الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

 

 

بقلم الكولونيل شربل بركات

   تورونتو - كندا 


من هو هذا "العدو"؟

في المرحلة الأولى التي بدأ فيها التعاون "المفروض" بين اللبنانيين في الجنوب والإسرائيليين، إي قبل عملية الليطاني 1978 والتي

 أعقبها، كما سبق، نشوء "لبنان الحر"، لم تعد إسرائيل بالنسبة للجنوبيين ذلك "العدو اللئيم" الذي ينتظر أية فرصة للانقضاض على كل ما قد يشكل فريسة، والذي لا يعرف للإنسانية معنى، كما صوره الإعلام العربي طيلة ثلاثين سنة ونيف، ولكنه بقي ذلك "الجار المرهوب" والذي لم نتعرف عليه بعد. فقد اقتصر الدخول إلى إسرائيل في السنوات الأولى أي بين 1976 و1978 على الجرحى الذين ينقلون إلى المستشفيات الإسرائيلية وبعض اللبنانيين الذين لهم أقارب في إسرائيل ويطلبون لهم القيام بزيارتهم، بالإضافة إلى عدد محدد من التجار الذين يدخلون في يوم معين من الأسبوع إلى "كريات شمونة" لشراء بضائع يحتاجها السكان في جنوب لبنان، وبعض من سمح لهم العمل على الحدود، وهؤلاء لم يكونوا ليتوغلوا داخل إسرائيل. وكانت سيارة الإسعاف هي التي تنقل أهالي الجرحى لزيارتهم في المستشفيات.

ولكن بعد نشوء "لبنان الحر" تغير الوضع وتنظمت المعابر فسمح لكل من يرغب بالدخول إلى إسرائيل؛ إن للزيارة أو للتبضع أو للحج أو السياحة... كما سمح لعدد من سيارات الأجرة اللبنانية بنقل من يريد الدخول إلى إسرائيل، وأعطيت هذه السيارات الأرقام التي كانت لسيارات الجولان وهي تبدأ بحرف القاف ("كوف" بالعبرية) وكانت  تمثل "القنيطرة" السورية، وسمح للبنانيين بالعمل في المصانع الإسرائيلية في كل الجليل. وبينما كان طبيب الجيش الإسرائيلي هو الذي يقوم بفحص السكان اللبنانيين، قبل فتح الحدود، ويعطي بعض الأدوية، واقتصر الدخول إلى المستشفيات على الجرحى والنساء الحوامل، حيث كانت الولادات تتم في المستشفيات الإسرائيلية، فإنه بعد نشوء "لبنان الحر" أصبح هناك مراكز طبية على البوابات يقوم بخدمتها أطباء لبنانيون وإسرائيليون، بالإضافة إلى ممرضات لبنانيات، ويبقى بتصرفهم سيارة إسعاف جاهزة، كما يحق لهم تحويل أي مريض يحتاج إلى دخول المستشفى. وصارت العمليات الجراحية على أنواعها تتم في المستشفيات الإسرائيلية وعلى نفقة دولة إسرائيل. كما سمح لمن يريد شراء البضائع من إسرائيل، ولم يعد يقتصر ذلك على أشخاص معينين أو عدد محدود من التجار. وهكذا تعرف اللبنانيون على هذا الجار في المعاملات اليومية وبشكل مباشر، فإذا به، ليس فقط، مثل كل الناس لا بل أفضل في أمور كثيرة، فقد تنظمت دولته في شتى المجالات حتى أصبحت تضاهي الدول الأوروبية والأميركية، وتطورت صناعته وزراعته.

 وتعرف اللبنانيون أيضا على العرب الإسرائيليين الذين يعيشون "في مهد عيسى" كما يقول المثل، فهم يتنعمون بكل التطور الذي بناه اليهود، وخاصة بالأمن الذي يفتقد إليه اللبنانيون، ولهم كافة الحقوق (الانتخاب، الطبابة، الشيخوخة، التعلم في الجامعات، العمل وقوانينه والوظائف...) ولكنهم يمتازون عن اليهود بأن أولادهم لا يخدمون بالجيش ولا يتعرضون لأخطار الحروب مع أن هذه الناحية تقلل من فرصهم في بعض الوظائف لصالح من يخدمون بالجيش.

 وتعرف الجنوبيون على دروز إسرائيل، خاصة من خلال خدمة هؤلاء بالجيش وعلى الحدود، وتعرفوا أيضا على البدو الذين هم أيضا يخدمون بالجيش الإسرائيلي كما الشركس. وكثرت زيارات من لهم أقارب في إسرائيل خاصة الدروز في الماري والبدو في الضهيرة. وشيئا فشيئا صار المجتمع الإسرائيلي منفتحا على الجنوبيين وبدأت المشاركة في الأمور الاجتماعية والمناسبات العائلية، مع العرب في البدء، ثم مع الأصدقاء الجدد من اليهود. وهكذا بدأت تبنى علاقات خاصة ويتعرف الجنوبيون أكثر فأكثر على هذا المجتمع وتلونه وتميزه والعادات الخاصة بكل من فئاته، فقد حافظت كل فئة على عاداتها وتقاليدها؛ وبينما كان "الكيبوتس" مثالا للقرية التعاونية والتي فاقت "الكولخوز" و"السوفخوز" السوفياتيين من حيث الاشتراكية الكاملة والانتاجية العالية وبنفس الوقت التمتع بكل جوانب الحضارة الحديثة حتى السياحة والسفر، فإن "الموشاف" شابه قرى أوروبا الغربية في التنظيم حيث تشتري الشركات الكبرى كل إنتاج المزارع وتنقله هي دون حاجته لشغل البال. أما المدن فقد توزعت في كل البلاد طولا وعرضا وكثرت فيها مراكز الإنتاج الصناعية والخدماتية واتصلت بشبكة حديثة من الطرق العريضة ووسائل الاتصال.

 وهكذا فقد وجد الإسرائيليون أنفسهم قادرين على الاختيار بين النظام المماثل لأرقى الدول الاشتراكية وحتى الشيوعية من جهة، والنظام الأكثر انفتاحا وليبرالية من جهة ثانية. وتنوعت الأحزاب السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين واستطاع كل فرد أن يجد البيئة التي تناسبه، وإذا بالمغاربة واليمنيين والعراقيين وغيرهم من اليهود الشرقيين يعيشون في بيئاتهم وتقاليدهم بينما يعيش البولونيون والرومانيون والروس وغيرهم من اليهود الأوروبيين في مجتمعات تناسب كل واحد منهم. وإذا كان الدين واللغة الجديدة (العبرية) التي يتعلمها الكل والتاريخ المتشابه لهذا الشعب؛ إن في الشتات أو الغيتو أو الاضطهاد عبر العصور والشوق دوما إلى "أرض الميعاد" التي يجب أن تصبح الوطن الدائم وينشأ فيها جيل متجانس متضامن، فإن الخدمة العسكرية والتضحيات والحروب والحقد الذي يحيط بهؤلاء هم الحافز الأكبر لهم للانصهار والعطاء. ولكنهم سياسيا تمسكوا بنظام ديمقراطي خفف من عبئ الحروب والتشبه بالمحيط الذي تحكمت فيه أنظمة توتاليتارية فرضت الرأي الواحد ديكتاتورية السلطة.

كان الجنوبيون هم أول شعب من المحيط يتصل بالإسرائيليين مباشرة وهذا ما جعله محط أنظار الجميع فهؤلاء مشتاقون للتعرف بهذا المحيط المغلق عليهم أيضا، وبحاجة ماسة لجار يمكن أن يؤمن له. وبالرغم من أن مصر بعد السادات لم تقطع العلاقات مع إسرائيل ولم تتراجع عن الاتفاقيات، ولكن الانفتاح بين الشعبين تعرض لنكسة كبرى. فبينما دفق الإسرائيليون إلى مصر عربا ويهودا للسياحة والتبضع فإن المصريين لم يقابلوهم بالمثل، حتى أن الأيام الأولى التي كانت فيها الحافلات الإسرائيلية والمصرية تعمل على قدم وساق في نقل الركاب من إسرائيل إلى مصر ثم تعيدهم إلى إسرائيل، سرعان ما فترت وخفت حتى التلاشي، وبينما بنى بعض العرب الإسرائيليين، خاصة في الناصرة، آمالا على السياحة نحو مصر والسياحة المعاكسة، إذا بهم، وبعد السنة الأولى، يكتشفون أنهم ليسوا على الرحب والسعة، وحتى السلطات المصرية زادت شيئا فشيئا تعقيد الأمور خاصة على الحدود. ولم يسعى أحد في مصر على محو صورة "العدو" عن هذا الإسرائيلي، ولم يكتب مقال في جرائد مصر المهمة يدعو إلى تناسي الماضي والعمل نحو مستقبل علاقات الجيران الطبيعية التي يفرضها السلم. وبالطبع كان هذا الموقف متأثرا بعض الشيء بالهجمة الأصولية التي بدأت في مصر ثم في إيران بعد نجاح ثورتها الإسلامية التي أخذ بريقها يلفت أنظار المسلمين، ومن جهة أخرى، الحرب التي شنتها سوريا وأزلامها في جبهة "الصمود والتصدي" على "عملاء الغرب" و"المتصهينين"، والشماتة التي تباهت بها في مقتل السادات، ما أرغم النظام الجديد في مصر على "ضبط النفس" وانتظار المناسبة لسحب سفيره من إسرائيل وتجميد العلاقات، بالرغم من حلحلة كل الأمور التي كانت عالقة في "كمب دايفيد" وحتى إعادة "طابا" للسيادة المصرية.

استغل الجنوبيون هذه الثغرة التي فتحت لهم ليدخلوا إلى عالم لم يعرفوه من التكنولوجيا خاصة في المجالات الزراعية الحديثة ومجالات التصنيع واستغلال الطاقة الشمسية مثلا حيث ينعم الإسرائيليون منذ الستينات بالمياه الساخنة وعلى مدار السنة بواسطة المرايا الشمسية التي تتربع على كل السطوح. وبسبب قلة المياه طوروا الري بالنقط وتفننوا بهذا الموضوع وبأنواع من الأنابيب البلاستيكية الرخيصة الثمن. وقد حسنوا نسل الحيوانات وخاصة الأبقار التي تعطي كميات كبيرة من الحليب سنويا وتتأقلم مع طقس المنطقة. وقد دعي "الجار اللبناني" إلى المعارض التجارية والصناعية والزراعية التي لم يكن يحلم أن يرى مثلها خاصة في لبنان المنشغل في حرب تعيده كل يوم إلى الوراء. وأصبح الرائد حداد ضيف التلفزيون الإسرائيلي المفضل وحديث الإذاعات والصحف.

كان هذا الباب مهما بالنسبة للجنوبيين الذين عزلوا في أقصى الحدود وحرموا من الاتصال بالعاصمة وبالأهل ومنع عنهم التطور ليصبح أولادهم كلهم حملة بنادق ومتاريس لصد هجومات "الأشقاء" وردع "محبتهم" من أن تحرق البيوت وتشتت سكانها. وهكذا تعرف الشباب على مجتمع مناضل حقيقي يمكن أن يقتدى به من حيث الإنتاج والعمل ومن حيث التنوع والديمقراطية. وتعلم الصغار أن هناك دوما أمل للمقهورين طالما تعلقوا بالأرض وتشبثوا بها وعملوا مجتمعين على تطوير الوسائل الكفيلة بالتقدم، ولكنهم بنفس الوقت تعلموا أيضا أن لكل شعب قيمه وأخلاقياته وهي عطية من الله عليه المحافظة عليها.

إلا أن الناحية المشرقة في الجنوب كانت تقابلها عودة نحو التشدد في الشمال وصارت العمليات السورية التي يقوم بها الفلسطينيون وأعوانهم تزداد شيئا فشيئا ويكفهر الجو، وتصبح عناصر الأمم المتحدة، التي كانت في البدء تقوم بتوقيف المخربين، محرجة، إذ أنها لا تؤدي إلى منعهم من التسلل بل إلى تشجيعهم عليه، فقد طلبت "الدولة اللبنانية" من الأمم المتحدة بأن تسلم قواتها أي متسلل توقفه على حواجزها أو دورياتها إلى ضابط الارتباط في الجيش اللبناني العامل مع الأمم المتحدة الذي يقوم بإطلاقه فورا والاعتذار منه وتسليمه سلاحه، ما جعل هؤلاء المسلحين يقومون بتسليم أنفسهم فور الانتهاء من عملياتهم التي يقومون بها داخل "لبنان الحر" ليتم نقلهم بسيارات الأمم المتحدة إلى صور بدون الحاجة إلى السير على الأقدام أو إرسال من ينقلهم، وكأن الأمم المتحدة أصبحت شاهد زور لا بل عنصر مساعد على قتل أبناء لبنان الحر.

 وهكذا وفي نفس السياق يصبح "تيمور غوكسيل" التركي الجنسية والذي يشغل منصب الناطق الرسمي باسم الأمم المتحدة في جنوب لبنان والذي يسكن في نهاريا ويتناول طعامه في مقاهي الناقورة التي يديرها أبناء "لبنان الحر"، أكثر من يصرح ضد جيش "لبنان الحر" لكي يرضي الدولة اللبنانية، كما يبدو، ويحافظ على وظيفته بينما لا تعترض إسرائيل عليه طالما لم يذكر الجيش الإسرائيلي بسوء ولا تريد أن تتدخل بالدفاع عن الرائد حداد الذي لم يعط لهذه التصاريح قيمة تذكر معتبرا أنها مثل باقي تصاريح "الأعداء" في بيروت أو دمشق أو غيرها من دول الجوار المعاد. 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها