الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

اقرأ المزيد...

 

 

بقلم الكولونيل شربل بركات

   تورونتو - كندا 


الدور الضائع

تورونتو 5 نيسان 2008

 

هل صحيح أن اللبنانيين لن يستطيعوا التوصل إلى اتفاق حول يناء وطن مستقل بكل معنى الكلمة والعمل ضمن قوانين اللعبة الديمقراطية؟ ولماذا؟...

مرّ لبنان الحديث منذ ما بعد الإمارة الشهابية بنظام شبه ديمقراطي (المتصرفية) رعته الدول الكبرى يومها في ظل الوصاية العثمانية. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لينقض الأتراك فيها كل الاتفاقات وينتقموا من هؤلاء الجبليين الذين عاندوا السلطنة وسلطتها المباشرة، بشكل أو بآخر، مدة ثلاثة قرون. فجرت المذابح والمجاعات، وقتل من قتل، وتهجّر من استطاع، ولكن من بقي تمسّك برحمة الله وبإيمان عميق أن لكل ظلم نهاية حتى كان فجر جديد خرج منه "لبنان الكبير"، الذي جمع شتات الشعب المتنّوع المشارب والمذاهب، والذي وحّدته التجارب بحلاوتها ومرها، وشذّبه الطغيان بكل القساوة والظلم، ليفرض عليه التعاون والمشاركة وما نسميه التعايش.

 ونعم لبنان، في ظل الوصاية الدولية والانتداب الفرنسي، بفرصة من السلم الداخلي والخارجي، وتدرّب قادته على العمل الديمقراطي بالطرق الحديثة، وشبانه على إدارة المؤسسات وتنظيم الدولة. ولكن الحرب العالمية الثانية، والتي دفعت بالنظريات القومية إلى ساحته وعكست الصراعات الأوروبية، سرعان ما غيّرت أماني الناس وطموحاتهم، وبدأت بإشغالهم عن الإنتاج وإيقاعهم في دوامات الجدل السياسي التي لا تنتهي، فقد احتل الألمان فرنسا وانتشرت في لبنان الحركات الفاشية وانتقلت عبره إلى سوريا وفلسطين لتبدأ صراعات غزّتها أحيانا المخابرات الألمانية لتقلق الإنكليز وتلهيهم عن المواجهة التي كانت قائمة على الحدود بين فلسطين ولبنان أو بين مصر وليبيا. ولكن ما أن احتل الإنكليز لبنان في 1942 حتى طلبوا انسحاب الفرنسيين في 1943 لينال لبنان استقلالا غير ناضج وحركة سياسية غير متوازنة، ولو أنها تميّزت بالتعاون بين مختلف الفئات في ما سمي بالميثاق الوطني الذي حدد حياد لبنان عن القوى الإقليمية أو العالمية على السواء، ليحاول اللبنانيون استغلال فرصة انتهاء الحرب للنهوض بالبلد نحو التقدم والاستقرار وتكملة عملية الشعور بالانتماء الوطني.

 وينضم لبنان إلى جامعة الدول العربية كأحد الأعضاء المؤسسين، بهدف المساهمة في استقرار المحيط من حوله وتحصين الاستقلال بتبادل الاعتراف مع جيرانه والتعاون فيما بينهم. ولكن هذا الانضمام يكلّفه عبئا ثقيلا تمثل بمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين نتيجة أحداث فلسطين في 1948 في حين لم يفرض على سوريا الاعتراف باستقلاله وترسيم الحدود النهائي بينهما وتبادل العلاقات الديبلوماسية معه.

 ثم يبدأ الصراع الداخلي على السلطة، وشيئا فشيئا تدخل عدوى المنطقة إلى اللعبة اللبنانية، وهي تتمثل بالرفض لكل مختلف من جهة، والتمسك بالسلطة حتى القمع أحيانا. وبما أن الرئيس هو رمز البلد والمؤسسات، كانت المشاكل تطفو على السطح عند كل عملية انتخاب لرئيس جديد، حتى أصبح اللبنانيون يهابون موضوع انتخاب الرئيس، وصارت الأمور تبدو وكأنها موجهة ضد الموقع الماروني في لعبة توزيع الأدوار. وهكذا ينفجر الصراع في 1958 مع المد المصري لثورة عبد الناصر التي تذكرنا بكل الفتوحات القادمة من الجنوب من رعمسيس إلى الفاطميين والمماليك والتي كان آخرها محاولة إبراهيم باشا زمن الأمير بشير الثاني، ولكن التدخل الأميركي يحسم الوضع لصالح لبنان، ثم يخرج السوريون عن الوحدة مع مصر ويبدأ عندهم مسلسل الانقلابات، فيستفيد منه لبنان بهدوء داخلي يتم خلاله بناء المؤسسات وتنظيم الإدارة وفرض السلطة، وتعود اللعبة الديمقراطية إلى الساحة، وتشهد البلاد تحالفات متعددة ومتغيّرة تؤدي إلى مزيد من الاستقرار والنمو الاقتصادي. ولكن سوريا الأسد، والحرب الباردة بين الشرق والغرب، تدفع بعرفات وثورته إلى لبنان فتتغذى على الحرية والتنوع والشعارات الكبرى لتقلب الشارع اللبناني وتبدأ الفوضى من جديد.

 ولكن لبنان لم يسقط بسهولة، بالرغم من ثلاثين سنة من القتال على شتى أنواعه، ويبقى البلد بكل فئاته، بالرغم من تصارعها، قادر على العيش ولو في ظل العنف والحروب. ولكن عند انتخاب رئيس جديد، وكرمز للبلد، تخلق المشكلات، حتى بعد أن خفّضت صلاحيات هذا الرئيس لصالح رئيس مجلس الوزراء أو مجلس النواب. ولم يفهم اللبنانيون بعد بأن تنوّع المشارب والمذاهب هي من صلب طبيعة هذا البلد، ولن يقدر أحد على تغييرها ولا على طلائها بأي لون غير لون لبنان لأنه أصبح يعني التنوّع. ولكن التنوّع بالذات يحتاج إلى الديمقراطية كطريقة حكم، ويحتاج إلى طول بال وعدم تسرّع، فاللبنانيون لن يجمعوا أبدا على شيء، وهذا حسن لأن الإجماع لا يمكن أن يكون كاملا وهذا ما يدعو إلى الأخذ برأي الكل، ولكن الاختلاف والتنوّع لا يجب أن يؤدي إلى شل البلد ووقف الحياة.

 اليوم تغيّرت الطروحات وتغيّرت المواقف، فقد قبل الموارنة بالعروبة، وإذا بالشيعة الذين قاتلوا من أجلها، يرفضونها ويلتصقون بالفرس أعداء العرب، ولا عجب أن يلتصق بعض السنة غدا بالأتراك مثلا، ولما لا فمنذ الحثيين والفراعنة والفرس والروم وبعدهم العرب ونحن نتأثر بهذا الجانب من الجيرة أو ذاك، وإذا لم تكن مصر كانت تركيا أو إيران أو السعودية، ولكن لن يقتصر الكلام على هؤلاء الجيران فقط فمن يمنع الأرمن مثلا من الارتباط بدولة أرمينا أو الأرثوذكس بروسيا أو الدروز بإسرائيل أو بالهند أو الصين... ففي القرن الماضي عندما كان السنة يعتبرون أتراكا كانت فرنسا حامية الموارنة وكانت النمسا حامية الروم الكاثوليك وروسيا حامية الروم الأرثوذكس وإنكلترا حامية الدروز.

 هذا الكلام الذي قد يعتبره البعض بعيدا عن المنطق هو المنطق بعينه، فلا أحد يكفل أن استعمال القوة والضغط والقهر والإرهاب سوف يجعله، في هذا العالم المنفتح، قادرا على فرض رأيه الضيّق والمتحجّر على الغير، ويبقى التعاون والقبول بالآخر والانفتاح على الكل والتمسك بأصول اللعبة الديمقراطية هو الحل، فلا يمكن أن يبقى لبنان وحده رافضا للصلح مع إسرائيل في وقت تم فيه قبولها شريكا في هذه المنطقة من قبل أكبر دولها. ولا يمكن أن تفرض مصالح إيران وسوريا أن يبقى لبنان ساحة صراع دائمة ولو استفاد فريق من اللبنانيين من ذلك. ولا يمكن أن يبقى البلد بدون راس أكثر من اللزوم لأن للديمقراطية حدودها وأصولها وإن تخلخلت الموازين لا يمكن التكهن بنتائجها.

 لبنان باق لا شك حتى ولو قسّم إلى إمارات ومناطق، وحتى لو احتلته جحافل البرابرة والمغول، وسرّ قدرته على البقاء كسرّ قدرة البشر على التكيف مع الظروف والمشاكل في كل بقعة من العالم، ولكن لماذا يبقي اللبنانيون مصيرهم معلقا بقرارات الغير؟ ولماذا لا يخترعون صيغة تعطي كلا منهم الطمأنينة بأنه لن يفرض عليه شيء ولكنه بالمقابل يجب أن يعترف بأنه لن يقدر أن يفرض هو أيضا رأيا على الآخرين أو تصرفا مهما اختلفت الشعارات والأهداف. يبقى أنه لو لم يستطع اللبنانيون أن ينتخبوا رئيسا اليوم فهل سيقدرون على إجراء انتخابات نيابية؟ وهل سيقدرون أن يعينوا موظفا؟ وإذا لم يستطيعوا أن يستمروا في إدارة البلاد فهل يأمنوا أن يتركهم الغير بدون تدخل؟

 دور لبنان في هذا الشرق مهم جدا لكل المقهورين فيه، ومهم جدا لكل الطغاة أيضا، فليعلم الكل بأنه يجب الإبقاء على ملجأ أمين في هذا الشرق لكل الفئات، وهذا الملجأ كان دوما وعلى ممر العصور هو لبنان، وخير دليل على ذلك تنوّع شعوبه. فلنتعظ ولنعرف أهمية هذا البلد، ولنسهم في استمراره بالقيام بالدور المطلوب منه، وهو ليس دور القاهر بل دور الحامي. فهل نضّيع دورنا لأننا لم نعرف كيف نحافظ عليه؟ أم أننا سوف نقوم من جديد وعلى طريقتنا اللبنانية بانقلاب أبيض يغيّر المفاهيم سريعا ويبدّل الواقع ويعيدنا إلى دورنا الطبيعي، فننتخب رئيسا بدون عقد، وننتخب نوابا بدون خوف، ونعيّن حكومة تسعى، ككل الناس، لخير الوطن والأمة، فنشعر بالوحدة التي تميّزنا، وننعم بالأمان الذي يظللنا، ونسهم في حلحلة أمور الناس بدل أن نشغل الناس دوما بحل مشاكلنا؟

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها