خواطر نابعة من ذكرى عيد الاستقلال
درب الاستقلال شقتّها عزائم أبطال عظماء استُشهد لفيف منهم بدءًا من
عهد جمال باشا السفّاح مروراً بعهود سفّاحين جدد متعطّشين للدّم
والسلطة والاغتصاب نذروا أنفسهم لإيقاد نار جهنّم.
مواكب الشهداء تجلّت خلال محطّات صراع مرير مع أنماط من هؤلاء لصيانة
استقلال لبنان والذود
عن أرضه وحماية تنوّع ضفائر مجتمعه والدفاع عن كرامة أهله وحريّة
قرارهم ورونق وئامهم.
قيّض لأشباه "نيرون" ومصّاصي الدماء والسلطة والحرّية والثروة والأمان
أن يتلذّذوا بتمزيق أجساد
لفيف شهداء "ثورة الأرز" ومعهم كوكبة من ضبّاط ورتباء وجنود جيشنا
وقوانا الأمنيّة البواسل، لكن رغم جلل الخسائر الدامغة لكلّ أيّام
السنة وخيانة البعض وتخاذل البعض الآخر ما انطفأت شعلة الإيمان بصمود
وتعافي وطننا في قلوب أبنائه الأبرار ولا بردت عزائمهم على إنهاضه من
الكبوات.
وهكذا انطبعت ذكرى عيد الإستقلال بحدثين مأساويّين هما إغتيال الرئيس
رينيه معوّض واغتيال الوزير والنائب بيار الجميل اللذان أضفيا على
الذكرى مرارة حادّة تضاف إليها مرارة تفريغ سدّة الرئاسة الاولى وهي
بمثابة اغتيال معنويّ لكلّ ما يمثّله هذا المقام.
رغم الآلام يثير عيد الاستقلال في وجدان اللبنانيّين الأوفياء اعتزازاً
بعظمة أجدادنا وفرادة تراثنا وروعة وطننا.
فهو انخطافة تأمّل وجردة حساب نستعرض خلالها تاريخاً طويلاً حافلاً
ببطولات واكبت نشأة لبنان في فيء أرزه.
لقد بذل جدودنا تضحيات عظيمةً وجهوداً جبّارة حتى نهضوا بجنّة صغيرة
احتضنت حضارات عريقة واعتصرت ثقافات متنوّعة أسموها لبنان.
لقد جعلوا لبنان حصناً عصيّاً على الغزاة ورقعة فسيحة للعمران ومنبراً
حرّاً للفكر ومنارة وضّاءة للعلم وموئلاً آمناً للأحرار ومنتدىً
مفتوحاً للحوار.
إنسان لبنان خلّاق منذ عهد الفينيقيّين الذين اخترعوا السفن لاكتشاف
آفاق المتوسّط وحملوا معهم الأبجديّة والأرجوان والنبيذ. كالمارد
المنطلق من القمقم تجلّى اللبنانيّون على مدى العالم وبرعوا وما زالوا
يتألّقون في شتّى المجالات.
كلّ مأثرة من مآثرهم تتفجّر فيضاً من الزخم في وجدان أجيالنا الطالعة
فتحفّزهم على بزّ أسلافهم في العطاء الخيّر.
جودة الإنسان اقترنت بجودة الطبيعة في لبنان فهي سخيّة العطاء، طيّبة
الثمار، خلّابة الجمال تنتصب قممها مكلّلة بالثلوج مزدانة بالأرز
الشامخ على مدى العصور الذي ألهمنا الصمود فجعلناه رمز وطننا.
وهي متحف غنيّ بآثار حضارات شعوب تفاعلنا معها فاعتصرنا منها خلاصة
حضارة خصيبة. عندما ارتضى اللبنانيّون أن لا يرتموا في احضان الشرق
والغرب بل ان يسخّروا علاقاتهم مع العالم لخدمة هذا الوطن المتميّز عن
محيطه بخليطه البشريّ وانفتاحه وتطابق النزعات الفطريّة والفكريّة
لأهله وروّاده الطليعيّين مع القيم العالمية لحقوق الإنسان، لم
يتصوّروا أن الخروقات المتكرّرة لمجتمعه خلال فترات الضعف ستفرز جماعات
شذّت عن مسار الحداثة وتورّطت بالتناحر بينها داخل وخارج
الوطن منها من انخرط ووثّق ارتباطه ببلاد العجم ومنها من حنّ إلى
الحياة القبليّة ومبايعة "خلفاء".
الوطن وأهلنا عالقون رهائن صراعات مجنونة تغذّيها صراعات عقائديّة
دينيّة شرسة تغلّف سباق توسيع مدى النفوذ.
هذا الخطر المصيري يحفّزنا على التصدّي له بدعم ركائز الدولة انطلاقاً
من الجيش وقوى الأمن، وتطهير السلطات والمؤسّسات واحترام الدستور
وتطبيق القوانين واجتثاث الفساد والانتظام ضمن السياق الديمقراطيّ
والإلحاح على انتخاب رئيس للجمهوريّة مهيب الخصال، حرّ الضمير، شجاعاً
في الدفاع عن الدستور والحقّ، حكيماً في اتخاذ المواقف وحسن التدبير،
نافذ الكلمة، حبّه للوطن أربعة وعشرون قيراطاً.
كما أنّ هذا الخطر الداهم يزيدنا تمسّكاً بأرضنا ويدفعنا إلى المطالبة
باستثمار معجّل لمخزون نفطنا ومياهنا والإصرار على حقّنا بالاقتراع
والترشّح للإنتخابات النيابيّة مقيمين ومغتربين من خلال قانون يعطي
شرائح المجتمع السياديّة قوّة تمثيليّة بدل تشتيتها شراذم ضعيفة تذوب
ضمن دوائر إنتخابيّة يطغى عليها غالبيّة فئويّة.
لن نرتهب من قرقعة السلاح ومن انفلاش الطوف الديموغرافيّ على مدى الوطن
لاقتلاع جذور اللبنانيّين من معاقلهم بل سنثبت في قرانا ونحافظ على
أرضنا ونتمسّك بانتمائنا وولائنا لوطننا وتمتين وتحصين صيغته
النموذجيّة.
الاستقلال هو حجر العقد في بناء الدولة ومحور الهويّة الوطنيّة وجوهر
كرامة المواطن فلنصنه ونحمه من الهجمات المسعورة للإطباق عليه ومحو
معالمه الفريدة وتهميش وتجفيل إنسانه.
تعلّقنا بوطننا الأم كتعلّق الطفل الرافض للفطام بأمّه، لسان حالنا
النشيد الوطني الذي هو من أجمل
الأناشيد وأبلغها معانٍ ونشيد الأخطل الصغير (لحّن كلاهما الأخوان
فليفل) الذي نقتطف منه مطلعه: هوى وطني فوق كلّ هوى جىرى في عروقي مجرى
دمي وفي مهجتي كبرياء الجدود بناة العظائم من آدم ونحن الشباب كبار
المنى تشاد الحياة على عهدنا
|