الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

www.elaph.com

 

ماذا بعد الاستقلال اللبناني الثاني؟

 د. شاكر النابلسي

GMT 21:30:00 2005 الجمعة 18 مارس

-1-
تنادي المعارضة اللبنانية بتحقيق "الاستقلال ال

ثاني" بواسطة ما يُسمّى بـ "ثورة الأرز". وبحسب المعارضة اللبنانية فإن لبنان على هذا النحو يعتبر مُستعمَراً من قبل سوريا التي احتلته طوال 29 عاماً (1976-2005)كما كان عهده أيام الانتداب الفرنسي الذي استمر 25 عاماً (1918-1943) ، وهدف المعارضة هو النضال السلمي أو فلسفة اللاعنف (الساتياراها) على الطريقة الهندية التي قادها غاندي أو على الطريقة الجورجية أو الأوكرانية الملهمة، وهو ما يرفضه "حزب الله" كما قال أمينه العام السيد حسن نصر الله في خطبته
  8/3/2005 حيث قال "إن لبنان ليس جورجيا ولا أوكرانيا". ومثل هذا النضال السلمي لاخراج القوات الاجنبية سواء كانت عربية أو غربية يُعتبر أسلوباً غريباً وهجيناً على الحياة السياسية العربية التي اعتادت منذ الثلاثينات من القرن الماضي على التغيير بالانقلابات العسكرية الدموية (انقلاب بكر صدقي العراقي 1936) وممارسة النضال على الطريقة الماوية الفلاحية ؛ أي عبر فوهة البندقية التي نجحت في الصين ولم تنجح في فلسطين، ونجحت في الجزائر ولم تنجح في العراق ونجحت في فيتنام ولم تنجح في لبنان. والسبب في ذلك أن حرب العصابات والمليشيات أو ما يُسمّى بـ "الكفاح المسلح" يحتاج إلى قوة عظمى أو شبه عظمى لكي تدعمه بالمال والسلاح والمساندة في المحافل الدولية، كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي بالنسبة لحركات التحرير المسلحة في مختلف مناطق العالم.

-2-

لماذا نجحت حتى الآن (ولا ندري ماذا سيتم غداً) "ثورة الأرز" السلمية كما لم تنجح في أي بلد عربي ، وكما لا يُتوقع أن تنجح في أي بلد عربي آخر، واستطاعت أن تُطيح بالحكومة وتجبرها على الاستقالة رغم عودة كرامي المؤقتة الآن، كما استطاعت تأليب الرأي العام العالمي ودوائر صُنع القرار في العالم على اصدار القرار 1559 الذي يُرغم سوريا على سحب كافة قواتها العسكرية والأمنية ورفع يدها عن لبنان نهائياً، وذلك قبل موعد الانتخابات التشريعية اللبنانية في مايو القادم؟
إن لذلك أسبابه الكثيرة منها:
1-  أن الرأي العام العالمي ودوائر صُنع القرار في الغرب اقتنعوا جميعاً بعد الانتخابات الفلسطينية والانتخابات العراقية في بداية هذا العام، أن الشعب العربي جدير بالديمقراطية – على عكس ما كان يُقال - فيما لو وجد من الخارج قوىً تسانده، وتشدَّ من عضده، وتساعده على ركوب مهالك الديمقراطية وطريقها الوعر والصعب في العالم العربي. فالذي قوّى من عضد المعارضة اللبنانية هو القرار 1559 دون شك، وكذلك وقوف الرأي العام العالمي متمثلاًَ بالإعلام ومنظمات حقوق الانسان والنخب السياسية والفكرية المنتشرة في معاهد البحث والدراسة والرصد والتحليل، وكذلك جموع اللبنانيين والعرب في المهجر.
2- إن سقف الديمقراطية اللبنانية هو أعلى سقف عربي على الاطلاق وبدون جدل. فحرية الإعلام الموجودة في لبنان - رغم كل المضايقات ورغم تسلط أجهزة الأمن – لا يوجد مثيل لها في العالم العربي. وحرية الانتخابات وشفافيتها الموجودة في لبنان – رغم كل ما يقال عن التلاعب والتزوير وشراء الذمم فيها – هي من أنظف الانتخابات العربية. ولبنان هو البلد الوحيد في العالم العربي الذي يوجد فيه رؤوساء جمهورية سابقون أحياء وخارج الحكم (الياس الهراوي وأمين الجميل) في حين أن الحاكم العربي لا يترك القصر إلا إلى القبر. وهذه النفحات والنسمات من الديمقراطية هي التي دفعت حكومة كرامي إلى الاستقالة. وهو عمل سياسي وديمقراطي جليل من كرامي يُحسب له. وكان بودنا أن لا يقبل تكليف تشكيل الحكومة من جديد، لكي يحافظ على جلال وقيمة استقالة حكومته الأولى. فما أسقطه الشعب لا يرفعه الحاكم. ولو كان كرامي في بلد عربي آخر ووراءه هذه الأجهزة الأمنية الضخمة ويحميه جيش من 14 ألف جندي كالجيش السوري لما استقال. علماً بأن استقالته – في أغلب الظن - جاءت بالاتفاق مع سورية، ولم تكن ابنة لحظتها كما يُشاع، والدليل هو خطاب الاستقالة الذي ألقاه كرامي في البرلمان اللبناني، والمكتوب بعناية فائقة وبكلام هادئ مما يدل على الاعداد الطويل والمتأني والمُسبق له.
3- من المعروف أن درجة بارومتر الحداثة السياسية في لبنان هي من أعلى الدرجات العربية. فلبنان بلد عَلماني من الطراز العربي الأول، رغم أن العَلمانية اللبنانية تتهم بأنها "عَلمانية طائفية" وهي ظاهرة جديرة بالدرس، فيما لو علمنا أن من أبرز أسباب انتشار الطائفية الدينية والعرقية في لبنان يعود إلى عدم التزام واحترام القانون في لبنان، الذي من المفروض أن يعطي كل ذي حق حقه، دون أن يلجأ الفرد إلى الاستعانة بزعيم الطائفة، وتكريس الولاء له وللطائفة، سعياً وراء تحقيق مطالبه الشرعية التي تحققها الطائفة، ولا يحققها القانون الغائب أو الْمُغيّب.
4- أن لبنان بحكم تاريخه الثقافي والسياسي هو أقرب البلدان العربية إلى الغرب. بل إن الغرب هو أقرب للبنان من أي بلد عربي ثقافياً وسياسياً. ففرنسا هي الأم اللبنانية الرؤوم وليست مصر أو سوريا أو السعودية. ولبنان هو أول بلد عربي فتح صدره وعقله للتنوير الثقافي والسياسي الغربي منذ القرن الثامن عشر. وكان لبنان هو نقطة انطلاق التنوير الغربي إلى العالم العربي الذي قفل أبوابه وعقله في وجه هذا التنوير منذ حملة نابليون على مصر 1798 بحجة الحفاظ على الثوابت وحماية المنابت، كما شرحنا في كتابنا (عصر التكايا والرعايا: وصف المشهد الثقافي في بلاد الشام، 1999).


-3 -
إن الحالة التي يفرزها الاستقلال اللبناني الثاني، بعد الاستقلال الأول عام 1943 ليست فقط انسحاب الجيش السوري من لبنان، وليست فقط سحب الأجهزة الأمنية السورية من لبنان، وليست فقط رفع يد سوريا عن لبنان نهائياً. فاليد السورية على لبنان لم يتم رفعها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة منذ الاستقلال الأول 1943. فكما اعتبر العراق الملكي والعراق الجمهوري بعقل أخرق منذ 1920 وحتى 2003 الكويت جزءاً لا يتجزأ من العراق، وبأنها ولاية تمَّ فصلها عن العراق، فالسوريون أيضاً يعتبرون لبنان على هذا النحو. وأن "لبنان الكبير" الذي يضمّ الجبل والمدن الساحلية والأقضية الأربعة انفصل عام 1920 عما كان يُسمّى بسوريا الكبرى التي ما زالت حلم السوريين القوميين والحزب القومي السوري اللبناني الموالي لسوريا الآن. وكان هذا الانفصال عملية تاريخية وفعلاً استعمارياً في الوقت نفسه كما يصفه المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي. فالعملية التاريخية تتعلق باكتشاف أهل جبل لبنان في ظل المتصرفية باستحالة عيشهم ككيان مستقل لاتكالهم على طرفين: أولاً البقاع وبر الشام وهما مصدر ثلثي حاجاتهم من الحبوب واللحوم. وثانياً لارتباط الجبل ببيروت بارتباطات عدة أهمها تصدير إنتاج الحرير من خلال مرفأ بيروت. وبالتالي فإن "لبنان الكبير" كناية عن حاجة اقتصادية تضخمت أهميتها مع مجاعة 1916، فكانت فكرة إلحاق سهلي عكار والبقاع هي من أجل تأمين منطقة زراعية تزود لبنان بحاجاته من الحبوب واللحوم. والمفارقة، أن هذه الحاجة الاقتصادية سارت باتجاه معاكس لفكرة الكيان المسيحي لأن "لبنان الكبير" كما تخيّله يوسف السودا بات لبنانياً فقد فيه المسيحيون الأكثرية العددية. ومن جهة أخرى فإن رسم حدود لبنان، خصوصاً الحدود الجنوبية، تم بغضِّ النظر عن مساهمة اللبنانيين، لأنه تقرر في لجنة عسكرية فرنسية بريطانية مشتركة.
إذن، لبنان بالنسبة لسوريا العسكرية منذ تمّ فصل لبنان عنها في 1920 وتكوين "لبنان الكبير" ونيله الاستقلال السياسي في 1943 ما زال تحت الجلد السوري وفي النسغ السياسي الشعبي والرسمي السوري. وما زالت سورية شعباً ونظاماً تعتبر لبنان اقليما سورياً. والتاريخ الممتد من 1943 إلى الآن يقدم شواهد كثيرة على ذلك، أولها عدم اقامة تبادل ديبلوماسي بين البلدين، فكيف يقيم البلد الواحد تبادل ديبلوماسي مع نفسه؟ فتلك هي الاضحوكة في أدبيات السياسة السورية وفي قاموس الخارجية السورية. وآخرها استمرار الاحتلال السوري للبنان 29 سنة من 1976 وإلى الآن والذي يعتبره السوريون من معارضة وموالاة ومن اليمين واليسار - قبل مقتل الحريري - استضافة الأخ لأخيه، بناء على دعوة "كريمة" من الشرعية والزعامات اللبنانية في ذلك الوقت (الرئيس سليمان فرنجية وبيار الجميل وكمال جنبلاط) وبمباركة أمريكية كما قال كيسنجر في مذكراته عام 1999 لكسر عظم المقاومة الفلسطينية، وتحرير القرى المسيحية من المليشيات الفلسطينية، وحماية للشرعية ومنعاً للتقسيم (انظر: سليمان الحكيم، لعبة الانتخابات اللبنانية). ولهذا السبب نرى أن معظم المعارضة السورية في الداخل والخارج ليست متحمسة الآن بما فيه الكفاية لانسحاب سوريا من لبنان ونيتها لتطبيق اتفاقية الطائف أو الاستجابة للقرار 1559. ولقد سكتت معظم المعارضة السورية طول السنوات السابقة على وجود الجيش السوري في لبنان وما زالت ساكتة، بل هي كانت مسرورة في قرارة نفسها لهذا الامتداد السوري الذي يعتبر – برأيها-   عملاً قومياً عربياً ، قبل أن يكون تسلطاً من الدولة السورية. بل إن السكوت والرضا على الضيوف العسكريين السوريين "الكرام" امتد إلى معظم النخبة السياسية اللبنانية التي كانت تحكم لبنان. فرفيق الحريري الذي تولى رئاسة الوزراء خمس مرات ولمدة عشر سنوات (1992-1998) و (2000-2004) لم يحرك ساكناً، ولم يطالب بخروج القوات السورية من لبنان، بل كان راضياً بها باعتبارها هي التي حملته من مكاتب المقاولات الانشائية إلى سُدة رئاسة الوزراء، وحوّلته من مقاول معماري إلى زعيم سياسي. وكذلك فعل رؤساء الجمهوريات الآخرين ما عدا أمين الجميل والياس سركيس.

-4-

سوف يُفرز "الاستقلال اللبناني الثاني" - فيما لو تمَّ بسلام في الشهرين القادمين - المعطيات التالية على الأرض اللبنانية:
1- توسيع هامش الحرية والديمقراطية في لبنان، واستعادة لبنان لهامش أوسع من الحرية والديمقراطية مما كان عليه قبل الحرب الأهلية 1975.
2- توسيع قاعدة الحداثة السياسية اللبنانية، وصبغ التجربة الديمقراطية اللبنانية بطابع الشفافية في الانتخابات القادمة، حيث ستصبح الانتخابات – كما تطالب المعارضة الآن - تحت اشراف الشرعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة منعاً للتزوير الذي اتهمت فيه كثير من الانتخابات اللبنانية التشريعية والبلدية السابقة.
3- توسيع القاعدة العَلمانية في كافة مناحي الحياة اللبنانية، والتخفيف من دور رجال الدين الإسلامي والمسيحي في الحياة السياسية اللبنانية، نتيجة لعدم وجود قيادات سياسية موحدة تمثل كافة الطوائف اللبنانية مجتمعة.
4- زيادة قوة الأحزاب السياسية العَلمانية وانحسار قوة الأحزاب الدينية وخاصة الشيعية الموالية لسوريا، التي لا تطمح إلى اقامة حكم الملالي في لبنان لأن هذا من سابع المستحيلات، ولكنها تطمع إلى الابقاء على الدور الايراني والسوري في لبنان حماية لمصالحها وللحصول على أكبر جزء من الكعكة السياسية اللبنانية.
5- تولي الشباب اللبناني من كافة الأطياف صدارة العمل السياسي اللبناني . فقد لاحظنا أن الشباب اللبناني من الجيل الجديد هم الذين قادوا تظاهرات المعارضة والموالاة على السواء. مما يبشر بمستقبل سياسي جديد للبنان. فتداول الأجيال أهم كثيراً من تداول الرجال في اقرار وتطبيق الحداثة السياسية. وأثبت الشباب اللبناني ذكوراً وإناثاً بأنه يجيد فن السياسة أكثر من اجادته لفن الرقص والغناء المشهور بهما.
6- سوف يسود القانون الحياة اللبنانية أكثر فأكثر. وبسيادة القانون الذي يمنح الفرص المتكافئة أمام الجميع من الكفاءات سوف يتخفف لبنان كثيراً من وطأة الطائفية الدينية والعرقية وسوف يختفي تدريجياً زعماء المناطق والطوائف ليحل محلهم حكام سياسيون عصريون. اضافة لذلك فإن من بين مقررات الطائف الذي يُصرُّ جميع اللبنانيين على تطبيقها الغاء الطائفية.
7- لن يبقى اللبنانيون بعد ذلك "سجناء بلا قضبان"، كما كانوا في السابق قرابة خمسمائة سنة، منذ الحكم العثماني   1517 وحتى الآن.

Shakerfa@worldnet.att

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها