العودة إلى العزلة
بعد الانسحاب من
منطقة شرق صيدا وجزين أكمل الإسرائيليون انسحابهم من الجنوب ليتركوا منطقة
النبطية ثم منطقة صور، وكان السوريون وحلفاءهم يحاولون الظهور دوما بمظهر
المنتصر الذي أخرج إسرائيل بالقوة، ولذا فقد زادت محاولات تفجير العبوات على
الطرق، وأصبحت الهجمات الانتحارية شعار هذه المرحلة وقد تبنى حزب الله أغلبها،
مع أن القوميون والشيوعيون حاولوا دخول هذا الصنف الجديد من "الدعاية" ولكنهم
لم يستطيعوا أن يجاروا حزب الله الذي أطلقها "مقاومة إسلامية" فحيدهم وأبعدهم
عن الساحة ليقطف وحده ثمار "السلاح الإيراني" ويتفرد بالتبجح بأنه القادر
الوحيد وبالتالي المنتصر الأوحد.
لم يستطع جيش
لبنان الجنوبي، في هذا الظرف الذي يسود الساحة الجنوبية من الأحادية السياسية
الراديكالية والهيمنة العسكرية الفئوية التي فرضها حزب الله، وبنفس الوقت غياب
الدولة التي كان من المفترض أن تأخذ دورها في حماية اللبنانيين بعد خروج عرفات
وسلاحه، إلا قرار البقاء والحفاظ على أمن المواطنين في المناطق التي كان السكان
يشعرون فيها بأنهم مهددون، فمن غير الممكن أن يترك هؤلاء لمصير مجهول تتحكم به
عصابات ما يسمى بالثورة الإسلامية المنادية بجمهورية على الطريقة الإيرانية.
هكذا إذا،
وإضافة إلى ما كان يشكل "لبنان الحر"، حيث انتمى أغلب عناصره، أبقى جيش لبنان
الجنوبي على جبل الريحان، وهي المدخل الجنوبي لمنطقة جزين التي فرض عليه الدفاع
عنها كما ورد سابقا. وكان سكان العيشية، التي تهجرت في 1976، العنصر الأساسي
للدفاع عن هذه المنطقة. أما في البقاع الغربي فقد كان عناصر ثكنة كفريا طلبوا
البقاء في مشغرا للحفاظ على منطقتهم والتواصل مع جيش لبنان الجنوبي ولكن نصيحة
أو ضغطا من بيروت، على ما يبدو، جعلهم يتراجعون في اللحظة الأخيرة عن المشروع
ليعود جيش لبنان الجنوبي ويسحب التجهيزات والأسلحة من ثكنة مشغرا في ليلة
واحدة، وتصبح مشغرا وعين التينة وميفدون قواعد لحزب الله وامتدادا لبعلبك التي
تفصلها عنهم مسافات ومناطق مختلفة مسيحية ودرزية وسنية.
هذا الانسحاب
البسيط من مشغرا والذي لم يدخل في حسابات القوى سيكون له تأثيرا كبيرا على مصير
البلاد ومستقبل حزب الله، فبدل أن يبقى هذا الحزب محصورا في بعلبك وبعض الضاحية
الجنوبية وتسيطر القوى الأكثر اعتدالا على المناطق الشيعية الأخرى، ها هو يمد
سيطرته إلى جنوب البقاع، بمساعدة السوريين بالطبع، وبغياب قوى مناهضة، وينطلق
من هناك باتجاه الجنوب. وبدل أن يشجع الاعتدال ويعمل على التفاهم وانتشار
الدولة لتجمع المناطق، تقوم سوريا بمنع التفاهم وفرض التقاتل من جديد في كل
المناطق.
كان التغيير في
السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان بدأ يظهر، كما قلنا، منذ أن رفض الرئيس الجميل
إبرام اتفاق السابع عشر من أيار وما تبع ذلك من النتائج السلبية في العلاقة بين
الدولتين. أما من الناحية العملية فقد كان أنشئ في إسرائيل "مكتب تنسيق الأنشطة
الإسرائيلية قي لبنان" التابع لوزارة الدفاع لمتابعة كل ما يتعلق بالملف
اللبناني، وقد عين رئيسا له السفير أوري لوبراني، الذي كان شغل منصب سفير
إسرائيل في إيران أيام حكم الشاه، وهو يعتبر من الشخصيات الإسرائيلية التي
سيكون لها دورا مهما في المرحلة المقبلة فيما يتعلق بلبنان. وقد كان للسيد
لوبراني معرفة خاصة باللبنانيين فهو نشأ في مدينة حيفا حيث كانت تقطن جالية
لبنانية كبيرة خاصة قبل 1948، وكان لوالده الطبيب علاقة عمل مع بعض اللبنانيين
قبل أحداث فلسطين وقد ربطته بهم صداقة واحترام ما جعلهم يقومون بحمايته من
جماعات الثوار العرب ويمنعون عنه الأذى يوم حاول هؤلاء قتله. ومن جهة ثانية فقد
ساهمت مهمته كسفير لإسرائيل في إيران بتعرفه على الشيعة وخصوصياتهم. ويوم وقع
سوء التفاهم، كي لا نقول الخلاف، مع المسيحيين في لبنان، طرحت عدة حلول لمستقبل
العلاقة مع الجار الشمالي تركزت في أكثرها على أن الطائفة الشيعية هي التي تشكل
الجار القريب في النسيج اللبناني، وعليه فإنه يجدر بإسرائيل أخذ ذلك بالحسبان،
وقد يكون هذا بالذات ما دفع لاختيار السيد لوبراني لشغل المنصب بسبب معرفته
بالشيعة من خلال تجربته الإيرانية.
. وبالفعل بدأ
التقرب من حركة أمل أكثر فأكثر، وزادت الاتصالات بالشخصيات الشيعية في المناطق
الجنوبية، وقد جرت محاولات للتشجيع على إنشاء وحدات عسكرية شيعية، منها مجموعة
أنصار وغيرها، بينما استمرت العلاقات مع الدروز بواسطة مكتب التنسيق الذي أنشأه
السيد جنيلاط وضم شخصيات من المنظورين في الطائفة والحزب وكان بعضهم يقوم
بزيارة إسرائيل بشكل منتظم وعلني. وفور تسلم حبيقة قيادة القوات قام بفتح مكتب
تنسيق في القدس كان يديره السيد بيار يزبك، وقد قام هذا المكتب بمهمة سفارة
لبنانية في إسرائيل. ولكن سوريا التي التزمت تكملة القضاء على عرفات وثورته
والتي نقلت المعركة إلى طرابلس للقضاء على تحالف شعبان- عرفات كانت بالمرصاد
لكل هذه التحركات، وقامت بالسيطرة الفعلية من الشمال باتجاه الجنوب، هذه المرة،
والقبض على الشارع اللبناني مجددا بدءا بالشارع السني في طرابلس، ثم ما لبثت أن
استعملت حركة أمل واللواء السادس في معركة بيروت ضد جنبلاط من جهة (معركة
العلم) وبقايا عرفات من جهة ثانية (حرب المخيمات)، ولم تقم فقط بتهديد القيادات
الشيعية من مغبة العمل مع إسرائيل بل قامت بدعم مطلق لحزب الله ليكون الأداة
التي تقف بوجه أي توجه نحو إسرائيل وهو الذي كان أساس عناصره وقادته من منطقة
البقاع حيث السيطرة السورية والذي يشرف عليه الإيرانيون بشكل مباشر.
وهكذا ما أن
انسحب الإسرائيليون من منطقة النبطية وصور حتى بدأت الاغتيالات برموز الشيعة
الذين كانت لهم علاقة معهم، فتم اغتيال حيدر الدايخ مسؤول أمل في جويا والذي
كان رمزا للتعاون مع الرائد حداد والإسرائيليين فيما بعد، واغتيل بعده حسن هاشم
في منطقة القليلة ثم تمت تصفية داوود داوود في خلدة وهو عائد من بيروت إلى صور
ما جعل الخائفين من الشيعة يهربون إلى الأمام لينضموا إلى حزب الله بينما يفضل
غيرهم، كرياض العبد الله ابن الخيام وآخرين، التحالف مع جيش لبنان الجنوبي
وينسحبون باتجاه المناطق الحدودية.
وبالرغم من
تنفيذ حركة أمل التزام الأسد بالقضاء على بقايا عرفات في حرب المخيمات حيث ،
فإن الخيار السوري في الجنوب بقي حزب الله.
صعد حزب الله
عمليات التفجير "الانتحارية" وخاصة على مداخل المنطقة الحدودية ما جعل قيادة
المنطقة تتشدد في عملية تفتيش السيارات الداخلة وتقلل من عدد التصاريح من أجل
حماية الناس، ما أدى سريعا إلى عزل المنطقة التي كانت قد هللت عندما فتحت الطرق
في 1982 لتعود إلى الانغلاق والانعزال داخل جدران مصطنعة تقطع الاتصال بين
المواطنين وأهلهم في الشمال. وتكبر الهوة التي أخذت تتسع مع مرور الأيام، وها
هي طرق بيت ياحون وكفرتبنيت والبياضة تصبح طرقا خطرة ما يجعل المسيحيين والدروز
يتوجهون إلى بيروت عبر الشوف أو البحر.
كانت تجربة
البحر من الجية إلى بيروت قد عززت الرأي القائل بالاستغناء عن طرق البر
واستعمال طريق آمن ولو أصعب للوصول إلى بيروت وتنمية العلاقة مع قلب لبنان، فقد
رفض الجنوبيون قطعا أن يحرموا من التواصل مع أهلهم في المناطق الشرقية، وحلموا
دوما باستنباط طرق تؤمن هذا التواصل. وهكذا فقد قرر الجنرال لحد إنشاء مرفأ في
الناقورة يستطيع استقبال سفن متوسطة الحجم لنقل الركاب والبضائع من وإلى بيروت.
وبالفعل بدأ العمل في المرفأ وبنفس الوقت استقبال زوارق وعبارات لنقل الركاب
وبعض البضائع ومن ثم سفنا أكبر بدأت ترسو في الميناء كلما توسع وتحسن وضعه.
وتبدأ سلسلة
جديدة من المعاناة فبالرغم من أن هذه السفن أو الزوارق كانت تنطلق من الحوض
الخامس في بيروت وترسو في ميناء الناقورة وهما نقطتان تعتبران داخليتين، أي ضمن
مناطق "صديقة" (أو حليفة)، إلا أن المسافرين لم يشعروا مرة بسهولة السفر ولا
بحرارة الترحاب إن في الطريق إلى الناقورة أو بيروت، ويعود ذلك ربما إلى الحالة
العامة في المنطقتين وفي البلد ككل حيث لم يكن هناك استقرار فعلي وكان الخوف من
التخريب هاجس الجميع. وقد كانت البحرية الإسرائيلية من جهة، والإجراءات الأمنية
في الميناءين من جهة ثانية، تزيد من مدة الانتظار الممل والمضني أحيانا، عدى عن
مشاكل البحر وعدم صلاحية السفن المستعملة. وبدل أن يتطور الخط البحري ليصبح
وسيلة نقل مريحة وحضارية ترتفع بأبناء المنطقة (الواحدة) إلى مستوى أعلى من
التعاون حيث يصبح التنقل والتبادل التجاري والاجتماعي حالة طبيعية وضرورة
يومية، ينحصر هذا الخط في زورق يمكن أن يتسع لخمسة عشر شخصا كان ينقل 150 على
الأقل، وسفينة شحن صغيرة تنقل بضائع بعض التجار إلى بيروت الشرقية ومنها،
أحيانا، وتأخذ معها بعض الركاب بشكل يكاد لا يليق بالإنسان في القرن
العشرين. |