الجذور الأولى
مركز الشرق للدراسات الليبرالية وحقوق الأقليات
تشير الشريعة أو الناموس الى الأفق الليبرالي الذي يجب أن يتوجه اليه كل عمل
انساني، والعقل هو الذي يقرر أمام أي موقف محدد ومعين ماذا يجب القيام به
ليتوجه نحو هذا الافق . ومعنى ذلك أن الشريعة الصالحة المتفقة مع العقل
السليم لا يمكنها أن تفرض عليه أي قرار، بل هي بمثابة دعوة للانسان أن يكون
ليبراليا. وبما أنه لا يوجد شريعة شاملة لجميع الناس في كل زمان وكل مكان.
فالعقل
البشري يسعى في اطار ظروف الانسان الواقعية الزمنية والمكانية أن يشرع ما هو
صالح وجدير بالانسان، واضعا في الاعتبار أنه كلما دخل في عمق المواقف المعينة
وازداد تحديدا لها، ظهرت الاستثناءات للقاعدة العامة وكثرت القواعد الخاصة.
غير أنه يبقى على الانسان الذي يأخذ قرارا في وضعه المعين وظروفه الخاضة
ككائن
عاقل وليبرالي أن يبرر انسانية سلوكه الخاص ويوجه هذا السلوك المعين نحو ما
هو عام وشامل.
والليبرالية اذا هي مسؤولية تتجدد أمام كل موقف وفي كل وقت
وتفرض نفسها أمام كل قرار، وتترجم في سلوكيات تجسد ارادة الانسان الحرة
لتحقيق ذاته، وكل سلوك يستمد قيمته من حيث انه مبني على العقل البشري، ومتى
يكون كذلك، فهو بالضرورة يسعى للتوافق مع الحكمة الالهية.
ويعني
هذا أن عقل الانسان يبقى التبرير للشرائع والقوانين البشرية، انه هو الذي
يقررها من حيث يوجهها الى غاية حياته ووجوده. ويدل هذا على أن تطبيق الشريعة
أو القانون يتطلب دائما فهما
لروح
الشريعة أو القانون في سعيهما نحو العدالة، وشرحا وتفسيرا لهما،
ومجهودا
لتطبيقهما في الظروف المعينة التي يعيشها الأشخاص وفي مختلف أطر وجودهم
الفردي والاجتماعي. ان طاعة شريعة منافية للعقل هو ارتكاب خطأ في حق طبيعة
الانسان، وان فرض قوانين أو شرائع لا يفهمها العقل هو ارتكاب خطأ في صورة
الله. ان ما يقبله العقل فقط في سبيل تحقيق غايته له قيمة شريعة أو قانون.
وبالتالي فلا يمكن أن تتحول أية شريعة الى أداة تكبيل، اذ أنها أساسا قوة
تحرير للانسان من كل ما يمكن أن يمنعه من التوجه الى غايته وتحقيقها. فقوة
الشريعة تكمن في العقل البشري الذي يرضى بها قاعدة في سبيل تحقيق غايته .
وليس من اختصاص الشريعة ابدا الحكم على سلوك الانسان ، بل توضيح الطريق
القويم والدلالة عليه ، فالعقل هو الذي يحكم في شأن الشريعة ليرى هل هي تصبو
الى الخير الأعظم في ظروف معينة ومحددة أم لا.
نشأ مفهوم الحق الطبيعي عند قدماء اليونانيين عندما اختلف
الناس حول القوانين الوضعية وتساءلوا عن عدالتها، بل أعربوا عن تحفظهم عليها.
فاستعانوا بمفهوم يفوق القوانين الوضعية ويعلوها.
فكان مفهوم ((الحق
الطبيعي))
-le droit
naturel-
الذي يعني السعي نحو عدالة أعظم وأسمى.
وأشهر
مثال على اللجوء الى الحق الطبيعي هو مثال أنتيجونة-
antigone-
الذي روته مأساة سوفوكليس -sopoocle-
المشهورة.
أنتيجونة
هي أبنة أوديب- وقد تحدت أمر عمها ملك ثيبة بعدم دفن جثمان أخيها يولينوس،
وقامت بدفنه معتمدة على حقها الطبيعي في ذلك ، فحكم عليها عمها بالاعدام.
وعبر ((مفهوم الحق الطبيعي)) عن القيم الأساسية وتطلباتها الضميرية، تلك
القيم التي يعترف بها الجميع ، وبالتالي عنى بها تلك الشريعة التي تفوق
القوانين الوضعية السارية في المدن اليونانية.
وعند هذا
الحد، لم يكن قد اتضح مفهوم الحق الطبيعي العام والشامل، حتى ساهمت الفلسفة
الرواقية بدورها الهام في نشأته وبلورته. فقد عرفت الفلسفة الرواقية الحق
الطبيعي بأنه شريعة غير مكتوبة، الهية وأبدية، وتدل على تطلب مطلق للعدالة.
وينبع هذا التصور الرواقي من
نظرة توحد
بين الله والطبيعة ، وتطابق علم الكون مع علم الله
(الاهوت).
وفي هذا الاطار، تكمن حرية الانسان في الخضوع لهذه الشريعة، وبالتالي يتحول
السلوك الأخلاقي الى مجهود داخلي يقوم به الانسان للتحكم في الذات بدون أن
يأخذ بالاعتبار الظروف التاريخية والثقافية والسياسية التي يحياها في مجتمعه،
بموجب كون الحق الطبيعي أبديا وعاما وغير متبدل ولا متغير.
أتت
المسيحية فاستعملت مفهوم الحق الطبيعي المتداول في مجتمعها ، ونرى ذلك في
رسالة بولس الرسول الى أهل رومة (2\15) حين يتكلم عن الشريعة المكتوبة في
القلوب. الا أن المسيحسية أدخلت عليه تغييرات هامة ، لأن التطابق بين الله
والطبيعة الذي تقيمه الفلسفة الرواقية غير مقبول في المسيحية ، فالتوحد بين
الله والعالم يلغي في الوقت نفسه تسامي الله عن كل ما هو مخلوق (la
transcendance)
والعرضية (la
contigence)التي
تميز العالم ، بمعنى أنه لا يملك سبب وجوده في ذاته، بل يتقبله من آخر هو
الله.
ويؤدي التوحد بين الله والطبيعة الى القدرية (le
fatalisme)
أيضا، وهي تُجبر الانسان على الرضوخ لقوانين الطبيعة وتنفي مسؤولية الانسان
الحقيقية . فكان على المسيحية أن تؤكد في الوقت نفسه تسامي الله وحضوره في
العالم ، وقد تم ذلك بواسطة المفهوم الفلسفي للخلق (
la creation)
الذي يؤسس عرضية العالم في عمل الله الخلاق، ويشرحها على أنها تمثل الاختلاف
الجذري بين العالم والله. وبتعبير آخر، لا تصبح العرضية، كما هو الحال في
الرواقية، وليدة الصدفة، بل موضع اكتشاف الخالق والاعتراف به والدخول في
علاقة حرة معه.
وهكذا شرح الفكر المسيحي العلاقة الجدلية بين الحق الطبيعي والشريعة الأبدية.
فالحق الطبيعي مؤسس في الله، لكنه ليس الحكمة الالهية نفسها. وعندما عالج
توما الاكويني موضوع الحق الطبيعي في الجزء القاني من -الخلاصة اللاهوتية،
فانه اتخذ من الشريعة الأبدية -كما تظهر في قصد الخلق الالهيمبدأ أوليا
ومتساميا على كل نظام، ومن الاشريعة الأبدية ينبع الحق الطبيعي ويستمد منها
معناه. ولقد أدخل الفكر المسيحي اختلافا آخر عن الفكر الرواقي، فكما أن الحق
الطبيعي يتميز عن الشريعة الأبدية، فكذلك يتميز علم الانسان (anthropologie)
عن علم
الكون
(lacosmologie)،
ويصبح الحق الطبيعي
سمة من سمات الكائن العاقل فقط ، ولا يعني الكائنات الحية
والبيئة الطبيعية المحيطة بالانسان، لأن الحق الطبيعي هو بمثابة قاعدة ونظام
لجماعة انسانية، وهو يعتمد على العقل والحرية. وفي الانسان ، المخلوق العاقل،
فان الخضوع للناموس الأبدي هو اشتراك ايجابي في العناية الالهية.
وبالتالي، كما يقول توما الأكويني في معرض حديثه عن الحق الطبيعي فالانسان
المخلوق على صورة الله والمُسلط على العالم هو عناية لنفسه وللآخرين، على
صورة العناية الالهية.
وانطلاقا من هذه النظرة (الانتربولوجية) الى الانسان المخلوق
على صورة الله، يظهر طابع الحق الطبيعي الانساني . فلا يمكن-في الفكر المسيحي
أن يتحول الحق الطبيعي للانسان الى اطار جامد يسبق الانسان ويتطلب منه أن
يخضع له خضوعا سلبيا، لأن عقل الانسان وحريته يمثلان دورا حيويا لا في التعرف
الى الحق الطبيعي فقط، بل في وضعه وتكوينه أيضا . فالحق الطبيعي بقدر ما
يُعلن حقيقة الانسان الأساسية، يكتشفها الانسان ويتعرف اليها شيئا فشيئا
وينمو ادراكه لها مع مرور الزمن.
وبالتالي فطابع الحق الطبيعي التاريخي والمتطور، الذي تنكره الرواقية يصبح
أمرا معترفا به في الفكر المسيحي. ونجد هذه البوادر في فكر توما الأكويني
عندما ميز ما بين (الحق الطبيعي الأولي) الذي تنبع منه المبادئ الأولى كامحبة
والعدالة وعمل الخير وتجنب الشر على مستوى نظري،
و( الحق
الطبيعي الثانوي) الذي يُستنبط من الحق الأولي
عبر
التاريخ الانساني- قواعده العملية في السلوكيات داخل ثقافة ومجتمع معينين.
الآثار
التي ترتبت على تبني المسيحية مفهوم الحق الطبيعي أدت الى استحداث معاني
جديدة لم تعرفها الفلسفة اليونانية السابقة. فمن الدور الأساسي والمسؤولية
الكبيرة للانسان ذاته، الى احترام التعددية الثقافية التي تميز الوجود
الانساني، الى احترام الكرامة الانسانية، الى التوزيع العادل للخير العام.
أصبح اعتماد الفكر المسيحي لمفهوم الحق الطبيعي ما يؤسس
مسؤولية الانسان في بناء عالم انساني ، ويعني الاعتراف بأن المبادئ الأولى
والقواعد الأساسية التي يعتمد عليها السلوك الأخلاقي تتفق مع العقل البشري
وتهدف الى خير الانسان. ومن ثم فننا نبتعد عن فكرة الارادة الالهية
(المزاجية) التي تستوجب الطاعة بدون فهم وننأى عن الفكر الذي عرضته الفلسفة
اليونانية من خضوع الانسان لناموس أبدي ثابت.
ويعني هذا أن الانسان هو الذي يقرر القواعد الأخلاقية التي توجه السلوكيات
الفردية والاجتماعية، وتلك القواعد تتضح وتتطور مع التطور الانساني، وتُصاحب
النمو التاريخي الذي يميز كلا من الحضارة الانسانية واعلان الوحي الالهي،
وتسمح للانسان العاقل بتنظيم حياته الفردية والاجتماعية، وتعضيد العدالة
والكرامة الانسانية.
فالاعتراف
بالحق الطبيعي هو اعتراف بأن الانسان، بل وكل انسان هو قادر على معرفة الخير
وتحقيقه. وبالتالي فحتى الانسان الذي لا يؤمن بالله يبقى انسانا ذا ضمير
وقادرا عاة تفهم رسالته كانسان، وعلى تقدير متطلبات واجباته الانسانية.
ومن ثم
فالحوار مع كل انسان
أيا كان معتقده الديني والفكري ممكن ومجد، بل هو أساسي في
تكوين المجتمع الانساني القائم على احترام العقل والحرية، أي القائم على سمات
كل انسان الأساسية والمشتركة، الأمر الذي يسمح لكل شخص بأن يتقدم من خلال
علاقاته بالآخرين ومعهم نحو تحقيق انسانيته تحقيقا أكمل وأعمق.
لا
يأخذ الحق الطبيعي شكلا واضحا الا داخل ثقافة محددة، ولكنه هو ما يسمح
للأشخاص بتوجيه نظرة نقدية الى العادات والتقاليد والقوانين البشرية في
ثقافتهم ولدى الآخرين، وذلك يتأتى من كون الحق الطبيعي يمثل تطلبا للصدق
والحق وبحثا عن العام والشامل داخل كل سلوك معين. وبتعبير آخر، يعني اعتماد
الحق الطبيعي البحث عن الحقيقة في أية علاقة انسنية بين الأفراد والمجتمعات،
وهو بالتالي ما يدفع الى اضفاء معنى عام على الأنماط السلوكية الفردية
والاجتماعية المعينة، والحكم على صدقها وعدالتها. ومن ثم، يمكننا أن نفهم
أيضا الاختلافات التاريخية بين الأفراد، وبين الثقافات والجماعات ، من دون
الوقوع في خطأ وضعهم جميعا على قدم المساواة، وتعليل ذلك بنسبية الظروف
الثقافية والاجتماعية المعينة. فان الحق الطبيعي يتطلب من الانسان أن يتساءل
دائما عن قيمة أية حياة انسانية فردية، وعن قيمة العادات والتقاليد المعينة،
وعن عدالة القوانين الوضعية في مجتمع وبيئة محددين.
واذا كانت حقيقة الحق الطبيعي تبرز في عموميته وشموليته (universalite)
تلك التي تقوم على اعلانه حقيقة الانسان، فلذلك يعني أن عموميته تتحقق من
خلال تكوين عالم انساني حقا ، تسوده قيم مشتركة، عبر تاريخ الانسانية،
فاعتماد الحق الطبيعي يؤسس امكانية حوار بين الثقافات المختلفة وتعاون بينها،
لأنه حاضر في كل منها مانحا اياها بعدا عاما، ودافعا اياها في الوقت نفسه الى
تحقيق هذا البعد بوجه أكثر صدقا. وبتعبير آخر، يفيد الاعتراف بالحق الطبيعي
أنه يجب على كل ثقافة في شكلها المعين أن تسعى لما هو عام، وبالتالي، يصبح
الحق الطبيعي بمثابة قوة دفع في كل ثقافة
لتحريرها
من الأنماط السلوكية التي لا تتفق مع التطلع العام الانساني . ولا يتم البحث
عن الاتفاق الاخلاقي بين الافراد والجماعات بالبحث عن ماض سيبق الاختلافات
الثقافية، بل في التطلع الى مستقبل يحمل نموا للبشرية وبزوغا لانسانية أعظم
وأعمق وأشمل في العالم. ووحدة البشر وانسانية العالم لن ينفيا تنوع الثقافات
واختلافها، بل يقومان على ارادة اضفاء معنى على الحياة الانسانية في تنوع
أنما طها واختلاف أعضائها.
وبالتالي فان كان اعتماد مفهوم الحق الحق الطبيعي يعني مراعاة
الواقع الانساني بشموليته مع اختلاف الخبرات البشرية بين الأفراد والثقافات،
فهو يفيد بالضرورة الوعي لما للانسان من يُعد تاريخي وقبول مبدأ نمو الأشخاص
والجماعات نموا تاريخيا. فيجب قبول الواقع الانساني الذي يختلف من شخص الى
شخص، ومن بيئة الى بيئة، والذي يتطور من زمن الى زمن، لأنه في هذا الواقع فقط
يمكن السلوك الانساني أن يصبح عادلا وحقيقيا. وهذا هو التطلب المطلق في نسبية
وجود كل شخص وكل جماعة:أن يتطابق السلوك مع فهم الانسان ذاته بأمانة وصدق، من
دون التوقف عند نمط سلوكي معين، في مسيرة التقدم المتجدد من البحث الأكثر
صدقا عن التوافق بين السلوك وحقيقة الكيان الانساني. وبالتالي فعلى الأشخاص
والجماعات أن يتحركوا باستمرار نحو أفق السلوك الأخلاقي الأمثل لهم. وهكذا
يتجسد الأفق العام لأي سلوك انساني في نمط معين ومحدد، يتغير بحسب الأوضاع
والظروف، لكنه يترجم دائما، في الواقع الانساني النسبي، التطلب المطلق لصدق
الانسان مع ذاته ، وهذا ما يُعرف بالسلوك الأخلاقي. |