الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

 

 

بقلم الكولونيل شربل بركات

   تورونتو - كندا 


 

تدمير الدامور

 

 

كانون الثاني 2004

عشية الأحداث التي عصفت بلبنان في 1975 كان البلد الذي تعود الناس أن يجدوا فيه الراحة والنظام قد بدأت تفوح

 منه روائح التمرد والعنف، وها هي المخيمات تصبح بؤرا للعصابات المسلحة حيث لا سلطة للدولة عليها وهي تبدو كالمعسكرات المحاطة بالحراسة وأكياس الرمل والحفر التي تمتلئ بالأسلحة والصواريخ. وأصبح اللبناني يهاب المرور أمامها خشية التعرض للخطف والتوقيف والسؤال. وبعد أحداث صيدا التي قتل فيها النائب اللبناني معروف سعد وبعض العسكريين بينهم أحد الضباط من الجيش اللبناني صارت طرق إمداد الجيش تتجنب المرور في مناطق سيطرة الفلسطينيين وصارت هذه المناطق تكبر شيئا فشيئا.

 

 

الدامور مدمرة

 

وكما هي الحال في العاصمة كانت حال أهالي الجنوب فقد صارت مناطق سيطرة الفلسطينيين تتوسع ليس في العرقوب وحده بل حول كل المخيمات بدءا من عين الحلوة إلى النبطية فالرشيدية والبص وبرج الشمالي وبرج رحال ثم مناطق حول قانا ومحرونا حيث أصبح للمنظمات مخيمات ومراكز تدريب. وصارت تحركات الجيش هي التي تأخذ بالحسبان المنظمات ومراكز تواجدها وليس العكس وقد سيطر هؤلاء على بعض القرى بواسطة الأسلحة التي وزعوها لمن دار في فلكهم، وحيث كثر المشاغبون أصبحت القرى بكاملها محسوبة على الفلسطينيين وهذا ما دفع القرى التي لا تريد الاعتراف بسلطة هؤلاء إلى التحسب أكثر فأكثر ومطالبة الجيش بتسليح شبابها لتأمين الحماية ضد الانتشار الفلسطيني الذي كان يكبر بشكل خطر بواسطة الأحزاب اليسارية من جهة والأموال والسلاح الذي دفع به الفلسطينيون من جهة أخرى.

كان كل حادث يمكن أن يتحول إلى معركة فالتعبئة التي قامت بها المنظمات والنزعة الهجومية التي تحلى بها كل من سار بخطها كانت كافية لجعل أقل مشكل يبدو كمعركة مصيرية، من هنا أخذت الدولة طريق الدفاع والمسايرة بدل قرار المواجهة ورسم حدود التصرفات. وكان كل مشكل مهما كان سببه يؤدي إلى مزيد من التنازل من قبل الدولة. وكانت الصحافة التي اشتراها عرفات ورجاله بأموال النفط العربية تفسر دوما تصرفات الفلسطينيين وتشرح خلفياتها وضرورتها وتذنب الدولة أو الجيش. وكانت سوريا تدفع الأمور نحو الصدام وتهرب السلاح والعتاد والمقاتلين بكل الوسائل الممكنة.

في هذه الفترة أصبح عرفات هو الرجل الأقوى في لبنان وصارت مكاتب المنظمات في بنت جبيل مثلا أو مرجعيون أو غيرها هي التي تتدخل بشؤون المواطنين فتخلق المشاكل أو تحلها، وأصبحت قرى بكاملها كعيناتا أو حولة ممنوعة على الجيش يسرح فيها المسلحون ويصدرون الأوامر بتوقيف الناس أو سوقهم إلى مراكز المنظمة وأحيانا إصدار أحكام بحقهم ولا من حسيب.

في هذا الظرف نظم الجيش فرق الأنصار وأضطر إلى تسليحها بال أم 16 وجعلها تتبع لضباط فعليين يقومون على تنظيم عملها والتفتيش على الأسلحة والذخيرة ومنع أي تصرف فردي من عناصرها وهذا لكي ينافس المنظمات التي كانت توزع الكلاشينكوف الروسي بدون حساب والتي كانت تسلب ولاء المواطنين من الدولة وتجعل من هذه الدولة غريبة عن أبنائها ولا مونة لها عليهم، وكان الجيش يريد من هؤلاء أن يحموا طرقه في منطقة يضطر فيها إلى التنقل والقيام بالدوريات والحفاظ على مراكزه.

بعد مواجهات 1973 التي جرت بين الجيش وهؤلاء الفلسطينيين وعدم الحسم من قبل الجيش تبدل موقف السيد موسى الصدر بعض الشيء ولم يعد يجرؤ على مواجهة هؤلاء فسارع إلى إنشاء ميليشياه الخاصة التي كانت تتدرب بالبقاع. لم يكن هناك ممولا طبيعيا لهذه الميليشيا الشيعية لأن إيران الشاه لم تكن شيعية المذهب ولا أحب نظامها بالأصل الأئمة والمشايخ وتدخلهم بالسياسة ولم يظهر أطماعا خارجية تصل إلى لبنان كما هي حال إيران اليوم. وكان كل العرب الأغنياء الذين يخافون اليسار المتعاظم يدفعون لعرفات ولا يمكن أن يدفعوا لإمام شيعي لينشئ ميليشيا في لبنان تقف بمواجهة الفلسطينيين. ويقال بأن الرئيس الأسد حاول التقرب من السيد الصدر لكي ينال فتوة شيعية بأن العلويين هم جزء من الشيعة فيوفر على جماعته اضطهاد السنة المذل الذي ذاقوه طيلة قرون وأجيال ويسهم بالمقابل في تسليح المليشيا الشيعية ولكن الإمام الصدر لم يصدر تلك الفتوى. ويقول البعض بأنه عشية الحرب اللبنانية دفعت ليبيا، التي كان زعيمها القذافي يريد من مسيحيي لبنان وعلى رأسهم الموارنة إذا ما أرادوا العيش بسلام أن يعلنوا إسلامهم، مبالغ من المال والسلاح لكل الفئات اللبنانية الغير مسيحية للتأكد من عدم وقوفها في الصف المواجه للفلسطينيين في حربهم ضد الدولة، وأن جزء من هذه الأموال والعتاد قد دفع بالفعل إلى السيد موسى الصدر لكي يضمن عدم وقوف الشيعة ضد الفلسطينيين، كما دفع جزء آخر لجنبلاط والحزب الاشتراكي لكي يضمن أيضا عدم وقوف الدروز إلى جانب الدولة.

 وقد كان قيام لبنان على دعامة من ثلاثة أرجل تختلف عن المحيط السني العارم والذي يذكر بسلطة الأتراك والمماليك، حيث لا تزال فتاوى ابن تيمية التي كانت حللت قتل الدروز والشيعة والإسماعيلية والعلويين وجعلت من هؤلاء الدروز والشيعة يتمسكون مع المسيحيين بهذا الجبل اللبناني كموئل حر يحميهم من الأكثرية المحيطة ويساهمون على مدى قرون بتشكيل الوطن الذي قام على الحرية الدينية والتمايز عن المحيط. ولكي يسقط لبنان الوطن يجب أن يحيد الدروز والشيعة لضرب المسيحيين أولا لأن المسيحيين هم الحلقة الأقوى في الكيان اللبناني ثم عند الانتهاء منهم تسهل عملية فرز الدروز وضربهم وفي نهاية المطاف يضرب الشيعة بعد أن يستهلكوا في قتال الآخرين. من هنا تعقيد المواقف في الحرب اللبنانية ومن هنا لم يكن المراقب يفهم ماذا يدور فقد نادى المسيحيون بأن الحرب هي على الفلسطينيين المسلحين الذين يريدون خلق دولة ضمن الدولة ما لا يمكن أن يقبل به اللبنانيون. وقال البعض بأن اليسار قد وقف مع الفلسطينيين لأن لبنان قاعدة غربية ويجب قلب نظامها. ولكن لماذا لم يكن بالإمكان إنشاء تحالف وطني يميني يمكنه مواجهة الفلسطينيين واليسار ويتألف من شيعة وسنة ودروز إلى جانب المسيحيين اليمينيين؟ من هنا لم يفهم البعض تصرف المسيحيين المنفرد في هذه الأحداث وقد تعجب الصحافيون الغربيون أحيانا من دوافع هؤلاء في القتال الشرس ولم يستطيعوا تفهم خلفيات بقاء كل الفئات الغير مسيحية مع جانب من اليسار المسيحي في صف الفلسطينيين، فقبلوا تفسير هؤلاء من أن المسيحيين يحاربون من أجل بعض الامتيازات السياسية التي لا يريد زعماؤهم التخلي عنها.

 ولكن ما هو الدور السوري وخلفياته؟ وما هو دور الوهابية السعودية وأحلامها في الدين الحنيف؟ وما هو دور القذافي ودعواته لأسلمة اللبنانيين؟ وما الذي يجعل الشيعة والدروز والسنة اليمينيين يقفون في صف عرفات ورجاله؟ كل هذه أسئلة لم تطرح بسبب المال الذي أغدق من قبل عرفات من جهة، وسيطرة اليسار العالمي بالعادة على الإعلام من جهة أخرى، ما جعل كل الصحافيين الذين يشكلون في الغرب المصدر الحر للمعلومات اليومية ينحازون إلى عرفات ومعسكره ويكررون لازمته بأن المسيحيين اللبنانيين مجموعة انعزالية رجعية ومتخلفة تحارب حربا طائفية ضيقة في زمن الإلحاد العالمي. وقد شكل هذا الخط الإعلامي حاجزا أمام حق اللبنانيين في الدفاع عن دولتهم ومؤسساتهم ومساندة الرأي العام العالمي لهم، كما كان ضغط الدول العربية وعلى رأسها السعودية والمجموعة اليسارية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، يومها، الذي كان الممول الأساسي للمنظمات، قد منع أي تدويل للأزمة أو تدخل يوقف التجاوزات السورية عند حد ويحسم وضع الفلسطينيين ويعيد للدولة اللبنانية هيبتها، وقد كان لبنان من مؤسسي الأمم المتحدة وواضعي شرعة حقوق الإنسان وهو دائما ما عول على المساندة الدولية لحقه وليس على قواه الذاتية، في منطقة يعلم كل العلم أن فيها من الرافضين لكيانه والعاملين على زعزعته خاصة بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي تتالت في مصر أولا ثم في سوريا والعراق وحيث أصبحت الأنظمة في هذه الدول عسكرية ديكتاتورية تختلف عن النظام الحر والمنفتح والذي يحمي الحقوق المدنية ويتميز بديمقراطية لم تسمح مرة بتجديد الولاية لرئيس في لبنان منذ استقلاله.

لم تكن البوسطة التي أقلت مجموعة من الفلسطينيين المدججين بالسلاح لتجتاز الشارع الرئيسي في عين الرمانة في ذلك الأحد من نيسان 1975 بالصدفة لأن طرقا أسهل وأكبر وأقل ازدحاما كانت متوفرة للوصول إلى مخيم تل الزعتر، ولكن الهدف الرئيسي من مرورها كان تحدي الكتائبيين المحتفلين في الكنيسة وفرض وهرة المنظمات من خلال حادث معزول على الشارع المسيحي ككل، فمن هم هؤلاء الكتائبيون ليتجرأ زعماؤهم على الوقوف بوجه "الثورة" التي ترهب العالم. وما حدث يومها كان الشرارة التي بدأت الحرب وليس أبدا السبب في اشتعالها.

كانت المنظمات الفلسطينية قد أعدت خططها للسيطرة على الشارع وقد انتشر عناصرها فورا وتوزعت الآليات والأسلحة في الأحياء ونصبت الحواجز وبدأ الخطف والتوقيف. وبالرغم من محاولات الدولة للتحقيق بالحادث واتخاذ الإجراءات إلا أن المطالب الفلسطينية كانت تكبر ما يؤدي إلى مزيد من التنازلات تحت التهديد. ثم تدخل عناصر جديدة وأسلحة من سوريا ويستمر التوتر وتبدأ عملية الخوف من ردود الفعل الفلسطينية في الأحياء المسيحية وسط عدم الثقة والقدرة التي تظهرها الدولة لحماية المواطنين ويصبح الأمن الذاتي هو الحل الوحيد المتوفر.

وفي الجنوب يزيد القلق والخوف من ردات الفعل الفلسطينية على القرى المنعزلة البعيدة والتي جاهرت بتأييدها للجيش فيهرب المنظورون من أبنائها إلى الجانب المسيحي من بيروت تجنبا للخطف والقتل أو التوقيف والتنكيل ولكن القرى الحدودية حيث أنشأ الجيش فرق الأنصار بقيت صامدة كون الجيش بقي محافظا على تواجده في المنطقة ولو أن سيطرة المنظمات زادت أكثر فأكثر.

ويمر صيف 1975 والناس بحالة قلق شديد والأجواء مكهربة وبينما يستمر دخول المسلحين الفلسطينيين عبر الحدود تتحضر الأحزاب المسيحية في العاصمة لجولة جديدة. وما أن يبدأ الشتاء حتى تتفاقم المشاكل من جديد وتأخذ هذه المرة شكل الحرب الفعلية فتهاجم المجموعات الفلسطينية وعلى رأسها منظمة الصاعقة السورية مدينة الدامور ويصمد الأهالي فيها ويدافعون عن بيوتهم ويدفعون التضحيات ولا تنفع توسلات أبنائها وخاصة أعضاء الحزب الاشتراكي عند الزعيم الدرزي جنبلاط، الذي كان يشارك المنظمات، بوقف القتال، ويرسل الجيش إحدى طائراته لقصف المهاجمين فيهدد السوريون بإرسال طائراتهم لحماية "الثورة"، وتسقط الدامور ويتهجر من بقي من أهلها الذين احتموا بقصر الرئيس شمعون بواسطة زوارق الصيد في بحر هائج وبشكل مريع. ويدخل ثوار عرفات وأفواج الصاعقة السورية وجماعة جنبلاط وكل من لف لفهم إلى المدينة فيكملون القتل والتنكيل بالناس والمقدسات ويدنسون كل شيء حتى القبور وتمتلئ الشوارع والبيوت المحروقة بالجثث لتشهد على جرائم هؤلاء ولتفهم المسيحيين أن زمن التعايش قد ولى وأن لا دولة يمكنها أن تأخذ قرارا حتى لمنع احتلال مدينة وأن السلاح وحده قادر على حمايتهم. ويستمر المسلسل في عكار فيدخل المسلحون وعلى رأسهم كالعادة جماعة الصاعقة إلى بيت ملات ويحرقوها وإلى دير عشاش فيحرقوا الرهبان العجز أحياء وإلى الناعمة والقاع وغيرها من القرى ليفهموا اللبنانيين أن لا مجال للصلح ولا مكان للضعفاء.  

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها