سوريا
ولعبة الشطرنج
18
حزيران/12
النظام
السوري الذي قيل أنه خير من عرف كيف يدير الأحداث ويستغل الظروف
لمصلحته بطريقة ميكيافيلية متمرسة،
يجد اليوم نفسه "محشورا في خانة اليك"
كما يقول المثل اللبناني، فهو لم يقدر بكل البطش الذي قام
به أن يطفئ شعلة الثورة، ولا استطاع
أن يجمع تأييدا كافيا من الخارج يغطي ما يقوم
به من جرائم على الأرض، ولا تمكن من خرق المعارضة وتشتيت
قدراتها أو الظهور بمظهر المحاور الفعلي الذي يفتش عن مخارج للحالة
التي تعيشها البلاد. وبالرغم من تحالفه مع الفرس الذين يسيطرون على
جاريه في الغرب والشرق؛ لبنان والعراق، والدعم المالي والقتالي
الغير محدود الذي يلقاه منهم، وبالرغم من الغطاء الدولي والمساندة
المفتوحة التي تؤمنها له روسيا والصين، يبدو بأنه يخسر كل يوم
هيبته في الداخل وعلاقاته في الخارج ليلتف حبل الثورة على رقبة من
استفرد طويلا بساحة الشرق الأوسط وخيوط
الارهاب العالمي.
النظام
السوري الذي نعم بقدر كبير من الفرص جعلته لاعبا أساسيا في المنطقة
لم يكمل المشوار، ولا هو استطاع تلمّس التغيير القادم في كيفية
ادارة الشعوب. هو اعتقد بأنه تملّك
أعتى الأسلحة؛ عندما سيطر على ماكينة
تفقيس الارهاب
التي تهدد العالم المتحضر وتعطيه مزيدا من التأثير، وخنق الرأي
الحر خاصة في لبنان، ومن ثم اشترى له بعض التابعين الذين يعملون
على تلميع صورته كلما خبت الوانها.
وقد عرف كيف يلعب لمدة طويلة على أوتار
عواطف الشعوب حينا ومصالح الدول أحيانا كثيرة فأمن بذلك هامشا من
الحركة ساعدته على الاستمرار. ولكنه
عندما دقت ساعة الحقيقة اغترّ بقدراته وخال بأن ما يصلح مرة سوف
يصلح دوما، فلم يستمع إلى نداء القلب ولا شعر بتململ الداخل وظن
بأنه يملك الدواء الناجع.
النظام
السوري، ومهما قال بعض مؤيديه الذين يقلّون عددا يوما بعد يوم،
يخسر الأرض بشكل واضح. فهو ادعى في
البدء بأن هناك من تحركهم أجهزة خارجية يقومون بخرق الأمن، وإذا
بالمظاهرات تعم مدنا وقرى يواجهها هو وجيشه بالقنابل والدبابات،
فأين تأييد الشارع الذي طالما تغنى به؟
ثم ادعى بأن مجموعات مسلحة من المخربين تواجه قوى الأمن، وذلك
لتغطية استعماله القوة المفرطة، ما أدى إلى فرار أفرادا وجماعات من
الجيش معترضة على الأوامر والجرائم المرتكبة بحق
اهلهم، شكلت فيما بعد "الجيش الحر"
لتبدأ بقتال منظم لمجموعات النظام، ما اضطره إلى استعمال الطائرات
ثم قصف الأحياء والقيام بالمجازر الجماعية. ولم يسمع هذا النظام
لنصائح الأشقاء ولا قبل أن يعترف بأن
هناك أمورا يجب أن يجد لها الحلول قبل أن
تستعصي، وتصرّف بالطريقة الوحيدة التي يجيدها وهي القوة
والبطش، ولكن ما يصلح استعماله مع الجيران لا يصلح مع أهل البيت،
وها هو بيته ينقلب عليه.
النظام
السوري الذي لعب على سيطرة الحزب على مقدرات البلاد، لم يقدر أن
يؤمن العدد الكافي من الحزبيين المؤيدين له ساعة الحشرة، ولو بعد
عقود من استلامه السلطة وقيادته هذه البلاد، وهو حاول استعمال
الطائفة لفرض الولاء له، فانقلب هذا الولاء نقطة ضعف جعلته يواجه
حقدا على الطائفة يتعاظم كل يوم ليدفع هؤلاء إلى اتخاذ قرار سريع
بالوقوف بوجهه أو قبول مواجهة نتائج الحقد المتراكم والعزلة
القادمة التي تشبه الانتحار.
يقول
قائل بأن النظام العلوي يسير في طريق تحالف الأقليات الشرق أوسطية،
وهذا يعني تحالفا مع الشيعة والمسيحيين واليهود والأكراد وغيرهم من
الأقليات، وقد يكون هذا الطرح صالحا وواقعيا يوم كان للمسيحيين
قوتهم المنفردة والقادرة على المناورة والدعم وتخاف من تدخل المحيط
العربي في شؤون لبنان، وكان الشيعة مقهورين في العراق ومحرومين في
لبنان، ومثلهم الأكراد في ثلاث دول متجاورة، وكانت إسرائيل تواجه
العرب مجتمعين. ولكن هذا النظام بالذات هو من أضعف قوة المسيحيين
في لبنان وجرّدهم من وسائل الحماية الذاتية التي قد تعطيهم الثقة
بالنفس والقدرة على اتخاذ خيارات كهذه، وهو من لعب على الأكراد
وباع حزب العمال لتركيا بعد أن استعمله للضغط مدة طويلة، وهو من
ساهم في تغييب الامام الصدر بالاشتراك
مع زميله القذافي، ويوم ترك الشيعة في
لبنان يتسلحون ويتنظمون تحت شعار
"المقاومة" وبدل لعبة الأقليات، تركهم يذهبون أبعد حتى من العروبة
باتجاه الارتباط الكامل بشعب غريب كثير العدد والعدة وله طموحات
قديمة على مستوى المنطقة تتعدى فكرة الحماية الذاتية والاكتفاء
بالتعاون بين بعض هذه الاقليات، لتعمل
على السيطرة على الشرق الأوسط ككل وتغيير المسميات
والولاءات، لا بل تتجاوزه للمشاركة
بمشاريع على مستوى القوى العالمية الكبرى، فهل أنه اختار هو
ايضا التحالف مع الفرس بدل العرب؟
وعندها أين تصبح الأقليات في ظل الهيمنة الفارسية؟ وهل تعيش
الأقليات في أيران
الخمينية بشكل أفضل؟
ويوم قبل عرفات مبدأ التفاوض مع
إسرائيل وقبل العرب مجتمعين فكرة السلام في المنطقة، قام وحده
ليحمل شعار "الصمود والتصدي" ويزايد على مصر والأردن وعرب الخليج
وحتى السعودية نفسها. فمن تبقى من هذه الأقليات في الشرق الأوسط
وخارجه يمكنه أن يعتقد بأن هذا النظام صالح للتفاهم حول أي من
المبادئ لعلاقات متساوية بين شعوب هذه المنطقة لا تخنقها مصالح
الأكثريات وقواعدها؟
النظام
السوري فوّت فرصا كثيرة ولا يزال وكلما فوّت فرصة ضاقت عليه الحلبة
أكثر، فهو خاطر بالديمقراطية التي ادعى أنه يعمل لها، وخاطر بالبلد
الذي يحكمه يوم اعتقد بتفضيل فئة على أخرى لتأمين الولاء، وخاطر
يوم تدخل في لبنان خالقا الفوضى المستمرة بدل أن يسعى لاستقرار
البلد، وخاطر أيضا بنسف الاستقرار في العراق بعد ذهاب صدام، وخاطر
يوم عمل على مبدأ "الوراثة في الرئاسة" وهو من ادعى بأن الحزبيين
متساوين في الولاء والقدرات، وخاطر يوم اعتقد بأن سلاح
الارهاب يمكن أن يستعمل ضد الكل بدون
أن ينقلب على صاحبه، وخاطر يوم اعتقد بأنه قوة عظمة ولاعبا أساسيا
لا غنى عنه فتعدى على قواعد اللعبة وتجاوز الهوامش، ونسي يوم غرق
في الثراء والبذخ بأن معدل الدخل للسوريين العاديين هو الأدنى في
المنطقة وبأنهم مضطرين للعمل كعمال وأجراء في كل البلاد بينما
يتنعم قلة من قادتهم والمحظوظين منهم بثروات تتعدى الخيال.
النظام
السوري يخسر مواقع كل يوم، فهو خسر يوم سجن أطفال درعا فاضطر إلى
التصعيد، وعاد ليخسر في مواجهة التظاهرات السلمية التي انتقلت إلى
أنحاء البلاد بدون أن يقدم على تغيير أساسي معتقدا بأن العنف هو
الحل، وخسر دعم السعودية ثم فرنسا والغرب، وخسر الجامعة العربية
لأنه فضّل التحالف مع الفرس، وظل على عنجهيته فخسر فرصة المراقبين
العرب، وخسر فرصة كوفي عنان، وهو يخسر اليوم فرصة مراقبي الأمم
المتحدة، وسيخسر عما قريب دعم الروس والصينيين، وبالطبع سيتركه حزب
الله وإيران يتمرّغ بوحوله ليسقط تحت
أقدام الثوار. فهل سيكون مصير رأس
النظام وجماعته كمصير القذافي؟
أم أنه ستنفتح عيناه فيوقف المذبحة
المستمرة ويخرج، ولو ذليلا، إلى المنفى موفرا المزيد من الدماء
والمذلة؟
في
لعبة الشطرنج عندما تبدأ بخسارة مواقع
وامكانيات في كل حركة تقوم بها
يجب أن تفتش عن حماية الرأس وقد تكون الضربة القاضية قريبة جدا،
ويبقى الانسحاب أحيانا كثيرة أفضل من الخسارة خاصة إذا ما كانت
النتيجة واضحة. فهل يتعظ الأسد الصغير
ويقدم على اتخاذ قرار صائب بعد كل القرارات العشوائية فيوفر على
نفسه وجماعته نقمة الشارع الغاضب وذل المحاكم التي تنتظره؟