الأمان في البعد عن الحوتين
24.3.07
العلم يبني
"صروحاً" لا "حدود" لها
و الجهل
يهدم بيوت العز و الشرف طوبى لمن أدرك غنى الروافد الحضارية الواردة إلى
القلب النابض "لبنان"، و وعى رسالته و دوره في تلقيحها و تخصيبها ثم
ضخّها إلى مختلف الشعوب المنتشرة في أرجاء المعمورة. فبذل جهده بمحبة و
تفانٍ و صبّ عرقه ليجبل الخير بتراب الوطن و يشيد عمراناً و تراثاً و
مجداً. و حبذا لو يصحو ضمير من عبث بهذه الإنجازات و حطّم هذه النفائس
ليعاني العذاب الذي يستحق. سيُخلّد التاريخ صاغة "تاج الشرق" "لبنان" و
سيفضح همجية المسيئين إليه و المنكّلين به. و
هل يستحقّ ضعفاء الإيمان المتنكرين لوطنهم و المتألبين عليه سوى الغضب
و الإدانة؟ كم مرة خذل هؤلاء أخلالهم كلما
انحرفوا إلى مناصرة من غرر بهم ليفكّك أركان الوطن، تسهيلاً لضمّ أهله
إلى سوق نخاسته و وَشْمِهم عبيداً و رهائن خاضعين لمجونه و جنونه و
تنكيله و جشعه. على إيقاع قساوة التجارب المريرة أدرك كثير من
اللبنانيين، الذين شردوا عن السراط الوطني، أهمية الإنتماء
إليه و حنّوا إلى دفء
كنفهم الطبيعي. لكن رغم هذا التيقظ ظل رعيل آخر محجوراً في كهوف
التبشير التضليلي يخضع لترويض منهجي يعطّل العقل و يسلّط الغرائز. و
تلقائياً نأى، من ركب موج هذا المدّ، عن بقية مواطنيه، و راح يمارس مع
أقرانه"طقوساً خاصة بهم" مستوحاة من مصادر
الإرشاد و الإلهام دون إعتبار لهواجس و تطلعات من هم خارج سربهم. كم
كانت خيبة هؤلاء عظيمة عندما إنكب "جيّاشو الحميّة" على تعثير مسيرة
التعافي تمهيداً لعكسها و سوق اللبنانيين من جديد إلى حظيرة الإذعان و
الإذلال "المرعية" بأركان نظامي إيران و سوريا. كل الضنينين بحريتهم و
عزّتهم و سيادتهم و استقلالهم ينتفضون في مواجهة هذه الردّة الرجعية و
يتساءلون: أي فذلكة تضليلية تسوّغ تفخيخ السلطات، و هي في أوج ترميمها،
تحت شعار "إعادة تكوينها"؟ و أي نضال "مقدس" هو ذا الذي يضرب إقتصاد
الوطن، في عزّ استعادة انفاسه، تكراراً و دون هوادة؟ و أي خدمة وطنية
جليلة تُؤدّى بالعبث الدائم بالإستقرار و إقلاق المواطنين حول المستقبل و
تهجير أبنائهم بإنتظام و تجفيل كل مستثمر؟ إن لم تكن هذه مأساة بل جريمة
إستنزاف مميت فماذا عسانا نسمّيها؟ و أي روح وطنية سامية هي تلك التي
حوّلت لبنان، ب"سحر" الغوغاء و "تهويل" السلاح "الكامن في الظلّ"، عن
مسار التعافي و النهوض و الوئام و التكافل، إلى منزلق الإستنفار المذهبي،
ل"يُزكّى" لبنان مرشحاً على لائحة الدول المبتلية بالتناحر المذهبي؟ و
أي منطق مختلّ هو ذا الذي يهمل طلباً شرعياً لفتح دورة استثنائية للمجلس
النيابي تقدم به فريق الأكثرية النيابية قبل بدء الدورة العادية
الحالية؟ و الآن مع بدايتها يحرّم دعوتهم للإجتماع في مقرهم الشرعي- و
غالبيتهم ملهوفة لمزاولة مهامهم، بعد طول انقطاع، و مناقشة ما يتجاوز مئة
و خمسين مشروع قانون و بتّ شؤون حيوية يتصدرها صيغة المحكمة الدولية
الطابع المولجة محاكمة المشتبه بضلوعهم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق
الحريري و ما يتصل بها- "تلافياً" لإحداث تصدُّع " قد ينشأ" عن ضوضاء
الصخب السياسي، فيما يسوّغ إحتلال الساحات العامة لأشهر و يعتبره مأموناً
(و مجزياً إقتصادياً للطبقات الكادحة!)! و الأكثر غرابة هو إعتبار
الدعوة إلى إنتخابات نيابية مبكرة، مبادرة ملائمة، في الظروف المحتقنة
إياها، المسعّرة للنزعات و العصبيات المحرّفة للخيارات و المثيرة
للإحتكاكات الخطيرة. ثم كيف يُعقل السكوت عن محاولات تجريد الوطن من
الكفالة الدولية الرادعة للطامعين، و الحائلة دون قذفه أمام حوتين سبق أن
إبتلعه أحدهما؟ فهي التي احتضنت و كافأت نضال و صمود بنيه السلميين و
انتزعته من أحشاء الحوت المفترس. و ها هو الإنقلاب على بنود جلسات
الحوار و النقاط السبع و غيرها من بنود القرار الدولي 1701، يجرّ لبنان
نحو فاهي الحوتين و يشكل خطراً مصيرياً يتهدد كيانه المتنوع الأرصدة. إن
كل مخلص لوطنه يتمنى تضافر جهود كل مواطنيه في تنافس بنّاء لخدمته و
يريده قوياً و منيعاً و آمناً و مزدهراً. لكن السبيل القويم للمساهمة
الصادقة في نهوضه، هو الإقدام عند اقتضاء بذل الخير و الإحجام عند تحاشي
وقوع الشرّ. في الظروف المعقدة و الحساسة التي تلفّ الوطن، الواجب
الوطني يقضي بإيلائه عنايتنا الفائقة و مؤازرتنا، لا إعتبارها فرصة سانحة
لإبتزاز تنازلات. إنها حقبة استثنائية حرجة تفرض دعم سلطات الدولة و
مؤسساتها لا إضعافها و منازعتها نفوذها بمؤسسات ميدانية فئوية. ممارسة
السلطات من خلال المؤسسات الشرعية هي جوهر السيادة، و هي لا تُعار و لا
تُفوّض و لا يُفاوض عليها. معروفة تماماً الجهات التي تواطأت مع الحوتين
الإقليميين المهووسين بإفتراس لبنان لتجريع أبنائه العلقم، و لم تفسخ
"تعاقدها" و التزامها معهما بعد. و الكبوات المتتالية التي افتُعلت،
للتسبب بخنق سياسي و إقتصادي، ما هي إلا تنفيذ لبنود هذه العهود. لذا
فكل صيغة "تسوية" متشابكة مع هذا الإرتباط هي مفخخة. المطلوب إنعتاق من
قيود "ذوي القربى" و إعتناق وثيق لمفاهيم الديمقراطية و الحرية و السيادة
و الإستقلال، و التمرس في تطبيقها. إذا كانت المحكمة تشكل طوقاً محكماً
حول عنق النظام السوري و إذا كانت مطاردة المجتمع الدولي للنظام الإيراني
حثيثة لثنيه عن تشغيل أجهزة الطرد المركزي المخصّبة لليورانيوم و لكبح
جموح توقه للسيطرة على شعوب و نفط المنطقة، لماذا السماح لهما بالإطباق
على لبنان لجعله ساحة المواجهة تحت ذريعة "إحباط الوصاية الدولية"؟ كثير
من خطط هذا الثنائي و حلفائه تبرز للمعاينة الدقيقة، لكن المستتر من
أسراره وفير. و قد حملها في جعبته الجنرال علي أصغري لاجئاً إلى "الغرب"
و متى أفرغها ستنفضح خيوط مؤامرات كانت غامضة و ستنكشف علاقات الضالعين و
أدوار التابعين، و سيقول لنا عندها:
قل لمن يدعي في
العلم "معرفة"
حفظت شيئاً و غابت
عنك أشياء
*مهندس
و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية |