رحمة، لتنهكهم و تحبط آمالهم و
تمنعهم من الإسترخاء و الإستمتاع بالروائع الطبيعية التي حبا الله هذا الوطن
بنعمها و لتنتزع من متناولهم فرص النهوض و النمو و الإزدهار.
ضغوط
صراعات التناهش الديمغرافي و الجغرافي الإقليمية تلاحقت بلا هوادة مدفوعة
بحوافز مترابطة مثل إستتباع شعب أو ضمّ أرض أو رفع غبن أو إسترجاع حقّ أو
بسط سلطان، و تضافرت لتطوّق اللبنانيين و تتسرّب بتفجّراتها داخل وطنهم.
فكلّما
حَبُل نظام إقليمي بمشكلة أو أزمة لجأ إلى أعوان، تسنّى له تجنيدهم في ظلّ
ظروف إنهاك لبنان، لإجهاضها.
و مهما
تنمّقت الدوافع بصفاتٍ تعاضد قومي أو دعم حقوقي أو تآزر تاريخي أو تضامن
عقائدي، فالثابت هو تمخّض و بروز فرز دينيّ و مذهبي خطير متمادي التموّجات
بؤرة فورانه تنطلق من الشرق الأوسط و تنتشر حممه آسيوياً و إفريقياً لتجرف
خلال تدفّقها تدريجيّاً أقلّيات مستضعفة.
وُجد
لبنان في قلب منطقة غلب على أنظمتها طابع التزمّت و العنف و الإنقلابات
الدموية و قمع الحريات العامة و إنتهاك حقوق الإنسان، فجاء نظامه نقيضاً
ديمقراطياً، بفضل حيوية أبنائه و توقّد طموحهم و تنوّع مواهبهم و إقبالهم على
النهل من صفوة الحضارات، مكرّساً حقّ ممارسة حرية الفكر و الإعتقاد و الرأي.
لكن في
خضمّ نشوء و جذب "ثورات" و تيارات مدغدغة لمشاعر و غرائز جماهير المنطقة، و
تحت وطأة نشوب و إحتدام الصراع العربي-الإسرائيلي و تداخل الرغبة في الهيمنة
و تغيير النظام، أُسِيء إستغلال أجواء الحرية و التسامح في لبنان، فشُلّت
المؤسسات و تنوّعت الفتن و الصدامات و تعاقبت "تبدّلات" ميدانية هجينة ما زال
لبنان يعاني من آثارها.
بعد
معاناة اللبنانيين خسائر فادحة و تعاظم أخطار الأوضاع في لبنان أدركت دول
عربية وازنة أهمية إحتوائها و وعت أهمية بقاء لبنان و إفتقدت حاجتها إليه
كنموذج فريد خلاّق في الخدمة و الإنتاج و كمنتجع و متنفّس و منتدى ثقلفي و
فنّي و كمتحف غنيّ بالروائع، فعُقد مؤتمر الطائف تمهيداً إلى ولوج مرحلة
إستقرار مشتهاة.
و بما
أن غالبية اللبنانيين متمسّكة بنظامهم الديمقراطي المرن و المحفّز للقرائح و
الإبتداع، حافظوا على بنيته و أسسه و بذلوا جهوداً جبّارة لمقاومة و جلاء
وطأة الهيمنة الهمجيّة و معالجة إحتقاناتها و جروحها و آثارها. و السعي
يتواصل لتأمين ضخّ الحيوية فى مفاصل مؤسسات الدولة تدريجياً و فتح أقنية
إنسياب النشاط بلوغاً إلى الإنفراج.
تنوّعت
"الثورات" التى إنطلقت من لبنان أو "هبطت" عليه و خدمت مصالح الآخرين على
حساب عافيته، لكن وحدها "ثورة الأرز" جمعت معظم شرائحه و وثّقت وشائجهم و
صلّبت عودهم و صبّت في صُلب المصلحة الوطنية.
لكن
نشوء فصائل عسكرية غير "نظامية" خارج سلطة الدولة في لبنان، "زُرعت" و
"طُعّمت" و "لُقّحت" لجعل نظامه هجيهناً ملتصقاً بالنظامين الإيراني و السوري
و"مُقَولباً" في "جعبة" حكّامهما، أعاق و ما زال يعيق ترميم مؤسسات الدولة و
حركة النهوض و نهدة الإنفراج.
صُلب
هذه القوى المسلّحة الهجينة أكتسب قوة و نموّاً و تنظيماً و تجهيزاً جعلته
يتحدّى و يتصدّى لمن يعترض على سلوكه داخل الوطن و خارجه، و جعل إسرائيل
تتوجّس خطراً مباشراً على أمنها يضاعف قلقها من هاجس التخصيب النووي الإيراني
لإرتباط وثيق بينهما، و دفعها لإطلاق تهديدات حازمة نحو لبنان و على حكّام
إيران و سوريا أصحاب "براءة إختراع" و "ملك" و "قرار" و "مؤونة" أصل و فروع
هذه المنظمات.
و
بِحُكم إنطباع الوليد بطبائع الوالد و خصائصه إنتقلت "بالتناسخ" "مزايا"
إحتكار السلطة و القرار، و "التطيّر" من الإنتقاد و "الشغف" بخنق الأصوات
الحرّة المخالفة للأوامر المُنزلة، فتناسقت الضغوط بكثافة و قوّة، ترغيباً و
ترهيباً، لفرط عقد "ثورة الأرز".
نشوة
الزهو و الإستقواء بالسلاح بلغ إرتعاشها حدّاً خطيراً سُوّغ معه توسّل العنف
في 7 أيار 2008.
وقع
هذه "الحملة" صدم "ذاكرة" "زعيم" "ملهوف" على سلامة الرعيّة و التوريث ،
فتشوّشت "ذاكرته" و "إنخطف" إلى "لحظة تخلّ" عن "الأهل" و "الرفاق"، و تحوّل،
كمن سبقه إلى الإنقلاب على المبادئ، من "قائد" إلى "مذيع" ينطق بمطالب
"خاطفيه".
لكنّ
"ثورة الأرز" مستمرة و كوهج "الذاكرة" لا تنطفئ شعلتها في وجدان الأحرار
الأبرار بِنفخة، طالما هي عابقة بِنفحة صدى وصايا الشهداء و المؤسسين، و بعطر
الأرض و بِطِيْب محبّة الوطن.
حماية
"ثورة الأرز" هي حماية للصيغة الرسولية و الحضارية للوطن و مظلّة أمان و هناء
و حرية و عنفوان لجميع أبنائه و بيئة خصبة لإنخراطهم في مهام النهوض و
الإنماء و ضمان لمستقبل باهر.
أمّا
مشاريع الذين ينقضّون عليها بلا هوادة فمناقضة لهذه القيم و قاضمة لسيادة
سلطات الدولة و آيلة إلى "تحنيط الأدمغة" و تحويل لبنان إلى مقبرة عبودية.
محاربة
إسرائيل لا تضفي العصمة على من يرفع لواءها و إلاّ جازت الإستجابة لدعوة
ناطقين بإسم منظمتين إرهابيّتين إشتكيا مؤخراً من عوائق وصول منظمتيهما إلى
جنوب لبنان لممارسة "حربهما".
خدمة
الوطن واجب مشترك يقع على عاتق كلّ المواطنين. عندما تتعاطى بشأن سيادي تتسق
و تنساق في مؤسسات الدولة تحت سلطتها و إشرافها. أمّا الهيئات الرديفة حتّى
لو كانت ذات منفعة عامة فيقتصر عملها على شؤون غير سيادية و هي غير مخوّلة
إنتزاع صلاحيات الدولة المتعلّقة بممارسة السيادة.
كما
أنّ حرمة السيادة تقضي برصّ إلتفاف المواطنين لدعم مؤسسات الدولة و تعزيز
دفاعاتها و إلتزام المواثيق الدولية و قرارات الأمم المتحدة و مجلس الأمن
المنبثق عنها و حصر العلاقات الثنائية بالأقنية الرسمية، لا التسلل المهين
والإستفزازي إلى عقر الدار من خلال التغرير بجماعات و تسخيرها لخدمة مصالح
الدولة المتسللة.
بهذا
الأسلوب تعامل أركان النظامين الإيراني و السوري مع لبنان و رفعوا مستوى
تسلّح و تدريب أذرعتهم في لبنان و غزّة لصرف الأنظار عن ملفّ "التخصيب
النووي" و إنتهاكات حقوق الإنسان و التنكيل بنخب المفكّرين و السياسيين، و
لمحاولة حصر ساحة المواجهة العسكرية مع إسرائيل من جديد بعيداً عن أراضيهما
من خلال إشغالها "بتحصينات متقدّمة" و إقامة سباق تسلح و تطوير مستوى التدريب
و أنساق القتال أملاً في تحقيق "توازن رعب"، فيما إسرائيل تحرص على ضمان تفوق
طاغٍ لا تطيق إضعافه.
"توازن
الرعب" بالتكافوء أم بالتفوّق هو عبء ثقيل و عقيم يرهق طرفيه بتفاوت. حالة
الترقّب الهادئة، لكن الهشّة، التي يفرضها مؤقتاً ، لا يلبث أن يطيح بها خلل
طارئ يعصى على الضبط و الإحتواء فيتفجّر الوضع برمّته.
تحت
وطأة جو التوجّس المشحون بالتهديدات ب"تصفية الحسابات" المتراكمة يجري
الإستعداد و التحسّب لحرب "إكراهية" قد يفجّرها صاعق "إنزلاق" أو "تَعَثّر"
نحو "لغم أمني"، أو ثبوت شبهة عبور صواريخ سكود سورية إلى فصيل مقاتلين
صُنّفوا مؤخراً كفيلق مشترك بين الحرس الثوري الإيراني و الجيش السوري أُسند
إليه دور محوري في "تفعيل" و "تجويد" إستراتيجية إيرانية-سورية نوقشت خلال
إنضمام أمينه العام إلى مداولات الرئيسين الإيراني و السوري في 24 شباط
الماضي التى عبّرت عن وثوق و عمق في التحالف بدا معه عصيّاً على التفكيك.
أما
توازن السلام فنابع من قناعة صانعيه و هو راسخ و دائم يفتح دروب النمو و
النجاح و الإزدهار أمام الشعوب التى تحظى بنعمته.
غالبية
اللبنانيين تنشد السلام لأنّه صِنْوَ عزّهم و متجذّر في وجدانهم، و لأنّهم
دفعوا و ما زالوا أثماناً باهظة لإستباحة وطنهم ساحة للحروب و الصدامات مع
إسرائيل و هدفاً لإشباع نهم سيطرة الأشقّاء و حشد الأتباع على أساس مذهبي و
ضمّهم إلى "حرّاس ثورة" دينية إستحوذت على ولائهم و فصلتهم عن مواطنيهم.
بدل
السير في موكب الولاء الوطني يستنفر هؤلاء كل عوامل قوتهم للجم و تدجين
النزعة السيادية و إستتباع معتنقيها.
قدر
اللبنانيين ان يواجهوا بإستمرار ضغوط تفجّر ديموغرافي، مدجّج بالسلاح و مكتنز
بالمال و مستقطب بإحكام من "مرشد معصوم"، يتوق بشغفٍ و ثباتٍ إلى الهيمنة على
بلاد الأرز و قلب نظامها الديمقراطي لجعله ثيوقراطاً.
على
اللبنانيين الأباة، الذين تجاوزوا المحن المريرة و نُكبوا بممتلكاتهم و
أعمالهم و بيئتهم، أن يواظبوا بثبات على دعم مؤسسات الدولة و ينخرطوا فيها، و
ألاّ يغادروا أرضهم و بيوتهم و ألاّ يبيعوها مهما كانت الإغراءات لئلاّ
يسلّموا صكّ بيع الوطن لمن يجيّره للغريب و يهمّشهم و يقذف بهم إلى البحر و
ما وراءه.
واجب
مسؤولي الدولة الحرصاء على مصلحة اللبنانيين أن يبذلوا بالطرق الشرعيّة كلّ
الجهود المخلصة ليحموا أمن مواطنيهم و يحصّنوا سلامة ممارسة السلطات و
يؤمّنوا سبل تحصيل العيش بكرامة من خلال إستنهاض الهمم و توفير مصادر التمويل
و الإنتاج لإطلاق تنمية شاملة و خلق فرص عمل مجدية و مجزية و تسهيل منال
العلم و تطوير مستواه و تحصين مؤسساته من الغزو الميليشياوي و تأمين العناية
الصحّية و العقليّة لكل الأجيال من الطفولة إلى الشيخوخة كما لأصحاب الحاجات
الخاصّة، و التبشير بتربية وطنية نابعة من تراث لبنان و رسالته الحضارية، و
إستيفاء حقوق المواطنين الخاصّة و العامة برفع "اليد الموضوعة" على الأملاك و
إستيفاء عائدات دورية عن الإستثمارات القائمة على الأملاك البحرية و تعديل
قانون تملّك الأجانب لحصره و الحدّ من لعبة "المونوبولي" (الإحتكار) التي
يمارسها لبنانيون يموّلهم رعاتهم ليتوسع ملكهم و سيطرتهم على كامل أرض
الوطن. إضافة إلى حماية البيئة من التلوث و حرق الأشجار لصنع الفحم أو قطع
النادر و المعمّر منها، مثلما جرى مؤخّراً لغابة أرز في عكّار، و قضم الجبال
العشوائي بالمقالع و الكسّارات التي تطحن الصّخر لتقبض ثمنه ذهباً منهوباً.
لتلافي
حشر لبنان في قالب شرنقة مظلمة، المطلوب بناء إستراتيجية نهوض شاملة الإنعاش
و النفع، مسيّجة بدفاع وطني أصيل، تتيح مشاركة كلّ أبناء الوطن، و توجّهها
سلطات الدولة بقوة الدستور و القانون و تحميها من عنوة طغيان و شهر السلاح
الفئوي المتفلّت من إمرتها. |