أعزائي القرّاء والقارئات
فيما يلي
ورقة أقدِّم خلالها الإجابة عن سؤال طرحه الشاعر
محمد حلمي
الريشة حول: الاشراقة الشعرية، حيث قدّم ملفّاً حول هذا الأمر ونشره في
موقع
إيلاف ثم ضم شهادات المساهمين في كتاب خاص.
إليكم
تساؤله ووجهات نظري حول الاشراقة الشعرية الأولى!
.......................................................................................
شهادة عن الاشراقة الشعريّة
عزيزتي
الشاعرة المبدعة / عزيزي الشاعر المبدع
تحية المودة
والإبداع الجميل ،،
وكل وقت وأنت
بكل خير وشعر ..
إنني بصدد
العمل على دراسة حول اللحظة الأولى للقصيدة، أي لحظة الإشراق الأولى، فكما
قال الشاعر بول فاليري: "تَهِبُناَ
الآلِهَةُ الْبَيْتَ الأَوَّلَ بِظُرْفٍ وَدوُنَ مُقاَبِلٍ؛ أَماَّ الْبَيْتُ
الثاَّنيِ فَعَلَيْناَ صَنْعَتُهُ."، فإن للحظة البرق
الأولى أهميتها في انطلاق النص الشعري في فضائه، أو ربما تختفي تلك الومضة
دون أن يقبض عليها الشاعر/ ة.
برجاء تزويدي
بشهادتك عن تلك اللحظة، شاكراً لك هذا سلفاً، ومقدراً إبداعك الشعري..
وإرفاق صورة
شخصية
بمودة واحترام
،،
محمد حلمي
الريشة
(شاعر من
فلسطين)
المسؤول
الثقافي في جريدة "الحياة الجديدة"
.............................................................................
الاشراقة الشعرية
بقلم: صبري
يوسف
اللَّحظة
الشِّعرية، الومضة الشِّعرية، لحظة الاشراق، حالة خاطفة مثل وميض البرق، كيف
تولد هذه الومضة الاشراقية الخاطفة، كأنها مندلقة من ذيل نيزك في رحاب
السَّماء؟!
حول تجربتي
في كتابة الشِّعر، وردّاً على تساؤلِكَ حول الومضة الشِّعرية الأولى، أودّ
التوقّف عند الشِّعر كحالة إنسانية تتجلّى فيها المشاعر بأرقى تجلِّياتها،
فالومضة الأولى لا تأتي هكذا بشكل خاطف بل هي عبارة عن تراكمات وعناقات
انصهارية مع الشِّعر، والشَّاعر هو حصيلة معارفه وثقافته وطموحه وعوالمه
وطفولته وتطلُّعاته وتجربته الطَّويلة في الحياة.
من خلال
مراجعتي لكتابات المرحلة الأولى من تجربتي في كتابة الشِّعر، لاحظت أن أغلب
النّصوص الشِّعرية التي كتبتها في المرحلة الأولى كانت مفتعلة وكأنّها وظيفة
شهرية أو اجتماعية أو الخ من الوظائف التي لا ترقى إلى مستوى الشِّعر، لهذا
بعد أن عبرتُ تلكَ المرحلة، راجعتها بدقّة ووضعت نفسي على المحك الشِّعري أو
اللَّحظة الشِّعرية الإبداعية، وجدت أن أغلب نصوص تلك المرحلة تفتقر لهذه
الومضة الشِّعرية المصحوبة بمشاعر إنسانية صادقة وعميقة، لأنه سرعان ما كان
يخفت بريقها، لأنها كانت لمناسبة ما، لحالة غير إنصهارية مع الذَّات الهائمة
والتوَّاقة إلى فضاءات فسيحة متناغمة مع المشاعر الإنسانية الراقية بعيداً عن
الرؤية الضيّقة والخطابات الجَّوفاء، لهذا أسقطت أغلب كتابات المرحلة الأولى
وأحرقتها وأعتبرتها بمثابة التدريب على تطويع الحرف! والسؤال المطروح الآن،
هل تمَّ فعلاً تطويع الحرف بعد هذه المرحلة؟!
لا أظنُّ أنّه
بالامكان تطويع الحرف في أيَّة مرحلة من المراحل، سواء في البداية أو في
نهاية النِّهايات، لكن الحرف يتناغم في كلِّ مرحلة مع المبدع بطريقة تناسب
حالاته الإبداعية ولكن الحرف يبقى متمرّداً عصيّاً عن الانصياع والتطويع وهذا
ما يجعل المبدع دائماً في اندفاع محموم بحثاً عن الأجمل والأبهى، وغالباً ما
نكون مبتهجين ومنتعشين لحظة ولادة النصّ ولحظة اشراقة بريقه وخلال عملية
تفريغ جموحات الحالة الشِّعرية، لكن سرعان ما نجد أنَّ كلّ هذا البريق
والحالة الاشراقية، تخمد فيراها المبدع وهو في حالة استرخائية، أنها تفتقر
إلى تحليقات أعمق ورؤية أكثر إنسيابية وشمولية و .. ولكن هذا لا يقلِّل أبداً
من أهمية اللَّحظة الاشراقيّة واندلاع الومضة الشعريّة الأولى، لهذا أودُّ
هنا التوقّف عند هذه الحالة والتي تعتبر من أهم ما ينتاب المبدع، فكم من مرّة
شعرتُ وأنا في طريقي إلى العمل أو في مكان عام أو في لقاء ما مع صديق أو
أتمشَّى في الطَّبيعة متمتِّعاً بالطَّبيعة أو في حالة استرخاء أو في
الدَّوام أو أحضر فيلماً أو نشرة أخبار، شعرت بعشرات قل مئات الحالات التي
تشبه غمامة إشراقية فلا أتمكّن من الإمساك بالخيط الومضوي ولا أتمكّن من
التقاط حتّى جزء بسيط من لحظة الاشراق ولا حتى بالفكرة فتتوارى في طيَّات
الغمام ويعتريني شعور بالألم والخسارة لأنني لم أتمكَّن من الإمساك بلحظة
الاشراق، فتتنحّى في عوالم الذَّاكرة ربّما تتحيّن الفرص للظهور في لحظة
اشراقية أخرى، لكن السّؤال هل ستتكرَّر الحالة بكل تفاصيلها وخصوصيتها
واشراقتها؟!
يستحيل أن
تتكرر بحذافيرها لكنها ممكن أن تكون أعمق من اللحظة الأولى المتوارية وربّما
تكون أقل عمقاً، هذا يتوقّف على مدى الحالة الاشتعالية التي ترافق المبدع
وكيفية الوصول إلى اللحظة الاشراقية، وعندما تبدأ الحالة بالظهور أحاول أولاً
وأينما أكون أن أمسك بالخيط الشِّعري المصاحب للحظة الاشراقية، فأضرب مثلاً،
فيما كنتُ أصعد القطار الدَّاخلي من محطّة سندوبيبيري متّجهاً نحو يوردبرو
إحدى ضواحي استوكهولم، فجأةً وجدتني أبحث عن قلمي وقصاصاتي المهيّأة لأية
حالة إشراقية مهما تكن عابرة أو بسيطة، لم يكن هناك مقعداً شاغراً للجلوس
عليه، وما فكَّرتُ أصلاً بالجلوس، كلّ تركيزي توقّف أن أخرج من جيبي قلمي
وقصاصاتي التي طويتها بطريقة يسهل الكتابة عليها وحَمْلها في أيّ ظرفٍ كان،
كنتُ واقفاً في الفسحة الصغيرة، ولحسن حظّي كان القطار مملوءاً بالرُّكاب،
لأنَّ هذه الكثافة ساعدتني أن أستغني عن الامساك بأطراف المقاعد أو بالأنبوب
الحديدي المخصَّص للواقفين، كي يحافظوا على توازنهم أثناء سير القطار، وهكذا
كان الرّكاب قد حافظوا على توازني وقوفاً لأنَّني كنتُ مسنوداً بهم من كلِّ
الجوانب وكأنّني مثبّت على مقعد أو في عامود! ما كنتُ في لحظات الاشراق، أشعر
بوجودهم ولا بالضجيج ولا بوقوف القطار، جلّ تركيزي ظلّ متمحوراً في كتابة ما
يعتريني من تحليقات شعرية وبدأتُ أكتب وأكتب، وصل القطار إلى مركز المدينة
وتوقّف للحظات، نزل أغلب الرّكاب، توجّهتُ إلى معقدٍ خالٍ في ركنٍ قصيٍّ،
وأنا أكتب وأكتب، ولا أتذكّر كيف ومتى جلستُ، الشَّيء الوحيد الذي أتذكّره
انني كنتُ غائصاً في الكتابة، فلم تكن لحظة إشراقية بقدر ما كانت حالة
إشتعالية، فاللحظة الاشراقية ليست كافية لانتاج نصّ شعري بل هي الشّرارة، لكن
الاشراقة ربما تستمر ويشعر المرء وكأنّه مختطف إلى عالم ما، لا يشعر
بالموجودات حوله وينصهر مع عوالم الفكرة وتفرُّعاتها ويكتب ويكتب ويصبح أسير
إشراقاته، وهكذا تابعت الكتابة إلى أن وجدت نفسي في محطّة مركز المدينة، كان
القطار قد توقّف منذ لحظات! آنذلك نظرت حولي، وإذا بجهة القطار عكس الضاحية
التي أقصدها، فسألت إحدى الجالسات على مقربة منّي، ألا يذهب القطار إلى
يوردبرو، فقالت لا، هذا القطار آتٍ من يوردبرو، وقبل أن ينطلق بثوانٍ لملمتُ
قصاصاتي وحقيبتي ونزلت من القطار، كي آخذ القطار المتّجه نحو مقر عملي!
ضحكتُ في سرّي
فيما كنتُ أقلب القصاصات التي كتبتها، وعرفتُ أنني وصلت إلى محطة مقرّ علمي
في القطار الأول، وتابعت إلى نهاية الخطِّ وهناك توقّف القطار بضع دقائق وأنا
كنتُ غائصاً في عوالمي، وعاد ومرّ مرّة أخرى على يوردبرو حيث أعمل هناك وتابع
مسيره إلى مركز المدينة، عندها كنتُ على مشارف نهاية النصّ، وإذ بي اكتشف
أنني كنتُ في حالة اشراقية غليانية ولا كل الحالات، إندهشت عندما قرأت
القصاصات التي كتبتها، كنتُ أشعر بلذّة غريبة وعميقة عندما كنتُ أقرأ
تحليقاتي، شعرتُ وكأن شخص آخر في حلمٍ عميق كتبَ ما أقرأه، آنذاك تيقّنتُ
أنَّ اللَّحظة الشِّعرية، أو الومضة الشِّعرية أو الاشراقة المجنّحة ممكن أن
تهيمن على عوالم المبدع فيصبح أسير حالة إنسيابية كهطول المطر، وتأكّدت أن
الكتابة حالة إبداعية وهذه الحالة لا بدّ أن تتجلَّى في لحظات اشراقية جامحة
كي تأتي غير مفتعلة ومنبعثة من الأغوار العميقة حيث خميلة الرُّوح تحلّق بين
ضياء السَّماء بحثاً عن نقاوة الحرف وشهقة القلب وجموح الرُّوح، بعيداً عن
تقعُّرات النّصوص المركّبة من أعوجاجات هذا الزَّمان!
ليس من
الضّروري أن تكون الاشراقة الشِّعرية الأولى، أبهى ما لدى المبدع، فبعد
الاشراقة الأولى ربّما يحتاج النصّ إلى صياغات جديدة كي يعطي إضاءات وإضافات
لم يتمكّن من التقاطها لحظة الاشراقة الأولى، لهذا فالخيط الأول المندلع خلال
الاشراقة الأولى مهم للغاية لكن ربما تكون الخيوط الأخرى لحظة الصياغات
النهائية أجمل وأعمق حتى من الأولى، وكم من مرّة كنتُ أكتب ومضات شعرية وأعود
إليها لمعالجتها وإتمامها وإذ بي أجدني قد امسكتُ بخيط جديد ليس له علاقة
بالنص الاشراقي الأول بل ولّد عنه اشراقة جديدة أخرى فتوارى النصّ الأول وولد
نصّاً جديداً اكثر إشراقاً أو باشراقة مغايرة تجمح نحو عوالم كانت محفورة في
خفايا المخيلة والرُّوح لكنها ما كانت تجد الفرصة المناسبة للظهور، وهكذا
فاللحظة الشعرية لا يمكن ترقبها فتأتي بشكل مباغت، ربّما من خلال لحظة سابقة
عنها ومن خلال كلمة أو فكرة أو حالة، وخلاصة القول، اللحظة الشعرية
الاشراقية، هي عبارة عن بؤرة مسترخية في عوالم المبدع، غافية تحت ظلال الروح
والخيال لكنها متوارية عن الأنظار وتحتاج إلى شرارة تخرجها من كوامنها
العميقة وهكذا فالمتخيل الإبداعي برأيي له علاقة بالمتراكمات المتعانقة مع
الذاكرة البعيدة والمتنحية أحياناً والمتوارية تحت قبة الخيال أحياناً أخرى،
فتبقى بعيدة عن شرارات الاشراق للكثير من الأسباب، والإبداع كحالة إنسانية
راقية لا يخضع لأية قوانين سوى قانون خرق القوانين الصارمة، الجامدة،
المتخشّبة، خرق ما لا يمكن خرقه بروح إنسانية راقية بعيداً عن مبدأ خالف
تعرف، لأن المبدع يرى في الكثير من الأحيان أن القانون الذي يراه في بعض سنن
الحياة هو قانون صارم وغير خلاق لهذا فعندما يكتب، فانه يريد أن يترجم قانونه
هو على الورق، لأنه يريد أن يقدم قانوناً أرقى، قانون روحه ومشاعره
وإنسانيّته وعوالمه الخفيّة التي تطل على الحياة من خلال إشراقة كان هو نفسع
غافياً عنها أو غير قادر على كبحها لأنها إندلعت في حالة من حالات تجلِّي
الرّوح والخيال والمشاعر العميقة وهكذا فأنا أرى أن المبدع هو من حكماء هذا
العالم وأرى أن المبدع لو قاد العالم لقاده إلى بوّابات السَّلام والوئام
والخير الوفير! |