اغتيالان آثمان
نغّصا ذكرى عيد الاستقلال
يطغى حزن الحداد على فرحة إحياء ذكرى عيد الاستقلال. فبعد انتخاب الرئيس
رينيه معوّض بسبعة عشر يوماً وإثر انتهائه من إحياء مراسم عيد الاستقلال في
11/22/1989 فُجّر موكبه فاستشهد واستشهد معه العديد من المرافقين والمحيطين
بموكبه. مقتله شكّل خسارة وطنيّة لاتُعوّض فهو شخصيّة مرموقة من رعيل
التيّار الشهابيّ تمرّس في السياسة منذ انتخابه نائباً سنة 1957 وتقلّب في
مناصب تشريعيّة ووزاريّة حيث سجّل نجاحاً لافتاً. انتُخب رئيساً إثر مؤتمر
الطائف فركّز اهتمامه على تطمين الشركاء المسلمين أن التعديلات الدستوريّة
ستتنفّذ وطرح حلّاً سلميّاً لإلغاء حكومة العماد عون وتعهّد بالضغط لتنفيذ
انسحاب سوريّ مرحليّ إلى البقاع فكان الجواب سريعاً بعصف الانفجار الذي قضى
عليه.
و منذ سبع سنوات عشيّة عيد الاستقلال طارد مجرمون حاسرو الوجوه في وضح
النهار سيّارة الوزير الشابّ الطافح بالطموحت والنشاط الشيخ بيار الجميّل
ونفّذوا ما كلّفهم به العقل المدبّر لسلسلة اغتيالات طالت قيادات لثورة
الأرز فرموه ومرافقيه برصاصات مكتومة الصوت فجّرت فجيعة مؤلمة وغضباً
مجلجلاً في قلب كلّ لبنانيّ أصيل.
هذان الاغتيالان الآثمان دمغا ذكرى عيد الاستقلال بدماء الشهيدين العزيزين.
الشيخ بيار عمل بحماس وشغف مع أقرانه لتدعيم هذا الاستقلال المستهدف من
مختلف الطامعين بالهيمنة على وطننا الحبيب لبنان.
وهو ليس الشهيد الوحيد من عائلة الجميّل فهناك الطفلة مايا ووالدها الشيخ
بشير الذي دُبّرت له عملية اغتيال جماعيّة بتفجير بيت الكتائب في الأشرفيّة
قبيل تسلّمه مقاليد رئاسة الجمهوريّة.
الشهيد النائب أنطوان غانم المناضل الصامت قياديّ كتائبيّ آخر اغتيل في
السياق المتسلسل لاغتيال قيادات ثورة الأرز.
لقد سالت دماء معموديّة الإستشهاد في حزب الكتائب من قمّة الأرزة حتّى
جذورها للدفاع عن سيادة وحريّة واستقلال لبنان وحماية نظامه الديمقراطي
ورسالته الحضاريّة ووئام تنوّعه من أنواء التطرّف العاتية الهابّة عليه
لجرف معالمه الحضاريّة.
حزب الكتائب عريق ومتأصّل في العمل الوطنيّ منذ تأسيسه سنة 1936 و له دور
محوريّ في الحياة السياسيّة اللبنانيّة وفي إنجاز العبور من مرحلة الإنتداب
الفرنسيّ إلى ضفاف الإستقلال وكان مؤسّسه الشيخ بيار الجميّل منذ شبابه
حتّى وفاته نجماً لامعاً ولاعباً
بارعاً على مسرح السياسة واكبه طاقم من النوّاب والوزراء والمنظّرين
السياسيّن والمفكرين والأدباء وأهل علم ومعرفة أكفياء. والحزب مستمرّ بلعب
دوره البنّاء تحت رئاسة الشيخ أمين الجميّل الناشط في مساعيه الدوليّة
والوطنيّة وإدارة اللجنة المركزيّة ومنسّقها النائب الشيخ سامي الجميّل
الذي يطرح بشجاعة هواجس اللبنانيّين ويدافع عن مصالحهم تحت قبّة البرلمان
حيث يقترح القوانين الضامنة لذلك.
على عكس الثلاثيّة الهجينة التي تبتغي ترسيخ فصيل فئوي مسلّح شريكاً للجيش
وقوّة قارضة للدولة كان شعار الكتائب الأرزة الخالدة مزيّنة الزوايا بكلمات
" الله" "الوطن" و"العائلة"، فالله يراقب أعمالنا والوطن يجمعنا شركاء في
محبّته والولاء له وخدمته والإهتمام بتنشئة العائلة على القيم الروحيّة
والوطنيّة السامية هو السبيل الأكيد لبناء مجتمع صالح.
طبعاً لحزب الكتائب شركاء كثر أوّلهم توأمه القوّات اللبنانيّة بذلوا
الأرواح في سبيل الدفاع عن سيادة لبنان وحريّة أهله واستقلال قراره وحماية
نظامه الديموقراطي فتحيّة تقدير وإجلال لكلّ حرّاس السيادة والحريّة
والاستقلال وخاصّة جيشنا الباسل ومختلف القوى الأمنيّة ولنجدّد عهدنا
باستكمال إنجاز أمنيات شهدائنا الأبرار.
وتحيّة تقدير لحامي الدستور وصائن الاستقلال والمدافع بمنطق وحكمة وحرص عن
قضايا لبنان في المحافل الدوليّة والراسم أطر التفاهم الداخلي والخطوط
الحمر فخامة رئيس الجمهوريّة ميشال سليمان.
عيد الاستقلال هو وقفة اعتزاز تذكّرنا بعظمة أجدادنا وفرادة تراثنا وروعة
وطننا.
وهو انخطافة تأمّل وجردة حساب نستعرض خلالها تاريخاً طويلاً حافلاً ببطولات
واكبت نشوء وطننا.
لقد بذل جدودنا تضحيات عظيمةً وجهوداً جبّارة حتى نهضوا بجنّة صغيرة احتضنت
حضارات عريقة واعتصرت ثقافات متنوّعة أسموها لبنان.
لقد جعلوا لبنان حصناً عصيّاً على الغزاة ورقعة فسيحة للعمران ومنبراً
حرّاً للفكر ومنارة وضّاءة للعلم وموئلاً آمناً للأحرار ومنتدىً مفتوحاً
للحوار.
إنسان لبنان خلّاق منذ عهد الفينيقيّين الذين اخترعوا السفن لاكتشاف آفاق
المتوسّط وحملوا معهم الأبجديّة والأرجوان والنبيذ.
كالمارد المنطلق من القمقم تجلّى اللبنانيّون على مدى العالم وبرعوا وما
زالوا يتألّقون في شتّى المجالات.
كلّ مأثرة من مآثرهم تتفجّر فيضاً من الزخم في وجدان أجيالنا الطالعة
فتحفّزهم على بزّ أسلافهم في العطاء الخيّر.
جودة الإنسان اقترنت بجودة الطبيعة في لبنان فهي سخيّة العطاء، طيّبة
الثمار، خلّابة الجمال تنتصب قممها مكلّلة بالثلوج مزدانة بالأرز الشامخ
على مدى العصور الذي ألهمنا الصمود فجعلناه رمز وطننا.
وهي متحف غنيّ بآثار حضارات شعوب تفاعلنا معها فاعتصرنا منها خلاصة حضارة
خصيبة.
عندما ارتضى اللبنانيّون أن لا يرتموا في احضان الشرق والغرب بل ان يسخّروا
علاقاتهم مع العالم لخدمة هذا الوطن المتميّز عن محيطه بخليطه البشريّ
وانفتاحه وتطابق النزعات الفطريّة والفكريّة لأهله وروّاده الطليعيّين مع
القيم العالمية لحقوق الإنسان، لم يتصوّروا أن الخروقات المتكرّرة لمجتمعه
خلال فترات الضعف ستفرز جماعات شذّت عن مسار الحداثة وتورّطت بالتناحر
بينها داخل وخارج الوطن منها من انخرط ووثّق ارتباطه ببلاد العجم ومنها من
حنّ إلى الحياة القبليّة ومبايعة "خلفاء".
الوطن وأهلنا عالقون رهائن صراعات مجنونة تغذّيها صراعات عقائديّة دينيّة
شرسة تغلّف سباق توسيع مدى النفوذ.
هذا الخطر المصيري يحفّزنا على التصدّي له بدعم ركائز الدولة واحترام
الدستور وتطبيق القوانين وتشكيل حكومة خبراء حياديّة والتمسّك بأرضنا
والاستفادة من مخزون نفطنا ومياهنا وحقّنا بالاقتراع والترشّح للإنتخابات
النيابيّة من خلال قانون يعطي شرائح المجتمع السياديّة قوّة تمثيليّة بدل
تشتيتها شراذم ضعيفة تذوب ضمن دوائر إنتخابيّة يطغى عليها غالبيّة فئويّة.
لن نرتهب من قرقعة السلاح ومن انفلاش الطوف الديموغرافيّ على مدى الوطن
لاقتلاع جذور اللبنانيّين من معاقلهم بل سنثبت في قرانا ونحافظ على أرضنا
ونتمسّك بانتمائنا وولائنا لوطننا المحصّن برسالته النموذجيّة.
الاستقلال هو حجر العقد في بناء الدولة ومحور الهويّة الوطنيّة وجوهر كرامة
المواطن فلنصنه ونحمه من الهجمات المسعورة للإطباق عليه ومحو معالمه
الفريدة وتهميش وتجفيل إنسانه.
تعلّقنا بوطننا الأم كتعلّق الطفل الرافض للفطام بأمّه، لسان حالنا النشيد
الوطني الذي هو من أجمل الأناشيد وأبلغها معانٍ ونشيد الأخطل :الصغير (لحّن
كلاهما الأخوان فليفل) الذي نقتطف منه مطلعه
هوى وطني فوق كلّ هوى جىرى في عروقي مجرى دمي
وفي مهجتي كبرياء الجدود بناة العظائم من آدم
ونحن الشباب كبار المنى تشاد الحياة على عهدنا
أكاديمي مواظب على تقصّي وتفحّص الشؤون
اللبنانيّة*
|