ماذا بعد الجلاء ؟
صحيح أن حلم اللبنانيين صار حقيقة وصحيح أن قوات الاحتلال السورية التي
اغتصبت لبنان طيلة ثلاثين سنة ترحل بسرعة الحلم، ولكن هل إن رواسب وذيول
الاحتلال سوف ترحل معه؟ أم أننا سوف نعاني مما زرعوا فنحصد بدل القمح
زوانا؟ وماذا ستكون عليه العلاقة بالنظام
المستمر في سوريا (إذا استمر)؟ وما هي الشروط لعلاقات ممتازة (لا
مميزة) بين الجارين؟
الحلم اللبناني بأن يتحرر البلد لا شك قد تحقق في جزئه الأول والأساسي، وهو
رحيل القوات السورية عن أراضيه، ولو أبقت على بعض جيوب المخابرات في الضاحية
الجنوبية وغيرها من مراكز تواجد وسيطرة أزلامها من جماعة حزب الله، كون بقية
الأحزاب الموالية لها كحزب البعث والقوميين السوريين وبعض مسلحي مخيمات
الفلسطينيين لا يقدرون على حماية هؤلاء في ظل صحوة اللبنانيين وتكاتفهم
وإصرارهم على التحرر.
الحلم
اللبناني بان يتوحد الشعب حول مطلب الاستقلال، قد تجسد في مظاهرات آذار،
وخاصة تلك التي جعلت نصف اللبنانيين يزحفون على بيروت ويظهرون عن تضامنهم
وتكاتفهم والمطالبة بالحرية والحقيقة ورفع الوصاية ونظام المخابرات.
الحلم اللبناني بأن يسقط الشعب الحكام الذين فرضوا عليه، ويسمي ممثليه بحرية
ومسؤولية، هو أيضا قيد التحقيق؛ فإسقاط حكومة كرامي الأولى ثم وقف التكليف
بالمماطلة، وتعيين حكومة مهمتها الإشراف على الانتخابات، وتسهيل عملية التحقق
من الانسحاب، وإنهاء عهد المخابرات، وإبعاد رؤساء الأجهزة الأمنية تسهيلا
لكشف ملابسات "الجريمة"، والوصول إلى إجراء انتخابات حرة، أشرف عليها مراقبون
دوليون أو لم يشرف، كلها بشائر تدل على قدرة اللبنانيين ورؤيتهم الصائبة
ورغبتهم في بناء دولة قادرة على العيش. ولكن وبالرغم من كل تلك المؤشرات لا
تزال هناك عقبات ومطبات يجب التنبه لها كي لا يذهب سريعا وهج الجلاء والتحرر
ليحل محله عنصر الفوضى أو التردد.
إن
إنهاء الحالة الشاذة المتمثلة بحزب الله المسلح وبما تبقى من سلاح
الفلسطينيين يجب أن يكون مطلب كل اللبنانيين، فكفانا هيمنةً وتلاعباً
بالقانون، احتكاراً للوطنية وتعالياً على الآخرين. وكفانا تشرذماً وتقوقعاً،
وكفانا عنجهية كاذبة بالتصدي أو التحرير، بحمل قضية الفلسطينيين فوق كل قضية
أو بالتخويف منهم ومحاربة التوطين. إن هذه المناورات لا تهدف إلا إلى زعزعة
الاستقرار أو عدم الوصول إليه، وتهدف إلى فتح المحميات والجزر الأمنية التي
تؤدي، كما أدت حصانة الثورة الفلسطينية في السبعينات، إلى تخريب البلد وعودة
الاحتلال من الطاقة بعدما خرج من الباب. ولماذا التشكيك بقدرة الدولة والجيش
على حماية البلاد؟ ولماذا يكون بعض اللبنانيين من
لون واحد أقدر من كل اللبنانيين مجتمعين على الدفاع عن كرامة الوطن عندما
تدعو الحاجة؟ ولماذا يطلب من فئة واحدة ما لا يطلب من الجميع إذا لم تكن هذه
الفئة تدعي التضحية بينما هي من يستنزف الوطن واستقراره وقدراته لكي يستعلي
على الآخرين ويفرض لنفسه امتيازات لا يمكنه قبولها لغيره.
أما عن المصالحة التي كانت ممنوعة بين اللبنانيين فنحن أول الداعين لها،
ولتكن مع حزب الله المنزوع السلاح أيضا، ولتكن مع بقايا الموالين لسوريا،
ولكن بشرط أن يقبلوا بلبنان كيانا نهائيا، وبنظامه الديمقراطي الذي يحمي حقوق
وتطلعات كل الأقليات التي تشكل هذا الوطن، لأنه لا أكثرية في لبنان، ولا نزال
نعيش واقع الشرق الذي لا ينسى تاريخ القهر العابر على الكل، والذي لم يترك
أحدا إلا وأذاقه طعم المرارة، ولبنان الخارج من عهود الظلم الحديث لم ينس بعد
ذلك الطعم، وسيذكره لا للانتقام أو الحقد بل للتحصن
بقبول الآخر والاعتراف به، وبناء النظام الأمثل لحماية الحقوق في عالم
الأصولية البغضاء والتعصب الأعمى.
إن المطالبة بالعفو عن قائد القوات اللبنانية، وهو قد أصبح رمز للانتقام
السياسي في النظام الديكتاتوري، هو مطلب كل اللبنانيين، ولا عيب أن يطلق معه
كل المساجين السياسيين في فرحة الاحتفال بالاستقلال هذه، ومن ضمن هؤلاء،
المظلومين من أبناء المنطقة الحدودية، الذين تحملوا غياب الدولة واستعدائها
لهم يوم صمدوا في أرضهم ومنعوا التهجير والظلم، في بلد كان مرتعا للعصابات
تستبيح الأرزاق والأعراض، وفي وطن غابت عنه السلطة وترك
لشذاذ الآفاق وحملة السلاح يعيثون فيه فسادا لإرضاء سوريا ومخططاتها
الرامية إلى تشويه صورة لبنان وخلق شرخ بين بنيه.
ويجب أن تفتح البلاد قلبها لاستقبال المنفيين، قسرا كانوا أم هربا من الظلم
والجور ومن حكم الأجهزة والغرباء، فتلاقي على الجنرال عون ورفاقه وتنادي على
أبناء المنطقة الحدودية وزعيم حراس الأرز وغيره وعلى قادة المنظمات
الاغترابية، لينضموا أيضاً إلى رفوف العائدين ويلتقوا الأخوة من كافة المناطق
ويفرحوا كلهم بانتصار الحق وتحرير البلد من عبء التبعية وذل الديكتاتورية.
وكان يجدر بالمسؤولين
اللبنانيين الذين يوزعون اليوم أوسمة التقدير والشكر لرجال سوريا العائدين
إلى بلادهم أن يطالبوا، بدون عقد الخوف أو التبعية التي رافقت الحكام في ظل
الاحتلال، بإطلاق سراح كل المساجين اللبنانيين في السجون السورية فورا، مع
الإصرار على اعتبار هذا المطلب أساسيا في العلاقات المستقبلية بين البلدين.
وماذا عن هذه العلاقات المستقبلية؟ وهل صحيح أن
الشعب اللبناني يريدها علاقات مميزة؟
لهذا السؤال أجوبة متعددة ولكنها تصب كلها في عنوان واحد هو سيادة البلد
وكرامة المواطنين فيه والعلاقات المتوازنة بينه وبين أية دولة في المنطقة.
ولكي نجاوب على هذا السؤال يجب أن نعرف ما هو رأي القيادة السورية في هذه
العلاقات، فإذا كانت هذه القيادة مستعدة للاعتراف بلبنان دولة سيدة حرة
مستقلة تتبادل معها علاقات ديبلوماسية طبيعية وتفتح سفارات للبلدين في بيروت
ودمشق، فإننا نبدأ بالسير على الطريق الصحيح، وإلا فإننا نكون في هدنة لا
نعرف متى وكيف ستخرق ويجب الاحتراز والترقب لكل متغيرات قد تطرأ. ولكن في حال
الاعتراف وتبادل السفراء فإن صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين لا بد لها
أن تفتح، ويجب أن يحضر لبنان كل ملفات الحرب، وخاصة تلك المتعلقة بالجرائم
المرتكبة من قبل السوريين، أفرادا أو تنظيمات، أو من قبل الجيش السوري
والمخابرات، ومن بينها جرائم قتل القادة والرؤساء والزعماء الروحيين والمدنين
منهم، ولتقم سوريا بنفس الشيء إذا كان لديها ما تقوله للبنان، وذلك كي لا
نبقي مجالا للحقد في العلاقات بين البلدين، ولتكن هذه علاقات يرعاها القانون
فيأمن المواطن بأن الحوادث المشابهة لن تتكرر، ونعرف بأن الدولة هي من يطالب
بحقوق الناس كي لا يذهب كل واحد ليقاضي سوريا في المحافل الدولية في أمور
وجرائم تعرض لها، وإلا فسوف نطالب الأمم المتحدة مجتمعين بإنشاء لجنة خاصة
لمتابعة هذا الموضوع الإنساني وفرض التعويضات اللازمة على المتضررين من
جرائه.
أما فيما يتعلق بالاتفاقيات المعقودة بين البلدين، فإن الدولة اللبنانية يجب
أن تعيد دراستها على ضوء المصلحة اللبنانية، فتقرر الاستمرار بها أو إعادة
النظر ببعضها أو بمجملها لتتناسب وتطلعات اللبنانيين. ويجب
ترسيم الحدود بشكل نهائي، وتنظيم الدخول والخروج
من وإلى البلدين بما يتناسب والقوانين، وقد يكون التعاون بين سوريا ولبنان
حاجة ماسة للبلدين، وعندها يتطور هذا التعاون بين بلدين سيدين لا يطمع أحدهما
بالآخر ولا يفرض أي منهما على الآخر ما لا يرضاه لنفسه.
ونحن هنا مع علا قات قد تكون ممتازة بين لبنان وسوريا ضمن مبدأ الاحترام
المتبادل لسيادة البلد واستقلاله وعدم التدخل بالشؤون الداخلية، ولكننا لا
نسلم تلقائيا بمبدأ العلاقات المميزة على حساب لبنان، ولا نقبل بأن يقال،
وكأننا أطفال لا نعرف الأمور أو جهلة لا نملك ذاكرة قط، بان سوريا قدمت
للبنان المساعدة والأمن، بينما هي قدمت له الاحتلال والتبعية، وفرض الرأي
وتنصيب الحكام دمىً، وقدمت له الدماء والتفجيرات، والقتل والدمار. ولكننا
سنحاول إن هم حاولوا التصحيح، أن ننسى الأيام السوداء لنعمل لمستقبل، نأمل
بأن يكون مشرقا، قد تساعد العلاقات الطبيعية والطيبة والتعاون المثمر
والمتكافئ فيه، على هذا النسيان.
إن من يدعي بأن لا مشاكل بين لبنان وسوريا يكون إما متعامي وإما أنه يكذب على
نفسه وعلى الآخرين. ولكن من يريد مصلحة لبنان وسوريا يجب أن يعترف بكل
المشكلات وكل الظلم الذي عاناه اللبنانيون، وبكل المآسي التي افتعلها
السوريون؛ من معروف سعد والدامور وحتى الحريري،
ويجب أن تكشف كلها وتجري دراسات معمقة على دور سوريا فيها، لكي لا تعاد ولكي
يعرف اللبنانيون بأن التغاضي عن الحقائق يؤدي إلى المآسي ويطال الجميع عاجلا
أم آجلا. ويعرف السوريون ماذا اقترفت أيديهم بحق لبنان فلا يعودون إلى
التذاكي أو التحايل. فالحق
يحرر، والحقيقة تحمي من التكرار وتفسح المجال أمام التصحيح وبناء المستقبل.
فهنيئا للبنان بجلاء جيش الاحتلال، وستتم الفرحة يوم لا يبقى مسلح في لبنان
غير قوى الأمن المولجة حماية الناس، والتي تتبع الأنظمة والقوانين، ويردعها
حكم ديمقراطي مبني على حق الاختلاف بالرأي والحرية مع الحفاظ على النظام، في
هذا البلد الذي شأه الله بلد الانفتاح والتعاون، وفي نفس الوقت بلد الخصوصية
والاستمرار.
27 نيسان 2005 |