لبنان بين خطاب الأسد وتصرفات الغوغائيين
7 أذار 2005انتظر اللبنانيون والعالم، يوم السبت، ليستمعوا إلى خطاب تاريخي من الرئيس
الأسد يعبر عن دقة المرحلة وخلاصة المشاورات والزيارات التي جرت بين دمشق
وعواصم عربية وغير عربية ويعلن فيه عن قرارات بمستوى الأحداث، فإذا بهم
يصدمون بعملية اجترار للموقف السوري المعروف، وكأن شيئا لم يكن، وكأن الرئيس
الأسد لا يزال يمسك كل خيوط اللعبة.
هل يعلم السوريون بأن كثيرا من الأحداث قد جرت وكثيرا من الأمور قد تغيرت،
منذ محاولة اغتيال مروان حمادة الفاشلة، إلى صدور القرار الدولي 1559 وعملية
التمديد القسري للرئيس لحود وانضمام جنبلاط الفعلي للمعارضة ومن ثم جريمة
اغتيال الرئيس الحريري وما لحقها من انفجار شعبي وتحرك عالمي وعربي في اتجاه
رفع أيديهم عن لبنان؟
هل يعلم الرئيس الأسد بأن لعبة الحرب الداخلية في لبنان لم تعد تنطلي على
أحد، وأن السلاح الوحيد الذي يملكه مواطنون لبنانيون هو بيد "جماعته" فقط،
وهو لن يزيد من تعقيد الأمور وإنما سيربك سوريا أكثر فاكثر؟
هل يعلم النظام البعثي أنه كلما حاول التمسك بلبنان إنما تقرب نهايته في
سوريا أيضا؟
لقد حاول الرئيس الأسد أن يكون خطابه تاريخيا يوم السبت، ولكنه لم يكن كذلك
بالفعل، فقد كرر لازمة المفاوضات مع إسرائيل في بدء خطابه، وبأنه يستجدي ذلك،
ولكنه في نهاية ذلك الخطاب أشاح عن حقيقة تصرفه وخبث عرضه في المفاوضات، إذ
هدد اللبنانيين بأن 17 أيار قد يكون في الطريق وبأنه عليهم إسقاطه. فهو إذن
يقول للعالم بأنه إما يطلب السلام مع إسرائيل لسوريا فقط ولا يسمح به للبنان،
أو أنه يناور في طلبه للسلام والمفاوضات، وهذا ما يجعل العالم وإسرائيل غير
مهتمين بعروضه.
ثم ينتقل للحديث عن العراق، وهنا أيضا يناقض نفسه، فهو لا يعلم بأن أحدا من
العراقيين التابعين لنظام صدام موجود في سوريا، ويطلب من الأميركيين أسماء،
والكل يعلم بأنه سلم قبل أسبوع شقيق صدام للسلطات العراقية.
ويعود إلى لبنان في موضوع الانسحاب، ويربط هذا بالاستقرار، وبأن العالم كان
دوما يخاف من أن يهتز هذا الاستقرار، وهو لا يعترض على القرار الدولي، بل
يريد أن ينفذ الطائف وينسحب بحسبه، فيقرر سحب قواته فورا إلى البقاع، ولكنه
لا يأتي على ذكر المخابرات وحل أجهزتها التي ترهب اللبنانيين وتتدخل بحياتهم
اليومية والسياسية أكثر بكثير من الجنود والحواجز. وهو لا يشير إلى أي تاريخ
لإكمال الانسحاب حتى الحدود، وليس إلى داخل سوريا، وكأنه يريد أن يبقى جيشه
جاهزا على الحدود للتدخل لاحقا. ولكنه هنا أيضا يدعي بأن الحكومتين أو المجلس
الأعلى سوف يقرر بشأن الانسحاب، وهو ما يبقي الموضوع غير نهائي، فمن يكفل بأن
هذا المجلس لن يقرر إبقاء الجيش السوري في البقاع إلى ما لا نهاية، لأن
الرئيس نفسه الذي قال في خطابه بأن سوريا لم تعارض أبدا الانسحاب، لا بل يشكل
تواجد جيشها على الأراضي اللبنانية عبئا ماديا عليها، كان قد صرح هو، منذ أقل
من شهر، بأن الجيش السوري باق في لبنان حتى نهاية المشكلة الفلسطينية وإحلال
السلام مع إسرائيل، ومن هنا لا نرى جديدا في كلامه ولا يمكننا التصديق بأنه
قد غير رأيه عندما يرمي بجدولة الانسحاب على ما يسميه المجلس الأعلى السوري
اللبناني، ومن ناحية أخرى فإن اللبنانيين في البقاع لا يريدون أن يبقى الجيش
السوري هناك وهم المتضرر الأكبر من تواجد السوريين منذ حوالي ثلاثين سنة.
ثم يتكلم الرئيس الأسد بخطابه التاريخي عن من كان بالأمس حليف سوريا، وهو
اليوم يقف ضدها، وكأنه بكلامه يشير إلى السيد جنبلاط، وهو يهدد ويتوعد بطريقة
مبطنة يعرفها اللبنانيون جيدا ويعرفون مفاعيلها، ولربما هذا ما دعا السيد
جنبلاط للرد فورا بأنه مع سوريا في حال وجود 17 أيار جديد وبأنه يعتبر قرار
الانسحاب إلى البقاع تنفيذا للطائف.
والرئيس السوري يركز على الفصل بين الانسحاب وما يسميه "سلاح المقاومة"، وهو
يريد هنا أن يفهم حزب الله وجماعته بأنهم الخاسرون وبأن عليهم أن ينتفضوا،
وهم أكثر من يحمل سلاحا ولا يزال يحكم منطقة من لبنان ويحافظ على عناصره جيشا
رديفا يضم عديدا وعتادا قادرين على المجابهة يعتبر السوريون أنهم سيكونون
الحجر الأساسي في مواجهة تنفيذ القرار الدولي، وأنهم سيشكلون مع بعض
الفلسطينيين المسلحين في المخيمات القنبلة الموقوتة الدائمة التي يملكون
مفتاحها مع حلفائهم الإيرانيين وحدهم.
الرئيس السوري الشاب الذي انتظر العالم منه كثيرا لم يبدو أبدا عند حسن الظن،
ولم يتغير خطابه عن كلام الشرع الذي قيل بأنه يضلله، وبأن سياسته هي التي
أوصلت الرئيس إلى هذا المأزق، ولكن بعد هذا الخطاب "التاريخي"، لا بد أن
العالم قد عرف جيدا مع من يتعامل، و لا شك أنه سيكون لسوريا في القريب العاجل
"دورا" مهما لا نعرف بعد إن كانت ستلعبه أو سيقع اللعب به عليها.
وفور انتهاء الخطاب التاريخي وإعطاء كلمة السر لأدوات سوريا نزلت بالفعل قوات
الشغب الغوغائية يرأسها قانصو والقنديل وغيرهم من جماعات الشغب، ولم يتسلحوا
هذه المرة كعادتهم ب"ديمقراطية" السواطير والبلطات، بل بالأسلحة الحقيقية
والسيارات، مواكبا تجول الأحياء المسيحية، خاصة، وتطلق النار على المحلات
التجارية والأبنية والمارة، استفزازا ليس إلا، ولم يجاوبهم أحد، كما لم
يردعهم أحد، فالمسلحون معروفون، والهدف معلن، وسوريا لن تترك "بئر النفط"
اللبناني بسهولة، والعالم كله يرى ويعرف ما يعني الرئيس عند إشارته إلى
الاستقرار.
حزب الله الذي حاولت المعارضة أن تعطيه دورا لبنانيا ولا تزال تحاوره بأن
يكون صاحب فضل ولكن أن يتساوى مع الآخرين بترك السلاح والانضمام إلى قافلة
اللبنانيين الأحرار بعد أن تخرج سوريا، هل يكون بالتزامه الحوار يحاول كسب
الوقت كي يصله الإمداد المطلوب من إيران، والذي تحدثت عنه بعض وسائل الإعلام
ويضم عتادا متطورا ونخبة من الخبراء وقوات الحرس الثوري؟ وهل لا يزال مصمما
على المعركة مع العالم الحر كما السوريين؟ أو أنه لا يملك قراره ولذا فالحوار
معه لن يجدي نفعا لأن الكلمة الأخيرة لآية الله، وما هو في لبنان إلا حالة
إيرانية لا يهمها من مشاكله الداخلية إلا ما يسهم في تنفيذ خطط القيادة؟
الأيام القادمة لا شك ستظهر إلى أين تنحو الأحداث، ومظاهرة الثلاثاء في ساحة
رياض الصلح التي دعا إليها حزب الله ستعطي صورة أوضح عن ما ينتظر اللبنانيين
من مستقبل. فهل تطوى الأحداث الدامية إلى غير رجعة ويكون الرئيس الحريري آخر
الشهداء؟ أم أن الأيام الأخيرة التي أظهرت صورة لبنان الحضاري سوف تنسى في
خضم الآتي وما تخبئه له سوريا وإيران ومخططاتهما؟ |