حركة أحمد الخطيب
أذار 2004
أهم نتائج التذبذب السياسي في مواقف غير المسيحيين بشكل عام كان حركة تمرد
الضابط أحمد الخطيب. وكانت
نتائج هذه الحركة مدمرة على صعيد الوطن ككل وهي التي شكلت المفصل
الأساسي في تدمير الدولة كدولة وتفسخ الكيان اللبناني وانتشار الحرب ولغة
السلاح فوق كل الأراضي اللبنانية. ولكن لماذا هذا الحجم لحركة يقوم بها ملازم
أول يقول بعض رؤسائه بأنه ضابط فاشل وأن من لحق به لم يزد على الحضيرة، في
البدء؟
إن ما أشرنا إليه من المواجهة بين الجيش السوري والفلسطينيين في منطقة راشيا
لم يدع أي شك لدى القيادة السورية بقدرة الجيش اللبناني، بالرغم من قلة
وسائله، على القيام بالتصدي لأي اعتداء خارجي وهو قد كان أوقف دخول
الإسرائيليين أيضا في مرتين متتاليتين كان آخرها في صيف 1972 حيث لم يتجاوز
الإسرائيليون بلدة قانا على محور حداثا صديقين عين بعال ولا بير السلاسل على
محور الطيبة الغندورية خربة سلم. ومن جهة ثانية أظهر الجيش تماسكا وقدرة في
مواجهات الفلسطينيين في بيروت في أحداث 1973 وخاصة في معركة المدينة الرياضية
التي كاد فيها أن يقضي على ثورة عرفات بكاملها لولا التهديد السوري والضغوط
العربية الأخرى وعلى رأسها السعودية. من هنا كان يجب أن يقضى على هذه المؤسسة
التي تستطيع حماية البلد والتي لم تكن سهلة الاختراق فالضباط المسلمون لم
يكونوا أقل تحمسا للدفاع عن الوطن وتميزه من رفاقهم المسيحيين ولو أن الشارع
المسلم ورجال الدين والصحافة المأجورة وجماعة عرفات قد شكلت ضغطا ميدانيا على
هؤلاء لكي يشعروا بأنهم لا يماشون الخط الطبيعي ولا يمثلون تطلعات جماعاتهم.
لذا كان التفتيش عن ضابط، مهما كانت رتبته، يمكن استعماله لوضع اسفين في داخل
المؤسسة يمكن استغلاله فيما بعد.
وكان أحمد الخطيب يتبع عمليا لثكنة مرجعيون وقد استطاع أن يقنع أحد
الرتباء ليقوم بالاستيلاء على ملالة للجيش بعد إطلاق النار على رفاقه
المسيحيين والتوجه بها إلى منطقة سيطرة الفلسطينيين في العرقوب. ثم يقوم أحمد
الخطيب نفسه بالتعاون مع قوات فلسطينية بالسيطرة على كل المواقع الصغيرة
المنتشرة على طول الطريق بين مرجعيون وراشيا. كان الجيش اللبناني قادرا على
ضرب الخطيب وحركته في مهدها وقد صدرت الأوامر لسلاح الطيران بضرب هذه
المجموعة، ولو فعل لكان أوقف أي حركة تمرد وأعاد السيطرة بشكل فعلي ولكن تدخل
السوريين هذه المرة أيضا وبالشكل المباشر منع استعمال القوة وجعل القيادة
تحجم عن فتح معركة ولكن هذه الخطوة كانت "القشة التي قصمت ظهر البعير" ففهم
الكل أن الدولة غير قادرة على الحسم وأن أعداءها مسنودين وأن عرفات وجماعته
أقوى وأقدر على اتخاذ القرارات.
فما الذي جعل الدولة تتردد إلى هذا الحد في اتخاذ القرار بالدفاع عن
مؤسساتها؟ وما الذي جعلها ترضخ لكل هذا الابتزاز فتتخلى شيئا فشيئا عن سلطتها
ثم تسمح بتفتيت قدراتها على البقاء وسلبها وسائل الدفاع عن النفس؟
هنا لا بد من العودة إلى السياسات الإقليمية والدولية التي ساندت بقاء لبنان
مثلا في أوج تحالف مصر وسوريا في 1958 فسمحت باستمرار الدولة وتجاوزها عقبات
التفسخ والتدخل الخارجي المباشر وليس فقط عبر تدفق السلاح والأموال لأن
سوريا، كما يقول المغفور له صائب سلام في المقابلة التي أجراها مع تلفزيون
"ال بي سي"، كانت تدفع بكميات كبيرة من السلاح والأموال تقاسمها يومها مع
المغفور لهما كمال جنبلاط ورشيد كرامي ولكن عندما حسمت الولايات المتحدة
موقفها تغير الوضع وعادت الأمور لتستقر، ولكننا نتذكر العميد ريمون اده يوم
كان وزيرا للدفاع في نهاية 1958 حيث أمر بقصف الثوار بالطيران في البقاع
الشرقي عندما تعرضوا للجيش. فهل أن ريمون إده وزير الدفاع في 1958 كان أكثر
صلابة من سليمان فرنجية رئيس الجمهورية في 1976 أم أن الظروف الدولية
والإقليمية لم تكن مؤاتية زمن فرنجية؟
لن نخوض هنا في كل الظروف والتحركات على الساحة الدولية حيث كانت الولايات
المتحدة قد توصلت إلى اتفاق لسحب قواتها من فيتنام بعد حرب ضروس دامت سنوات
طويلة تكبد بها الجيش الأميركي خسائر كبرى وقد كان الاتحاد السوفياتي والكتلة
الشرقية في أوج نصرهم على أكبر قوة تمثل العالم الحر وقد أخرجها الشيوعيون
الحفاة من كل جنوب شرق آسيا بدون أن يخسر السوفيات جنديا واحدا، وكانت رواسب
حرب تشرين بين مصر وإسرائيل من جهة وسوريا وإسرائيل من جهة ثانية والتوصل إلى
عملية فصل القوات في سيناء والجولان وما رافقهما من مفاوضات عبر الأميركيين
وانفتاح هؤلاء، كما يقول البعض، على السوريين، وبراغماتية كيسنجر وزير خارجية
أميركا وصاحب الرحلات المكوكية، وإعجابه بالأسد. كل ذلك كان يؤثر في المناخ
السياسي العام في وقت وقف لبنان بشخص الرئيس فرنجية ذاته في الأمم المتحدة
ليدافع عن القضية الفلسطينية، بالرغم من عدم رضى الأميركيين على هذا التصرف،
وبدون ثمن مقابل من العرب. فكان أن خسر لبنان الدعم الأميركي دون أن يربح
الولاء العربي له ولقضاياه أو أقله اعتراف الفلسطينيين بسلطة الدولة
اللبنانية واعتراف السوريين باستقلال وسيادة لبنان ومساندة العرب للدولة بدل
تقويتهم للخارجين عليها.
وفي الجنوب ساحة الصراع المستمر يصبح الخطيب، بواسطة السوريين والفلسطينيين
وأموال القذافي التي تغدق بدون حساب، واجهة الموقف. وتسقط الثكنات الواحدة
تلو الأخرى بأيدي قوات عرفات وجماعة الصاعقة السورية. وفي مرجعيون يقتل بعض
العسكريين الذين لم يقبلوا بالاستسلام لقوات الخطيب الذي أطلق عليها اسم "جيش
لبنان العربي" ويهرب البقية مع بعض القطع الحربية إلى قرية القليعة المجاورة
فيحتمون فيها ويساندهم الأهالي فيخرجون عن طاعة الخطيب وجماعاته ولكنهم
ينقطعون عن الدولة والوطن وينحشرون في قرى القليعة وبرج الملوك وموقع تل
النحاس العسكري.
وبسقوط الثكنات الواحدة تلو الأخرى في الجنوب يحاول بعض الضباط القيام بحركة
عسكرية لقلب الأمور والقبض بصلابة على الوضع فيعلن العميد الركن عزيز الأحدب
المعروف بوطنيته وولائه للجيش البيان رقم واحد ويطلب من كل الوحدات الالتفاف
حول المجلس العسكري الذي يشكله، ولكنه يطالب باستقالة رئيس الجمهورية فيرفض
المسيحيون تلك الخطوة على أنها ستصبح سابقة لسلسلة من الحركات العسكرية الغير
معروفة المصير والتي قد تسير بالبلاد نحو أوضاع أشد خطورة لتصبح كما حال
سوريا والعراق في الستينات تنام على انقلاب وتصحو على آخر. وهنا يساند قائد
ثكنة الفياضية العقيد انطوان بركات رئيس الجمهورية فتتعطل حركة الأحدب الذي
لم يكن يهدف إلى زيادة التقسيم بل إلى اللحمة بشخص ضابط مسلم يؤكد على وحدة
الجيش والبلاد ويضرب الخارجين على الصف ويعيد السيطرة على الفلسطينيين كونه
يأمل بتفهم المسلمين ومساندتهم له مع وقوف المسيحيين الطبيعي مع الجيش. ولكن
المسلمين لم يعلنوا تأييد الحركة بينما رفض المسيحيون المس بمركز رئيس
الجمهورية ما جعل الضباط الذين وقفوا بجانب الأحدب يحجمون عن المضي بالحركة
فتموت في مهدها.
وبعد محاولة الأحدب يزيد انضمام الوحدات المعزولة عن القيادة إلى صف الخطيب
بينما تنشأ حركة الضباط الأحرار بقيادة بول فارس ولكنها لا تستقطب ولاء
الثكنات ولا الشارع المسيحي لأن الأحزاب المسيحية كانت قد نزلت إلى الشارع
بكثافة لتحمي الأحياء. ولما لم تستطع هذه أن تحصل على مصدر خارجي للسلاح رأت
بالجيش الذي بدأ بالتشرزم، المصدر الوحيد للسلاح فسقطت بعض الثكنات في
المناطق الشرقية بيد ميليشيات الأحزاب المسيحية كما كانت تسقط ثكنات المناطق
الغربية بيد الفلسطينيين وجماعة الخطيب والأحزاب اليسارية.
في هذا الجو من الفوضى حيث لم يعد هناك مرجع يثق به العسكريون بدأ كل واحد
يلتحق بجماعته حيث يسكن وكان عسكريي القرى الحدودية كما جماعة قرى عكار قد
التحقوا بقراهم بوسائلهم الخاصة وبدون سلاح فهناك تسكن عائلاتهم وأولادهم
المحتاجين للحماية ولقمة العيش وقد قطعت رواتبهم ولا من دولة تحمي العائلات
فكيف يستطيع هؤلاء العسكريين أن يبقوا في ثكنات تسقط الواحدة تلو الأخرى في
أيدي الفلسطينيين وأحزابهم من جهة أو الأحزاب المسيحية من جهة أخرى وهم لا من
معيل أو حام لأولادهم وعيالهم ولا ما يأكلون.
وهكذا وصل إلى المنطقة الحدودية عشرات العسكريين من أبناء القرى وقد التحق
بعض من لم يستطع الوصول إلى قريته من أبناء عكار مثلا في قرى جنوبية ومن
أبناء الجنوب في قرى مسيحية في مناطق أخرى.
بعد سيطرة الخطيب وجماعته على ثكنات مناطق الجنوب وتعيين الرائد البوتاري
قائدا لمنطقة الجنوب في جيش الخطيب وسقوط ثكنات طرابلس وعكار وتعيين الرائد
المعماري قائدا لهذه القوات في الشمال انسحبت مجموعة من القوات التابعة
لقيادة البقاع بقيادة الرائد طحان إلى زحلة بينما توجه الرائد شاهين من راشيا
إلى أبلح للسيطرة على مركز قيادة البقاع التي كان يقودها العميد أنطوان لحد
ويساعده العقيد ابراهيم طنوس وكان لحد قد خير من قبل القيادة لتقدير الموقف
والعمل بما يراه مناسبا، وكانت ألوية جيش التحرير الفلسطيني( القادسية، عين
جالوت، اليرموك...) المتواجدة في كل بلاد العرب من الأردن إلى العراق إلى مصر
وسوريا قد دفع بها عبر الحدود السورية نحو البقاع لتدخل لبنان لمساندة قوات
عرفات ثم لحقت بها وحدات من الجيش السوري النظامي وليس فقط من الصاعقة
وتمركزت في بعض أنحاء البقاع، فما كان للعميد لحد من خيار إلا أن يتفاهم مع
شاهين على حماية أرواح عناصر الجيش غير المسلمين وحماية القرى المسيحية في
المنطقة ويسلمه قيادتها ويلتحق بالقيادة في اليرزة. وبنفس الطريقة تم تسليم
ثكنة المغاوير في حمانا لأحد الضباط الدروز على أن تتأمن حياة العسكريين
المسيحيين ويسمح لهم بالوصول بدون سلاح إلى مناطق مسيحية.
كل هذه الأحداث التي أدت إلى تسلم الفلسطينيين الفعلي لما يحيط بما سمي فيما
بعد بالمناطق الشرقية تم خلال آذار 1976 وهكذا حشر المسيحيون الأحرار في
منطقة مغلقة لا اتصال لهم بالخارج إلا عبر البحر الذي لم يكن أحد يعتمده
للسفر ذهابا أو إيابا وقد نصبت المدافع وراجمات الصواريخ وتوزع "الأخوة"
المدججون بالأسلحة الثقيلة واللحى والكوفيات وكل الأعلام ما عدا العلم
اللبناني الذي بقى مرتفعا ولو بخجل فوق أحياء من بيروت الشرقية وبعض الجبل
وقسما من الشمال. وقد بدأ المتطوعون والمرتزقة بالوصول إلى كل المناطق حيث
سيطر الفلسطينيون، من ليبيين وصوماليين وسودانيين وغيرهم وقد استقدم عرفات
بعض المرتزقة من دول أوروبية منهم قناصة فرنسيين، ولا تزال المقابلة التي
أجرتها مجلة باري ماتش مع أحدهم حيث تكلم عن مهمته في قتل كل من يستطيع في
الناحية الشرقية وأن ما كان يدفع له ليس مبلغا مقطوعا بل على الرأس أي كلما
قتل واحدا يحسب له مبلغا معينا من المال وذلك لزيادة عدد القتلى ومنع التواصل
بين بيروت الشرقية والغربية. ولم تفد صداقة بيت الأسد التاريخية للرئيس
فرنجية في وقف سوريا لهذه الهجمات ولا لمنع تدفق السلاح والقوات عبر الحدود
ولا لاحترام سيادة البلد أو حقه في الحياة، فقد كانت دمشق تنفذ حلما قديما
ساور والي الشام أيام فخر الدين الذي كان أوقفه في معركة عنجر الشهيرة، وقد
يكون اختيارهم لعنجر مكان إقامة رئيس جهاز الأمن والوقاية السوري الذي يتحكم
بالبلد حتى اليوم يرمز إلى الانتقام من اللبنانيين لتلك الواقعة، أو أنها
كانت ترد "الرجل" ربما لبشير الثاني الذي كان دخل الشام على رأس قواته زمن
ابراهيم باشا المصري.
وقد صمت العرب
أجمعون على هذه الأحداث لا بل أيدوها ودفعوا بالسلاح والعتاد إلى لبنان ليسقط
هذا البلد المميز، وقد يكون قرار مؤتمر لاهور في 1973 ، الذي أوصى بضرورة
العمل لحكم المسلمين فقط لبلاد الإسلام قبل نهاية القرن، أحد الدوافع
الأساسية للتغاضى عن هذا الهجوم وجعل عرفات ورجاله يسيطرون عليه. أما من جهة
الغرب فقد تكون الولايات المتحدة أيدت تنامي الأصولية الإسلامية لتشكل الحاجز
في وجه الشيوعية فترد الكيل للسوفيات وتذيقهم طعم المرارة التي ذاقتها في
فيتنام، ويكون هذا التطرف الإسلامي الذي سنراه يعظم في قتال السوفيات في
أفغانستان المقدمة لسقوط الشيوعية الدولية. ولكن هل يكون عدم الاستقرار الذي
تغاضى الجميع عنه في الشرق الأوسط وبالذات في لبنان هو الحل لمشاكل الغرب
والعالم الحر؟ أم مفتاحا جديدا للحرب العالمية الثالثة التي يقودها الحفاة
المتعصبين يدفعهم تطرف أعمى يجعلهم قنابل موقوتة في قلب المجتمعات المتطورة
لا يمكن إيقافها بالسهولة التي اعتقدها منظرو واشنطن مما سوف يضطرهم إلى خوض
حروب أشد ضراوة لا تنفع فيها الأسلحة المتطورة وقوة الصدم والصواريخ وتصبح
المجتمعات التي تعيش بهدوء وطمأنينة مدعوة إلى تذوق الطعم نفسه الذي يتذوقه
اللبنانيون؟... |