الوضع العسكري في الحرب الدائرة اليوم ونتائجه
المتوقعة
10 آب 2006
التحاليل التي يكتبها الصحافيون وأحيانا
الخبراء العسكريون في لبنان والعالم العربي
تدور كلها حول عدم تمكن الجيش الإسرائيلي، حتى
الآن، من الدخول إلى لبنان بالرغم من إعلان
مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية عدة مرات عن
نيتهم الوصول إلى الليطاني. ويعزو كل المحللين
هذا الوضع إلى مقاومة "بطولية" يقوم بها
مقاتلي حزب الله وإستشهادييه.
نحن لا نشك أبدا بالتحضيرات التي أقامها حزب
الله في المنطقة الموازية للحدود الدولية طيلة
ست سنوات، ولا نقلل من دوافع عناصر هذا الحزب
للقتال حتى الاستشهاد، وهم طالما انتظروا هذه
الفرصة لمقاتلة "العدو" وللموت "في سبيل الله"
والذهاب إلى الجنة حيث التمتع بكل ما وعدوا به
من قبل الأئمة والمدربين. ولكننا نشك أن يكون
الإسرائيليون من السذاجة لدرجة أنهم لم يأخذوا
كل هذا بعين الاعتبار، لا بل، وبحسب مراقبتنا
لما يجري نقول بأن الإسرائيليين يحسبون كل هذه
الحسابات وخاصة رغبة عناصر حزب الله القتالية،
والتحضيرات التي أقاموها، والاسلحة التي
يمتلكون، وهم إنما وضعوا خططهم إستنادا
لمعلوماتهم الدقيقة عن هذا الوضع. ومن هنا نرى
خطورة ما يجري ودقة القرارات الانفعالية التي
يقوم بها اللبنانيون على مختلف مستوياتهم كما
ردود الفعل العربية والمجتمع الدولي.
سنأخذ في تحليلنا للوضع العسكري بعين الإعتبار
الأسباب وراء هذه الأحداث، وهنا نلاحظ بأن
زعيم حزب الله كان صرّح بأنه انتظر هذه الحرب
في أيلول وليس في تموز، ويعني ذلك أنه؛ إما
يملك معلومات استخبراتية تؤكد له تحضير
إسرائيل لهكذا عملية، وهذا جائز، وإما أنه هو
وحلفاؤه كانوا يحضرون لمثل هذه المعركة وهذا
أكثر توقعا. أما لماذا يحضّر وحلفاؤه لهذه
المعركة، فيجب العودة إلى الاستراتيجية
الإيرانية في الشرق الأوسط والتي كانت تطورت
منذ حكم الشاه واستمرت على تسارع مع خلفائه
الملالي. فاستراتيجيو الشاه كانوا يعتقدون بأن
الامبراطولاية الفارسية الجديدة يحق لها، أكثر
من غيرها، أن تسيطر على الشرق الأوسط الغني
بالنفط فتشكل قوة عالمية يحسب لها الحساب.
وعندما انقلب الشارع ضده اعتقد البعض بأن
إيران سوف تغرق مع الخميني في تكنولوجيا
السيوف وتهتم فقط بالحجاب والوضوء والحلال
والنكاح وتترك أحلام العظمة والسيطرة. وكانت
حرب صدام لتدمير الاسلحة التي جمعها الشاه
والقضاء على بعض القيادات التي خلفها وراءه.
ولكن الفكر الفارسي استوعب بسرعة المتغيرات
واستغلها لصالح النظرة التوسعية، فإذا بتصدير
"الثورة الاسلامية" الوجه الآخر للسيطرة
الأمبراطورية الفارسية.
من هنا نجد بأن نجاد يهتم جدا بالقدرة النووية
والصاروخية لإيران ويخاف أن يسارع العالم
باتخاذ قرار يمنعه من امتلاكها، ولذا فالقاعدة
العسكرية في لبنان مهمة جدا في الاستراتيجية
الإيرانية لأنها سوف تكون الرد المناسب على
الولاية الأميركية "الواحدة والخمسين"، أي
إسرائيل. فالتهديد الإيراني بإعادة اليهود إلى
أوروبا وتدمير إسرائيل لم يبدأ بالخطاب الشهير
لنجاد، إنما بدأ يوم قامت أول دفعة من
الانتحاريين، وقد تكون إيرانية، بضرب السفارة
الأميركية ومقر المارينز والمظليين الفرنسيين،
وهذه هي أطراف "الشيطان الأكبر" وعيونه. ثم
أخذت تكبر بتكرار الضربات على الإسرائيليين
حتى خروجهم، وهم اعتقدوا أنه سينهي الاحتكاك
فيضمن عدم الاعتداء.
في الثاني عشر من تموز الماضي كان على إيران
أن تجيب على ورقة المطالب الأوروبية، وكان
الرد عملية "محدودة" لحزب الله خطف فيها
جنديان إسرائيليان وذلك فقط للالهاء، وبالرغم
من معرفته بها، ظل نصر الله يعتقد بأن المعركة
سوف تبدأ عندما يقرر مجلس الأمن العقوبات ضد
إيران في أيلول فتتصاعد الردود. ولكن الحرب
وقعت.
ما رأيناه على الأرض منذ اليوم الأول للهجوم
الإسرائيلي المضاد أنه مدروس وينفذ بدقة، وليس
كما يعتقد البعض. صحيح أن إسرائيل عودتنا على
العمليات السريعة والهجومات المركزة، وعلى هذه
بنى حزب الله استراتيجيته وطرق قتاله، وهو
فوجيء بعدم تحرك الإسرائيليين على الأرض بنفس
الطريقة. وصحيح أيضا بأن لحزب الله القدرة على
إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وهي
تقلق المدنيين في أيام السلم، ولكنها ليست
بذات فعالية في الحرب إن هي لم تصب أهدافا
محددة تؤثر بقدرات العدو. وما رأيناه في هذه
الحرب، التي هي حربا بكل معنى الكلمة وليست
عملية محدودة كما جرى في السابق، أن صواريخ
حزب الله هي، كحروبه، كلها صواريخ تلفزيونية
يحبها العرب ويتهيج لها الشارع المسلم، ولكنها
لا تضر بقدرات إسرائيل القتالية.
يقول المحللون العرب، ومنهم جنرالات من مدارس
عسكرية كبرى، بأن حزب الله ليس بحاجة لأن يصيب
أهدافا محددة، ويكفيه أن يكون أول من استطاع
اطلاق قذائف إلى قلب إسرائيل بدون توقف،
بالرغم من الضربات الإسرائيلية الموجعة. هذا
المنطق هو منطق الشارع العربي الذي يهمه العمل
بحد ذاته وليس نتائجه، فلا مسؤولية ولا محاسبة
عند العرب على الأفعال، إنما الاساس هو في
النوايا، وهذا، ومع كل الاحترام للزملاء
العسكريين، رأي لا يحسب له حساب في المعارك.
ومع الاحترام للموقف العربي الذي يهتم
بالمواقف أكثر من الأفعال، إلا أن الموقف
الفارسي وهو الأساس هنا، وهو يختلف تماما عن
الموقف العربي، فالفرس أخرجوا أساطيل الحلف
الأطلسي من لبنان في الثمانينات، وهم منعوا
الولايات المتحدة من نشوة النصر في العراق،
ولذا فلا يمكنهم الاكتفاء بالرمايات
العشوائية، ولذا فهم يشددون على نتائج قتالية
أكثر فعالية ووجع، ولا يهمهم ما يحدث في لبنان
على الأرض من مآسي وخراب، فهذا هو ثمن المعركة
التي يخوضونها ضد أمريكا والغرب، بواسطة
اللبنانيين الذين باعوا أنفسهم منذ زمن للمال
الإيراني المغدق بدون حساب على الأئمة،
والموزع بشكل فعال جدا جعل المجتمع الشيعي
يترهف داخل العباءات السوداء وسيارات
المرسيديس، ويتنعم بأموال الدولة والمغتربين
الشيعة، وأموال التهريب والمخدرات والتجارة
الحرة بدون ضرائب والوظائف بالاسم وعدم
المساهمة بأي من جبايات الدولة. من هنا اصرار
غرفة العمليات المشتركة السورية- الإيرانية-
الحزباللهية، والموجودة في مكان ما داخل سوريا
بقرب الحدود اللبنانية، والتي تقود المعركة
فعليا، على القتال والصمود في القرى المتاخمة
للحدود، دون الأخذ بعدد الإصابات والقتلى، ولا
بالدمار والخراب، والمهم ألا يسجل
الإسرائيليون اختراقا.
أما من الجانب الإسرائيلي فإن الخطة
الإسرائيلية التي تعرف أيضا مقدرة المقاتلين
وتسليحهم، وتعرف نوعية المخططين وتوجيهاتهم،
ترى، على ما يبدو، بأن قتل أكبر عدد من
المقاتلين، بالاضافة إلى منع إعادة تجهيزهم،
هو الهدف الأول وليس الهدف احتلال الأرض، وكل
العمليات التي تقوم بها الفرق المختارة من
الجيش الإسرائيلي هي عمليات تهدف إلى إبادة
مجموعات للعدو وتدمير منشآته وتجهيزاته لا
البقاء في الأرض والسيطرة عليها، أقله في هذه
المرحلة من القتال. الإسرائيليون يملكون وسائل
المراقبة من الجو بواسطة الطائرات والأقمار
الاصطناعية، وعندهم وسائلهم للتنصت ورداراتهم
بالتأكيد، وكلها أثبتت على مدى الأيام
فعاليتها في دقة المعلومات والنتائج، وهم
يحاولون منع إعادة التجهيز بضرب الطرق
والجسور. وما ضرب المصنع والقاع وغيرها إلا
لوقف الإمداد الذي يأتي بدون أدنى شك من
سوريا. وهم بنفس الوقت يدمرون مراكز ومنشآت
حزب الله ومخازنه بما فيها تلك التي تقع في
مناطق آهلة بالسكان، لا فرق، فهم يخوضون حربا
مصيرية، كما قال رئيس وزرائهم، وهي بالفعل
كذلك. وهم من جهة ثانية يجرون العدو إلى ساحات
القتال التي يختارون زمانها ومكانها، عندما
يحددون منطقة معينة بواسطة المناشير التي
يوزعون طالبن من المدنيين اخلاءها، ويعرفون
فورا بأن جماعة حزب الله سوف تتركز فيها لصد
الهجوم، وهذا ما يريدونه بالضبط، فهم كمن يذهب
للصيد ويريد من الطرائد التجمع بأكبر عدد في
المكان المقصود. وما ينتج دائما عن القتال،
بالرغم من بيانات حزب الله، هو تدمير كامل
العتاد وإبادة كافة العناصر بين قتيل وجريح،
وبالطبع هروب البعض لشكهم، ربما، بحسنات
"المكاسب العلوية".
طبعا لم يفهم جهابزة التحليل العسكري في
العالم العربي تكتيك الإسرائيليين هذا، وهم،
كما حزب الله، فسروه بعدم القدرة على الصمود
أمام المقاتلين الشجعان. ولكن لا يعلم أحد حتى
الآن عدد القتلى عند حزب الله، ولن يعرف ذلك
قبل عدة سنين، فيوم قتل عشرة آلاف جندي سوري
خلال يومين في معركة 1982 لم نعرف عنهم إلا
بعد عشر سنوات يوم شرح الرئيسين الحسيني وبري
"بطولات وتضحيات" السوريين. ويوم خسر حزب الله
ثمانية وعشرون قتيلا على جسر الحمرا قبل
انسحاب الجيش الجنوبي بأربعة أيام، لم يعرف
أحد بالرغم من بقاء جثث أربعة عشر منهم على
الطريق طيلة الأيام الأربعة، وقد دفنوا فيما
بعد على دفعات لكي لا يشوهوا "نصر التحرير".
المقارنة بين عدد القتلى عند حزب الله وعدد
القتلى عند الإسرائيليين يمكن أن يعطي فكرة عن
من يسيطر فعلا على ساحة القتال، ويوم يقضي
الجيش الإسرائيلي بعملياته المحددة على النخبة
من جماعة حزب الله، سوف يبدأ الآخرون بالهرب،
وعندها سوف تبدأ إسرائيل هجومها الأرضي الفعلي
الذي تنظف فيه بقايا المخازن وتفجر الخنادق
وينتهي القتال.
الإيرانيون والسوريون اعتقدوا بأن العالم لن
يتحمل هذا الكم من العنف وسوف يسارع إلى وقفه،
فيضمدون الجراح ويقطفون المعنويات الزائفة
التي زرعها الاعلام ويستعيدون الانفاس ككل مرة
ويعيدون التدريب والتجهيز لمعركة ثانية. ولكن
إذا لم يتوقف الإسرائيليون سوف يضطرون لارسال
دفعات من الحرس الثوري أو بعض المجاهدين من
شوارع البلاد العربية. ولكن من المستبعد أن
يجرؤ السوريون على التدخل في هذه المعركة بشكل
مباشر لأنهم يعلمون أن إسرائيل حسبت حساباتها
لذلك، وهي لم تدفع إلى المعركة حتى الآن سوى
بفرقتين إحداهما من فرق الاحتياط.
يقدر العارفون بأن النخبة القتالية لحزب الله
قد تتمكن من الصمود أسبوعا آخر قبل الانهيار
مع هذا العدد من الاصابات، ولذا فإن على السيد
حسن أن يتنازل سياسيا فيقبل بنزع السلاح وكافة
بنود مشروع الأمم المتحدة قبل فوات الأوان،
ولكن دخول العنصر العربي إلى الساحة قد أفقده
هذه المناورة، ولعل هذا الدخول سيزيد من
التعنت الذي سيؤدي إلى اعطاء إسرائيل مزيدا من
الوقت لتقضي نهائيا على حزب الله وآلته
العسكرية وتسيطر على الجنوب، أقله حتى نهر
الليطاني. ولكن ماذا سيكون ثمن هذا كله؟ وهل
سيبقى للبنان مجال لاستجداء السلام الكامل حتى
والقبول الغير المشروط بأي حل؟ أم أننا وقد
أصبحنا عربا أقحاح، ليس بالوجه فقط، سنبكي،
كما العرب الأقحاح، الجنوب كما بكينا غيره
بانتظار "الحل الشامل"؟ |