3.12.07
بمكوناتنا المادية و العقلية و الشعورية و التفاعلية، نغتذي من كل بيئة
نلجها، فنتأثر بها و نؤثر فيها على قدر تفاعلنا في بوتقتها.
نتدرج في إستقاء المعرفة و إجراء الإختبارات و فهم العلاقات و كشف
الأدوار و إستخلاص النتائج و صوغ القواعد و التمرس في التطبيق إكتساباً
للمهارات و تحفّزاً لإستنباط المستجدات و إستيلاد الإبداع.
نحكّ معدن الأشياء و نصقل جوهر القضايا، فنفرز الجيد عن العائب برؤية
ثاقبة و منطق ناقد، و نُخضع الأحكام لمعايير النزاهة و ألإنصاف و
العدالة الرفيقة لإثبات الحق و لنشر المحبة و الإلفة و الخير.
عسى لو يتوفر لكل إنسان عناية عطوفة و تربية خصبة توسّع نطاق معرفته و
تنشط فضوله و تنمّي طاقاته.
متى نضجت شخصية المرء، لا حاجة إلى رادع خارجي لضمان سلامة السلوك،
فضميره الحي و قيمه الأخلاقية وعقله المتوقد و الراجح كفيلة بإرشاده
إلى جادة الصواب.
و لو قُيض لكل إنسان أن يثمّر طاقاته الخيّرة بعيداً عن لجج الجهل و
غرائز التعصب و شهوات الإستئثار بالسلطة، و بمأمن عن هذيان "التأله" و
أوهام التبرّك بأمجاد حروب "مقدسة"، لكان بالإمكان تفادي النزاعات و
الحروب و إنقاذ الكثير من الأرواح و توفير التكاليف الباهظة لتخصيصها
للإنماء و الإعمار و الإرتقاء و الرفاهية.
فيما تتركز أنظارنا على الوطن المطعون بحراب الخارج و الداخل، و
المحتقن بأجواء الحرد السياسي المشبوه و المترنح تحت وطأة أعباء
التعطيل الإقتصادي و التهديد الأمني، يطالعنا سرب من المشاغبين تعتعهم
سكر نرجسي، يستقطرون و يستسقون الخمر من عصارة معاناة أللبنانيين
فتقشعرّ لعربدتهم الأبدان، و ينتشون بنوبات "العظمة" منشدين قول
"الأخطل":
"إذا ما نديمي علّني ثم علّني ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجرّ الذيل زهواً كأنني عليك أمير المؤنين أمير"
و قول "المتنبي":
"أي محل أرتقي أي عظيم أتّقي
و كل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي"
أنظار المعنيين بمستقبل لبنان من أبنائه و أصدقائه تلاحق عقارب الساعة
فيما تسابق دورانها جهود حثيثة لمنع زرع الألغام في درب إنتخاب رئيس
للجمهورية و تأمين إنجازه في أقصر المهل بعد تعذر إجرائه قبل نفاد
المهلة الدستورية.
أبناء العنفوان و العزة الوطنية حريصون على تكملة مسيرة الخلاص من
الطغيان التي إكتسبت زخماً و بلغت ذروتها في 14 آذار 2005، شاقة درب
الإنعتاق من الكبت و القهر للإنتعاش بنسائم الحرية و الديمقراطية و
السيادة و الإستقلال المحيية للبنان، يسعون جاهدين إلى تأمين حصول
عملية إنتخاب رئيس للجمهورية في سياق ديموقراطي.
فيما الفريق المناوئ الذي تكدّر و إكتأب لإنسحاب جيش النظام السوري،
عبّر عن تعلّقه بهذا "السند" بتنظيم تظاهرة في 8 آذار 2005، و هو اليوم
يعمل جاهداً مع حلفائه للضغظ على الفرقاء الرافضين للتبعية للقبول
برئيس يؤمن الغطاء لهيمنة المحور السوري- الإيراني بشروط يحاول فرضها
حزب مسلّح مزدوج الطبيعة، إقتطع حيّزاً جغرافياً لسلطانه، نظّمه و
أداره طبقاً لعقيدته بمنأى عن سلطة الدولة فجفل من محيطه الكثيرون من
المواطنين المستهجنين و المتوجسين هاجرين ديارهم بدافع القلق.
لعبة المعارضة ظاهرها تحصيل حصص تغرر ببعض الحلفاء و باطنها إطباق على
الوطن بكامله. ظاهرها "تصحيح" التمثيل و باطنها إحباط نهوض الدولة
الديمقراطية المدنية. ظاهرها دعم الحلفاء و باطنها التلطي بهم و خطفهم
أسرى. ظاهرها الشكوى من الغبن و باطنها "خذ و طالب".
و لم يعد سراً الدفع بإتجاه إلغاء "إتفاق الطائف" بضرب "الحديد حامياً"
قبل أن يبرد.
في اللعبة الراهنة يتوسلون بدعة ما عرفها لبنان في إنتخابات رئاسية
سابقة هي تهريب "النصاب" الذي إن صحّ في إحباط إقرار مسألة عادية، فهو
لا يجوز في عملية محورية هي إنتخاب رئيس للجمهورية.
و بما أن المجلس النيابي تحول إلى هيئة إنتخابية، تقتصر مهمة أعضائه
على إنتخاب رئيس بلا تلكؤ عن القيام بواجب المشاركة، يعتبر التقاعس عن
القيام بهذه المسؤولية الملحّة إفتعالاً لحالة إنقلابية على الدستور و
الجمهورية و خيانة لأمانة التمثيل، تجعل مقاطعة الثلث زائد واحد من
أعضاء المجلس النيابي حائلاً دون إنتخاب جوهري لإنسياب و تكامل
السلطات، فيما يكفي حيازة المرشح نسبة النصف زائد واحد في الدورة
الثانية ليعتبر ناجحاً!
إن التهرب من المشاركة في أسمى مهام المجلس النيابي هو بمثابة إعتزال
المحارب من ساحة المعركة.
إن فريق التبعية للمحور السوري-الإيراني يفاوض بشروط راعييه و بتهويل
السلاح تحت ستار التوافق و مواجهة الوصاية الدولية (و هي في الواقع
الرعاية و الدعم و الحماية الدولية التي يهم تحالف جبهة التصدي لأحكام
القرارات الدولية 1559 و 1701 و1757 عزل لبنان عنها ليسهل الإستفراد
به).
اما الفريق الإستقلالي فيواجه هذا الهجوم بتروٍّ و حكمة يحوزان بدعم
دولي واسع النطاق.
منذ سنة 2004 و حتى الآن حظي لبنان بإحتضان دولي لم يكلّ، فيما المحور
السوري-الإيراني يراهن على إثباط العزائم بإختلاق سلسلة نزاعات و عقد و
مطبّات تعيق نهوض الدولة و تسهّل إطباقه (عبر "فرسانه" المحليين)على
وطن الأرز لخنق حرية القرار و زهق نبضات الديمقراطية و سحق عنفوان
السيادة و محق مقومات الإستقلال و الحضارة و الحداثة.
تحت ذرائع حماية عوامل المنعة و التصدي لمشروع "هيمنة أمريكية" و
مواجهة إسرائيل، يستنفر حلف النظامين الإيراني و السوري أتباعه في
لبنان للإستفراد بهذا الوطن و الإنقضاض على تياراته السيادية، بإفتعال
حالات فوضوية و إعتداءات إرهابية و إنشقاقات سياسية و إستنزافات
إقتصادية و ترهيب نفسي إعلامي مسنود إلى "رهبة" التلويح بالسلاح.
و ها هم يروجون ل"إقتراب لبنان من حرب أهلية" و يتوقعون "حصول كارثة"
في سياق الضغط بإتجاه فرض رئيس للجمهورية يخضع لشروطهم التعجيزية و
"يحمي السلاح" من المطالبة بوضعه في الموقع الطبيعي تحت إمرة الدولة.
في غمرة التجاذبات أُجهضت مبادرة خيّرة خلّفت مرارة عند مرجع كلّي
الطوبى إضطر إلى رعايتها فأصدر توضيحاً وضع الأمور في نصابها. و منعاً
للمراوحة في الفراغ بادر فريق 14 آذار، من باب الحرص على تأمين مناخ
وفاقي في عملية إنتخاب رئيس للجمهورية، إلى تزكية قائد الجيش الحالي
لهذا المنصب، نظراً إلى حظوته بدعم كل الفرقاء، تقديراً للنجاح الذي
أحرزه الجيش في إجتثاث المجموعة الإرهابية من مخيم نهر البارد و في
مهام أمنية أخرى، رغم أنه يتطلب إجتهاداً دستورياً قيصرياً لتسويغه.
و كم كنا نتمنى لو يتخلى قاطر المعارضة عن مشروع إسقاط الدولة أو جعلها
مسخاً ينازعها صلاحياتها، لكن الدلائل و المطالب لا تشجع.
و طالما بقي المحور الإيراني-السوري ممسكاً بلاعبيه في لبنان و أختزن
ذخيرة من حرية الحركة فسيتحول الإستحقاق الرئاسي كطابة غولف تقذف من
محطة إلى أخرى حسب المخطط المرسوم لخدمة مصالحه.
ألمطلوب إستنفار كل الطاقات الخيرة لإعادة الرشد لمن أضاعه و لتقويم
هذا الوضع الشاذ، ليسهل إستئناف مسيرة الحرية و السيادة و الإستقلال و
الإستقرار و الإزدهار.