مار أفرام السرياني _
الشماس و الراهب القديس الذي
أقام من نفسه ذبيحةَ للمسيح
مركز الشرق للدراسات الليبرالية
لا بد لنا في دراسة سيرة مار أفرام أن نلقي نظرة عابرة على أحوال العالم
المشرقي ووضع الكنيسة السريانية في القرن الرابع الذي عاش فيه مار أفرام
واللافت للنظر أن المسيحية لاقت انتشارا واسعا في بلاد ما بين النهرين (بلاد
العراق اليوم) منذ أن حمل بعض الرسل كلمة البشرى الى تلك الأصقاع قبل منتصف
القرن الأول للمسيح. ولكن المسيحية التي كانت تحولت الى كنيسة قوية منظمة ،
أضحت بعد نهاية القرن الثالث منهكة القوى، متعبة، إذ عانت كثيرا من طغيان الفرس
والرومان، وقدمت شهداء كثيرين. وفي بداية القرن الرابع أخذت الدولتان الرومانية
والفارسية تتنازعان على منطقة ما بين النهرين وسورية. فكانت الدولة الرومانية
تحكم منطقة ما بين النهرين العليا و أطراف سورية وأنحاء حوض البحر المتوسط.
وكانت الدولة الفارسية تحكم منطقة ما بين النهرين السفلى. و عندما أعلن قسطنطين
الإمبراطور الروماني مرسوم ميلان عام 313، وفيه أقر الحكم الشرعي للمسيحيين في
ممارسة دينهم، تطورت الخصومة مابين الفرس والرومان، وتحول النزاع بينهما الى
نزاع عقائدي ديني، إذ رأى ملك الفرس في المسيحيين أعداء له طالما يدينون بدين
ملوك الروم، فبدأ يضطهدهم ويلقيهم في السجون و يأمر بقتلهم.
ولكن طريق الكنيسة في القرون الأربعة الأولى للميلاد كان مغروسا بالأشواك
القاسية. في تلك المرحلة الحاسمة، كانت الأديرة ودور العلم الدينية تنتشر في كل
مكان،. وازدهت اللغة السريانية، لغة الكنيسة في المنطقة، إذ دخلتها من الحضارات
المجاورة المصطلحات الفلسفية والعلمية. وكان الى جانب الحركة الفكرية الواسعة
حركة نسكية نشطة، فقد ظهر في هذه الفترة نساك ورهبان أتقياء. وفي كتاباتهم تلمس
معاناة شعبهم من متاعب الحروب وآلامها والانقسامات الداخلية القاسية
أكب مار افرام على الدرس والمطالعة وتعمق في مطالعة الكتاب المقدس، وأتقن اللغة
السريانية وآدابها. تتلمذ على يد الاسقف مار يعقوب، اسقف المدينة وقتها، وكان
الاسقف المذكور ناسكا فاضلا، انفرد منذ شبابه في مغلرة قرب المدينة وأخلص
العبادة لله، فاختير ليكون أول أسقف على نصيبين.
وقد أحب أفرام استاذه مار يعقوب واستفاد كثيرا من علمه الروحي. وفي سنة 325
رافقه الى المجمع المسكوني في نيقية، حيث كان له لقاءات مع مفكري الكنيسة، وعلى
أثر عودتهما من المجمع، أسس مار يعقوب في نصيبين مدرسة لاهوتية ازدهرت حتى
القرن السابع، وفي هذه المدرسة نظم أفرام القصائد والأناشيد التي تعرف
بالنصيبينية، وتُعد صورا رائعة لذلك العصر في تلك المنطقة.
ازدهرت الحياة الرهبانية في القرن الرابع للميلاد، وظهر نساك في براري سورية
الشمالية والوسطى، وملأت الأديرة والجبال ما بين النهرين، ودخل فيها آلاف
الرهبان والراهبات. وقيل أن مار افرام تنسك على اثر دخوله في مدرسة مار يعقوب
اسقف نصيبين. وأتم نذوره الرهبانية الثلاثة: الطاعة والفقر والبتولية. وكان مار
افرام لا يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولا يشرب سوى الماء، ولا يلبس
الا أطمارا بالية. وقد وصف فلسفته الرهبانية قي قصيدة خماسية الوزن يُخاطب فيها
نفسه التي روضها على أعمال التقشف:
(( كم مرة جعت
وكان جسدي بحاجة الى الطعام
ورغب في الماء ليرتوي،
ويتلذذ بندى النعيم،
واذا كان الجسد يكثر دوما من أودتي في فتوتي وشيخوختي
فاني كنت أروضه يوما فيوما حتى النهاية.
في صباح كل يوم،
كنت أفكر في أنني سأموت مساء،
وكالرجل المائت لا محالة،
قمت بأعباء عملي كل أيام حياتي دون ملل ولا كلل.
وفي مساء كل يوم
كنت أتصور أنني لن أكون في الوجود صباحا،
فأنتصب بالصلاة والعبادة حتى شروق الشمس وبزوغها.
أقمت من نفسي ذبيحةَ للمسيح،
وفيها قدمت له أتعاب أعضاء جسمي بخورا
وعطورا،
فقد صار ذهني مذبحا وارادتي كاهنا،
وكمثل حمل لا عيب فيه ضحيت بذاتي قربانا.
فقد حملت نيرك يا سيدي،
منذ فتوتي وحتى شيخوختي
وواظبت على عبادتك حتى النهاية
جذلان بلا ملال
ولا كلال
اعتبرت ضيق العطش وكأنه لم يكن،
اذ رأيت سيدي بسبب خطيئتي
يمتص
الخل من الاسفنجة))
بدأت الطقوس الكنسية في فجر المسيحية كأدعية تتلى ومزامير ترنم في اجتماعات
المؤمنين للصلاة والاحتفال بالقربان المقدس. واهتم مار أفرام بالحياة الطقسية
في الكنيسة إذ أدخل إليها أناشيده المنظومة على ألحان خاصة. كما نظم جوقة
مختارة من فتيات الرها اللواتي علمهن ما اقتبسه من الأنغام الموسيقية وما نظمه
من القصائد الروحية والتراتيل التي ضمنها العقائد الدينية وناهض بها الهراطقة.
وقد صارت أناشيد أفرام وأشعاره جزءا لا يتجزأ من الطقس الكنسي في حياته وماتزال
الكنيسة السريانية تترنم بها صباح مساء.
والى مار لأفرام يعود فضل تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية وتنظيم
الجوقات الكنسية التي تشنف اليوم آذان المؤمنين في الكنائس وتخلق في نفوسهم
الخشوع وتساعدهم على التعبد للرب والاهتداء الى الإيمان الأفضل.
حدث جفاف رهيب في الرها سنة 372-373 عندما انحبست الأمطار وحل جوع كبير وظهر
الغلاء الفاحش ومات عدد غير يسير من أهلها جوعا. كان مار أفرام يوما ذاك في
صومعته في الجبل، فلما بلغته أخبار هذه المأساة أسرع الى المدينة حيث قام
بزيارة الأغنياء محتكري القمح و أخذ صوته يزمجر قائلا: ((افتكروا في رحمة الله
تعالى وجودته واعلموا أن ثروتكم ستمسي وبالا عليكم ونقمة لكم ودينونة
لنفوسكم ان لم تسخوا بشئ منها على الجياع والمنكوبين)) فأثر كلامه فيهم،
فاجتمعوا وتداولوا معا في هذا الأمر وإذ لم يطمئنوا الى من يأتمنونه على ذلك
قال لهم مار أفرام ((ما رأيكم في)) وبما أنه كان حائزا على ثقة الجميع قالوا
((إننا نعرفك رجلا يتقي الله )) فقال ((إذا فأتمننونني على هذا الأمر)) وكان
كذلك فزودوه بمال وفير ليوزعه على أهل الفاقة. فأخذ يؤسس دورا يجمع فيها
المشردين والعجزة.
وكان يشرف بنفسه على الاعتناء به، واستمر عمله هذا سنة كاملة الى اأن انتنشر
وباء الطاعون بعد المجاعة فاندفع في تطبيب المرضى ومآساتهم حتى أصيب هو أيضا
بداء الطاعون. واحتمل آلامه المبرحة وفاضت روحه الطاهرة في 9 حزيران 373 بعد أن
عاش نحو سبعين سنة. كانت لغة مار أفرام السريانية نقية صافية خالية من الشوائب،
غنية واسعة، وأداة طيعة التعبير عن مختلف الأهداف الفكرية. مؤلفاته الفكرية:
تناول الكتاب المقدس بعهديه شرحا وتفسيرا، وقد اعتمد الترجمة البسيطة. ولكثرة
شروحه صرح بعضهم أنه لو ضاعت ترجمة الكتاب المقدس السريانية الأصلية لتيسر جمع
نصوصها من تصانيف مار أفرام.
يعتبر في مقدمة مفسري الكتاب المقدس لدى السريان / واتبع في تفسيره طريقة
المدرسة الأنطاكية التي كانت تتناول النص الكتابي آية آية فتستخرج معناها
الحرفي في مفهومه الحقيقي والمجازي خلافا لمدرسة الاسكندرية التي كانت تتبع
التأويل والأسلوب الصوفي الرمزي. ولم يبق من تفاسيره للكتاب سوى شرح سفر
التكوين وجزء من سفر الخروج ومتفرقات من أسفار العهد القديم.
وله تفسير للإنجيل المختلط المعروف بالدياطرون الذي وضعه طيطيانس عام 170، ولم
يصل الى أيدينا منه سوى ترجمته الأرمنية. كما لم يبق من تفاسيره لرسائل القديس
بولس إلا آيات يسيرة ضمن تفسير الإنجيل لأسقف نسطوري من القرن التاسع. وله
مواعظ هي شروح لفصول من الكتاب في حياة النسك والرهبنة. وله مجموعة قوانين في
الحياة الرهبانية فقد أصلها وحفظت ترجمتها اليونانية أورد ذكرها غريغوريوس
النوسي 395.
هذا وقد ترجمت مؤلفاته الى اليونانية في حياته أو في العقد الأول بعد وفاته
نظرا لأهميتها، كما نقلت بعدئذ الى لغات شتى، أهمها العربية .. فقد ترجم الى
العربية ابراهيم بن يوحنا الانطاكي سنة 980 عددا من مقالات أفرام في الرهبنة،
اضافة الى ما ذكره رئيس أساقفة دمشق للسريان الكاثوليك،
غريغوريوس يعقوب حلياني 1750، وفيه يتحدث عن الشعر السرياني والدور
الريادي الذي قام به مار افرام كماأن ثمة 51 مقالة نقلت الى العربية من
اليونانية حوالي القرن الحادي عشر، هذا وأصلها السرياني مفقود.
|