اتفاق السابع عشر من أيار
بينما كانت المفاوضات اللبنانية
الإسرائيلية جارية على قدم وساق بين وفدي البلدين بحضور وفد الولايات
المتحدة
كانت سوريا تحضر هجومها المضاد.
وقد بدأت شحنات الأسلحة بالوصول من دول "حلف وارسو" بينما كانت أفواج من
المتطوعين تصل أيضا من هذه الدول وعلى رأسها مجموعات من هنغاريا ورومانيا
وغيرها وقد توزع المدربون في مخيمات الفلسطينيين قرب دمشق لإعادة تنظيم
جماعة أبو موسى وغيرها من مجموعات الرفض الفلسطينية بينما ترك حراس
الثورة الإيرانيين في البقاع اللبناني يدربون بعض الشيعة كرد على حركة
أمل التي كانت قد نسقت عملها مع الإسرائيليين في الجنوب.
وبعد أخذ ورد تجاوز ستة أشهر في مفاوضات
كانت يمكن أن تنتهي في أسبوع تم الاتفاق بين لبنان وإسرائيل برعاية
الولايات المتحدة سمي "اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية" ولكنه عرف ب"اتفاق
السابع عشر من أيار" نسبة لتاريخ توقيعه. وقد وقع عن الوفد اللبناني
رئيسه السفير أنطوان فتال بينما وقع ديفيد كيمحي رئيس الوفد الإسرائيلي
كما وقع أيضا المندوب الأميركي موريس درايبر على هذه الوثيقة التاريخية.
ولم يتضمن اتفاق السابع عشر من أيار، بعكس التوقعات، تبادل السفراء
والفتح الكامل للحدود، إنما تضمن فقط إنهاء حالة الحرب مقابل الانسحاب
الإسرائيلي الكامل خلال ستة أشهر وتسلم الدولة اللبنانية كافة المناطق
حتى الحدود الدولية، بينما ترعى لجنة ارتباط من الطرفين تنفيذ البنود وحل
الإشكالات التي قد تنتج لاحقا،. كما يمكن فتح مكتب لهذه اللجنة في كل من
البلدين على أن يرأسه أحد موظفي الدولة. ولم يشر الاتفاق أو ملحقاته إلى
سوريا بالاسم، كما رغب بذلك الرئيس السوري، ولكنه أشار في نهاية أحد
الملاحق بأن انسحابا لكافة الجيوش الأجنبية بحسب رغبة الدولة اللبنانية
يجب أن يتم خلال مدة ثمانية لعشرة أشهر، وهو أيضا ما كان تضمنه القرار520
الصادر عن الأمم المتحدة في 17أيلول 1982.
بعد توقيع الاتفاق أقرته الحكومة
اللبنانية ثم عرض على البرلمان الذي صوت ووافق عليه بالأكثرية المطلقة
حيث عارضه نائبان فقط كما تغيب نائبان عن الجلسة. وفي إسرائيل أيضا وقعت
الحكومة ثم الكنيست على الاتفاق وأبرم من قبل رئيس الدولة. ولكن سوريا
التي كانت بدأت تشعر بضعف الرئيس الجميل وتبلبل الوضع الداخلي في كل من
إسرائيل ولبنان، شنت حملة شعواء ضد الاتفاق. وقد حاول الرئيس الجميل كل
ما بوسعه لجعل الرئيس الأسد يقبل بالاتفاق وعندما أصر الأخير على عدم
موافقته امتنع الرئيس الجميل عن إبرام الاتفاق بالرغم من كل النصائح.
هذه الحالة من التردد ستعيد تأزم الوضع
فقد كان بيغن استقال من رئاسة الحكومة واعتزل السياسة كليا ليحل محله
شامير، بينما استبدل شارون بأرينز في وزارة الدفاع، وتسلم شولتز وزارة
الخارجية الأميركية بدل الجنرال الكسندر هيغ الذي كان شغل منصب رئيس حلف
شمال الأطلسي قبل أن يصبح وزيرا للخارجية. هذه التغييرات في المناصب كان
لها تأثير كبير على الأحداث التي ستلحق، فبينما كان مثلث هيغ- شارون-
بشير متجانسا، قويا، عسكري النزعة، ولا يهاب المجابهة للوصول إلى الهدف،
إذا بالمثلث الجديد غير متجانس ولا يمتلك نفس الرؤيا، فالنظرة الشخصية
للأمور تؤثر في القرارات، وشولتز رجل الإدارة الذي تربطه مصالح خاصة في
دول النفط، لا يرى بالطبع ما كان يراه هيغ، وعلاقة أرينز باللبنانيين
ومعرفته الشخصية بهم تكاد تكون صفر، بينما لم تكن كما قلنا سابقا لأمين
أية علاقة خاصة بالإسرائيليين.
وتتالى الأحداث ويزيد الحرج بين
الإسرائيليين من جهة والرئيس الجميل من جهة ثانية، وبينما تحاول القوات
اللبنانية تدعيم مواقفها وتثبيت أقدامها في الجبل في محاولة لملئ الفراغ
الذي سيتركه الانسحاب الإسرائيلي يكتفي الرئيس الجميل بالتطمينات وبأن
الجيش المدعوم من القوى المتعددة الجنسية سوف يستطيع ملئ الفراغ.
ولكن الأمور تأخذ بالتأزم ويصبح التعنت
موقفا شخصيا يقلب الأوضاع على الجميع وتستغله سوريا ومن خلفها لتفرض حرب
إبادة على المسيحيين في الجبل تؤدي إلى تهجير 200 ألف مسيحي واستشهاد عدد
كبير في جانب المدنيين أو القوات اللبنانية على السواء.
يقول بعض المحللين السياسيين بأن حلف وارسو كان مستعدا لدخول المعركة
ومواجهة حلف شمال الأطلسي في بيروت بشكل جدي، وذلك ما كان سيتيح له فرصة
ضرب كل الحركات التحررية الناشئة ضمن دول الحلف تحت ستار محاربة عملاء
الداخل، وهذا ما دعا القوات المتعددة الجنسية لعدم المشاركة الفعلية
بالقتال وتوقيف المهاجمين في الجبل كي لا تعطي الفرصة لأن تظهر المعركة
وكأنها معركة فعلية بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. ولكن فعليا على
الأرض كان عدم إبرام اتفاق السابع عشر من أيار هو السبب الرئيسي وراء عدم
وجود أي تنسيق بين الدولة اللبنانية من جهة والقوات الإسرائيلية المنسحبة
من جهة أخرى، وهذا ما منع الجيش اللبناني من إمكانية تسلم أي من المراكز
التي ينسحب منها الإسرائيليون، لا بل فقد كان السوريون وأعوانهم أقرب
لملئ الفراغ الذي يتركه الإسرائيليون من الجيش اللبناني. وبالرغم من
الخسائر الشديدة التي تعرض لها المسيحيون واستفراد جماعة القوات
اللبنانية في معركة الجبل حيث واجهوا بالفعل "المحدلة السوفياتية"، وليس
فقط مجموعات الاشتراكيين والفلسطينيين والسوريين، إلا أن القوات المتعددة
وقفت بعيدا في البحر واكتفت بقصف صوتي لبعض الأحراج لم يقدم أو يؤخر ما
يدعم أصحاب نظرية تدخل حلف وارسو المباشر وعدم رغبة حلف شمال الأطلسي
بالمواجهة. ولم يحاول الجيش اللبناني المشاركة في معركة الجبل، ولكنه
اكتفى بوقف الهجوم على ارتفاع سوق الغرب حيث كانت قيادته في اليرزة
والقصر الجمهوري في بعبدا سيصبحان مهددين. ولكنه لم يستطع قطع الطريق إلى
بيروت الغربية بوصل سوق الغرب بتلة البنيه التي كانت تسيطر عليها القوات
اللبنانية.
وتحاصر القوات اللبنانية المنسحبة من
الشوف في قتال تراجعي في دير القمر، ويستعمل الإسرائيليون نفوذهم لدى
الدروز لتأمين انسحاب هؤلاء باتجاه صيدا، ما يفسره الشارع المسيحي توافقا
إسرائيليا- سوريا ضد المسيحيين.
وفي الجنوب يصبح موقف الرائد حداد حرجا،
فقد تبدد أي أمل في أن ينفذ الاتفاق بين لبنان وإسرائيل، وها هي القوات
اللبنانية تمنى بخسارة كبرى في معركة يفقد فيها المسيحيون جزءا مهما من
الجبل حاولوا الإبقاء عليه لأكثر من أربعمائة عام من التضحيات المتواصلة،
وها هي العاصمة بيروت مهددة مجددا، فهل يكون الرئيس الجميل آخر رئيس
مسيحي على لبنان؟ وهل يمكن بعد كل التضحيات أن نخسر حتى الأمل بالمستقبل؟
ولماذا لم يكن بالإمكان التفاهم مع الدروز على التعاون في سبيل هذا الوطن
الذي يستطيع، أقله، استيعاب هؤلاء المقهورين في الشرق وهم لا ملجأ لهم
سواه؟ وهكذا يدخل المرض جسد الرائد حداد ليستسلم له في أقل من ستة أشهر
وكأن مأساة لبنان وسرعة عودته إلى الجحيم تجسدت هذا الرجل الذي لم يأبه
بالصعاب ولا بما يقال في سبيل أن يخدم وطنه ويحافظ على شعبه ويمنع عنه
الذل والإهانة.
كان الرائد حداد يحلم بوصل مرجعيون بشرق
صيدا وجزين، فمن جهة يصبح في قلب لبنان، ومن جهة أخرى يمكنه التفاهم مع
دروز الشوف ليقلب المعادلة ضد سوريا ويعيد التحالف الطبيعي لأبناء الجبل
ما يسمح بتماسك أفضل للبنان وقوة في مواجهة أي غريب، فعندما يتماسك الجبل
لن يستطيع أحد أن يخرقه ليصل إلى الساحل فيخلق المشاكل، لأن كل الطرق إلى
الساحل تمر عبره ، فقوة لبنان إذا بتماسك الجبل، وقوة الجبل بوحدة
المسيحيين والدروز، ومهما كان عدد هؤلاء صغيرا فالموقع الاستراتيجي له
الأهمية، أما باقي المجتمع اللبناني فيتأثر بهذه الوحدة ويزيد تماسكا
وتعاضدا. وكون الدروز في منطقة حاصبيا قد تعاونوا معه ولم يجد صعوبة في
التفاهم مع الدروز في إسرائيل، فإن دروز الشوف لن يكونوا بأبعد عن
التفاهم من هؤلاء وقد يزيدهم هذا التفاهم قوة وتأثيرا على الصعيد الوطني.
ولكن أحداث الجبل الأخيرة التي فاقت أحداث 1860 من حيث العنف والنتائج
كانت ضربة قاضية لأحلام الرائد حداد جعلته يفقد الأمل ويستسلم للمرض.
وهكذا وفي هذه الأجواء بدأ العد العكسي
لانسحاب إسرائيل من الجنوب فقد تم الانسحاب الأول حتى نهر الأولي ما جعل
المنطقة الواقعة بين العاصمة والجنوب منطقة بدأت تصبح شيئا فشيئا غير
آمنة ما اضطر المسيحيين لركوب البحر من معمل كهرباء الجية إلى الحوض
الخامس في وقت كانت الأساطيل الأميركية تملأ البحر بينما تحلق طائرات
الهيليكوبتر بينها ذهابا وإيابا. وتقرر القوات اللبنانية التي تأثرت
بمعركة الجبل الانسحاب من منطقة الإقليم وتسليمها إلى الجيش. وهكذا يتسلم
الجيش اللبناني هذه المنطقة وينتشر فيها.
في هذه الأثناء وبينما بدأت عوارض المرض
تظهر على الرائد حداد يتم الاتصال بالجنرال أنطوان لحد ليخلف الرائد حداد
في قيادة جيش لبنان الحر في الجنوب.
كان الجنرال لحد قد استقال من الجيش
اللبناني برتبة لواء بعد أن عين ابراهيم طنوس قائدا للجيش اللبناني خلفا
للعماد خوري وإذ كان طنوس قد خدم كمساعد للحد في قيادة البقاع في 1976
وفي صربا بعدها لم يكن من الممكن بقاء لحد ضابطا في الجيش بإمرة العماد
طنوس. وعندما تم الاتصال بالجنرال لحد في موضوع الجنوب لم يقبل بالمهمة
فورا بل قام بعدة زيارات إلى المنطقة وباستشارات مع القيادات في بيروت
ليعرف المواقف الحقيقية والتوجهات المستقبلية، فهو لم يكن ضابطا صغيرا
قليل الخبرة أو مراهقا يحب المغامرة أو يريد الظهور، إنما ضابطا من كبار
القادة المتمرسين وأصحاب الخبرة في الشأن العام والأمور العسكرية، وقد
كانت دقة الموقف وأهمية الموقع هي ما دعا للاتصال به في هذا الشأن. ثم
قام الجنرال لحد بزيارة إسرائيل والتقى وزير الدفاع ورئيس الأركان ليطمئن
إلى موقفهم من لبنان قبل القبول بأية مهمة، وكان السؤال الذي طرحه لحد
على الإسرائيليين هو: هل لديهم أية أطماع في شبر من أرض لبنان أو نقطة
ماء؟ وكان الجواب بالنفي وأن جل ما تبغيه إسرائيل هو الانسحاب من لبنان
ولكن بعد ضمان عدم التعرض لها عبر الحدود.
كان أول ما قام به الجنرال لحد هو تغيير
اسم "جيش لبنان الحر" ل"جيش لبنان الجنوبي" وهو إشارة رمزية مهمة. فبينما
كانت لحداد نظرة تحريرية للبنان، وقد قام بتنظيم هذا الجيش كما سبق وقلنا
للمساهمة بتحرير البلد من سلطة عرفات وجماعته وسيطرة السوريين على الحكم
فيه، كانت المعطيات الجديدة التي لدى لحد، بعد كل الأحداث التي جرت، هي
أن مهمته ستكون تأمين تنظيم المنطقة لعدم حدوث فراغ كالذي حدث في الجبل
من جهة، بالتنسيق مع الإسرائيليين، وانتظار قيام الحكومة اللبنانية
بالسيطرة على الأرض بدءا من العاصمة. وأنه يوم تصبح الدولة قادرة على
الوصول إلى الجنوب، فسيكون جيش لبنان الجنوبي، الذي يحافظ على هذه
المنطقة، جاهزا لتسليمها إلى الدولة أو لأن يصبح جزءا من قوات الجيش
اللبناني التي ستستمر في تأمين الأمن في الجنوب حتى ذلك الحين.
|