عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: نينوس صوما اسعد
سويد ستوكهولم


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثالث الثلاثون)

بين الموشّح العربي ومشوحتو

إتباع المعنى ام المبنى في تفسير الكلمات:

هناك ادعاءات باطلة لبعض السريان في ارجاع بعض التعابير الموسيقية والشعرية اليونانية والعربية الى أصل سرياني، مثل كلمات موسيقا وموشح وحجاز، الخ. فيدّعون ان كلمة "موشح" مأخوذة من "مشوحتو" ܡܫܘܚܬܐ السريانية، و"موسيقا" من كلمة "زاغو" ܙܰܓܳܐ السريانية، و"حجاز" من كلمة "حاغو" ܚܰܓܳܐ السريانية، ويفسرون معانيها واصولها كما تقتضيه أهوائهم دون تقديم أي سند أو إثبات، وأما براهينهم على صحة اقوالهم هي الإعتماد على تشابه لفظ الكلمات فقط.

وقد انتشر الإدعاء بان كلمة "موشح" هي من "مشوحتو" السريانية على مواقع النيت، وتناقلها البعض دون تفكير وتحقيق، وكل من نقلها نسب هذا "الاكتشاف" لنفسه وكأنه قد اكتشف كوكباً جديداً.

ولهذا جاءت فكرة توضيح هذا الخطأ، بهدف المحافظة على لغتا وتراثنا وتاريخنا وموسيقانا وكنيستنا كما ورثناهم ومنعاً للتشويه والضياع، وليس كما يشتهي البعض أن يكونوا. فإن كانت كلمة موشح عربية الأصل وغير مأخوذة من "مشوحتو" فلن تسقط اللغة السريانية من عليائها وتندثر.

الموشحات

الموشح بالعربية تعني المرصّع (المزركش بالدارجة) وكثير الألوان، وأطلقت هذه الكلمة على نوع من الشعر العربي للتعددية في أوزانه وقوافيه. وقد أبتُكِر في اسبانيا على يد العرب الأندلسيين نتيجة تأثّر الشعر العربي بالطبيعة الاسبانية، فتبدّلت أدواته واصبحت خضراء مشابهة لطبيعة الاندلس الجميلة، فخلق نوع جديد من الشعر العربي وسمّي بالموشح، وهو نوع جميل وسهل ممتنع، يتميّز بأن ناظمه لا يتقيّد بقافية واحدة او وزن واحد. وهذا النوع من الشعر لم يستحدث في مدينة الموصل كما يقال، ولا جذوره قادمة من الصحراء العربية. فالشعر العربي الصحراوي قد مرّ بمراحل تطور عند إنتقاله الى العراق والشام ثم الى الاندلس.

قيل على لسان  مؤرخي العرب بأن مخترع الموشحات في الأندلس كان شاعراّ من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المروان، اسمه مقدم بن معافر الفريري (القبرى) في القرن الحادي عشر الميلادي. وأكّد رواة العرب بأن كلمة موشّح تجمع على موشّحات أو تواشيح، هي مشتقة من فعل "وشّح" بمعنى زيّن أو حسّن أو رصّع. وسميت بالموشحات لما فيها من تزيين وتنميق ولأنها تشبه الوشاح بأشكاله وتطاريزه الذي تتزين به النساء. وأجمعوا على انها لا تخرج عن كونها نوع من النظم، وأن فنّها من فنون الشعر العربي.

- ويقول صاحب "لسان العرب" أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرَّم ابن منظور الإفريقي المتوفي 1311م: "الوشاح كان يُنسج من أديمٍ عريض ويُرصّع بالجواهر، وكانت المرأة تشدّه بين عاتقيها وخصرها"، ويقال توشّحت أي تزيّنت.

- وقال ابن خلدون المتوفي 1406م في الموشح: "وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنسيق الغاية، استحدث المتأخرون منهم فناً سموه الموشح ينظمونه أسماطا أسماطا، أغصانا أغصانا، يكثرون من أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان".

تعد الموشحات ثورة على الشعر المقفى التقليدي الذي يخضع لقيدي الوزن الواحد والقافية الواحدة. وتميزت بتحرير الوزن والقافية وبترصيع أبياتها بفنون صناعة النظم المختلفة من تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافي جديدة تكسر ملل القصائد. وأما تلحينها فهو مغاير لتلحين القصيدة العمودية، ففيها تغيرات كثيرة، والهدف منها الإكثار من التشكيل والتلوين. ويمكن تلحين الموشحات على أي وزن موسيقي كان. لكن عرفت لها موازين خاصة بها وأغلبها طويلة ومتعددة ومنها قصيرة ايضاً، وهي غير مطروقة في القصائد وأشكال الغناء الأخرى، وعرفت ضروب هذه الاوزان بإيقاعات الموشحات. وتمركزت الموشحات الاندلسية بعد خروج العرب من اسبانية ببعض مدن المغرب العربي والقاهرة وحلب والموصل.

القدود

القدود منظومات غنائية أنشأت على أعاريض وألحان دينية أو مدنية، بمعنى أنها بُنيت على قد (قياس)، أي على قدر أغنية شائعة، إذ تستفيد من شيوعها لتحقق حضورها، ومن هنا جاء اسم القد.

ويقال بأن هذا الفن نشأ في الأندلس ثم انتقل الى حلب وحمص ودمشق. لكن حلب حافظت عليه وعلى الموشحات الاندلسية واشتهرت كثيراً بصناعته، ولهذا يقال القدود الحلبية.

والقد في اللغة هو القامة والمقدار والمقاس، واصطلاحآ هو أن تصنع شيء على مقدار شيء، وشيء على قد شيء في الإيقاع والموسيقا وما يوافقهم.

وأما القد الموشح يكون عادة مبنياً على نظام الموشح القديم من حيث الشكل الفني وبصياغة جديدة.

المداريش السريانية ܡܰܕܖ̈ܳܫܶܐ

"المداريش" لفظة سريانية معربة ومفردها "مدراش" وتلفظ بالسريانية مَدروشهِ ܡܰܕܖ̈ܳܫܶܐ للجمع ومَدروُشوُ ܡܰܕܪܳܫܳܐ او مدراشا للمفرد. والمَدروشهِ نوع من النظم السرياني مركبة من دعائم مختلفة وكثيرة الاوزان ولا ضابط لها ولا قوالب تحجزها ولا قافية تحكمها. فقد استعمل الشاعر السرياني الكبير مار افرام (توفي عام 373)  اكثر من خمسين وزناً في مداريشه.

وللمدراش جذور آرامية قبل السيد المسيح كأشعار الناظم وافا الآرامي، وجذور دينية توراتية عند اليهود مثل مزامير داود. ويعود تاريخ المدراش السرياني الكنسي الى القرن الثاني والثالث الميلادي، فأشتهر فيه برديصان الآرامي 222م وابنه هرمونيوس الرهاويين. وابدع فيه أفرام النصيبيني 373م، فألف الكثير منه، ففي عصره تُرجم الكثير منه الى لغات أخرى مثل اليونانية والارمنية. وقد سار على طريقه الكثير من آباء شعراء وادباء الكنيسة الأوائل فأغنوا الأدب السرياني.

هناك قالب شعري سرياني آخر من أعمال الكنيسة شبيه بالمدراش يسمى "قوُلهِ" ܩܳܠ̈ܐ، و"القولهِ" هي اناشيد لها صفات مشابهة للمداريش مثل الاوزان المختلفة وبدون قوافي وضوابط تربطها.

وأما قالب المداريش السريانية شبيهة بقالب الموشحات الاندلسية العربية من ناحية تعدد الاوزان والقوافي والزركشات التي تحويها. لكن المداريش السريانية تسبق الموشحات العربية بأكثر من ألف عام والعبرية بأكثر من ألفي عام.

وهذا رابط لدراسة قيمة ومهمة للاديب السرياني حنا الديراني من العراق حول الموشح واصوله وهي بعنوان: "الموشحات هل هي اندلسية المنشأ ام شرقية سريانية" حيث يؤكد فيها أن الموشح العربي يشبه المدراش السرياني واصوله سريانية. وهذا كلام منطقي جداً، لأن قالب المدراش السرياني يشبه قالب الموشح العربي.

http://www.ankawa.com/

موشحُوُثوُ ܡܘܫ̈ܳܚܳܬܳܐ مفردها ܡܫܘܚܬܐ

بعد مراجعة قواميس اللغة السريانية والعودة الى المختصين باللغة السريانية للتأكد ولنقل المعلومة الصحيحة، فكان لكلمة ܡܫܘܚܬܐ "مشوحتو" معاني أساسية وأخرى مجازية، فجذر الكلمة هو ܡܫܚ "مشح" الذي يعني قاس ومسح وهندس.

1- معنى كلمة ܡܫܘܚܬܳܐ مشوحتو "قياس"، وهو المعنى الحرفي لهذه الكلمة. وعندما نريد أن ننفي بقولنا: "بدون وزن او قياس"، فنقول بالسريانية: ܕܠܳܐ ܟܰܝܠܳܐ ܘܠܐ ܡܫܘܚܬܐ "دلو كَيلو ولو مشَوحتو".

وكل دلالات استعمالات كلمة "مشوحتو" تعني الأحادية في القياس وليس التعددية، فالكلمة هي للتأكيد على قياس واحد وليس على مجموعة قياسات. اي معنى الكلمة منافي للتعددية. وهذا أمر معاكس تماما ومناقض للكلمة العربية الموشح التي تعني الكثرة في الألوان والتعددية في القوافي الأوزان. ويقال تواشيح دينية لأنها متعددة الأشكال والأوزان الشعرية والموسيقية. إذاً لا نستطيع أن نطلق كلمة مشوحتو على الموشح لوجود تناقض في المعنى.

2- تستعمل كلمة ܡܫܘܚܬܳܐ بمعنى مسح، وخاصة بالمعنى الديني أي المسح بالزيت المقدس اثناء دهن المرضى أو اثناء تنصيب الملوك قديماً، ومنها أتت كلمة "المسيح" لكون السيد المسيح ممسوحا بالزيت الملكي.

3- وتستعمل الكلمة للدلالة ايضاً على قياسات هندسية.

4- تستعمل كلمة ܡܫܘܚܬܳܐ بمعنى قصيدة شعر، ويقال جمعاً ܡܘܫ̈ܚܳܬܳܐ اي اشعار او قصائد. وأطلقت الكلمة على كل أنواع الشعر السرياني وليس على قالب شعري معيّن، كما اشتق منها كلمة شاعر ܡܳܫܘܚܳܐ.

ولهذا لم تستعمل كلمة "مشوحتو" في كل الأدبيات السريانية الكنسية والغير كنسية كمصطلح موسيقي.

بين الموشح والمشوحتو والمدراش

كلمة موشح العربية اطلقت اولاً على قالب معين من الشعر العربي في الاندلس، ثم اطلقت بعدها على قالب غنائي. وقد خُلِقت كلمة موشح للتعبير عن قالب شعري بعد وجود كلمة مشوحتو بمئات السنين، وهذا لا يفترض أنها ترجمت او أخذت من مصدر كلمة مشوحتو السريانية، لأن الكلمتين لا تتفقان بالمعنى مطلقاً. وليس هناك مصدر عربي واحد او وثيقة واحدة تؤكد بأن كلمة موشح مأخوذة من مشوحتو سوى المغالطة الموجودة في ويكيبيديا الموسوعة الحرة العربية، فأقتبس الآتي منها: (يعتقد أن كلمة "الموشحة" تعود إلى اللفظة السريانية "موشحتا" (ܡܘܫܚܬܐ) أي بمعنى "إيقاع" أو "ترتيلة من المزامير". كما يعتقد أن الموشحات ظهرت في المشرق العربي وتأثرت بشدة بالموسيقى الكنسية السريانية حتى أن الردات في أقدم الموشحات كانت تحوي ألفاظا سريانية). إنتهى الإقتباس وهو موجود على هذا الرابط:

https://ar.wikipedia.org/

المشكلة في الإعتقاد السابق هو حقيقة مطلقة لدى البعض حيث يروجون بأن كلمة موشح هي ذاتها مشوحتو وكذلك الموشح كقالب غنائي ظهر أولاً في المشرق وفي مدينة الموصل/العراق بالتحديد مشتقاً من قوالب اشعار الكنيسة السريانية، ويدعون بان ملحنيه الأوائل كانوا من السريان مثل ابراهيم الموصلي وبرصوما الزامر وغيرهم، ثم انتقل الى الاندلس واشتهر هناك وكثر نظمه ثم عاد ثانية الى المشرق.

 إن ما ورد في الإقتباس من ويكيبيديا مع ما تناقله البعض من إدعاءات تظل مجرّد مجموعة من المغالطات لا علاقة لها بالحقيقة العلمية مطلقاً، لأنها غير مدعّمة بمصادر تاريخية ولا بوثائق لتثبت صحتها. فكما هو الملاحظ في الإقتباس أن الذي نقل الكلمة السريانية "مشوحتو" الى ويكيبيديا لا يتقن السريانية لأنه كتبها بشكل مغلوط (ܡܘܫܚܬܐ موشحتا) بدلاً من (ܡܫܘܚܬܐ مشوحتا)، وربما لا يعلم المعنى الحقيقي لهذه الكلمة واستعمالاتها التي شرحناها أعلاه.

لكن هذا لا ينفي ان يكون القالب الشعري للموشح قد تأثر بالمدراش السرياني من حيث المبنى وتعددية الاوزان والقوافي، وربما يكون الموشح العربي قد صيغ تقليداً للمدراش السرياني او العبري لكونهما اقدم منه.

لفظة "مشوحتو" السريانية تناسب "القد" العربي

هل تستعمل مشوحتو لأوزان الشعر لنطلقها على الموشح؟

نسأل بالسريانية عندما يكتب أحدهم شعراً، فنقول:

ܥܠ ܐܝܢܐ ܟܝܠܐ ܣܝܡ ܡܐܡܪܐ ܗܢܐ؟ عال أينو كايلو سيم ميمرو هونو؟. او ܥܠ ܐܝܢܐ ܟܝܠܐ ܣܝܡܐ ܡܫܘܚܬܐ ܗܳܕܶܐ؟ عال اينو كايلو سيمو مشوحتو هودي. بمعنى على أي وزن نظمت هذه القصيدة؟. وهنا كلمتا ميمرو ومشوحتو لهما المعنى ذاته وهو قصيدة. ولا نقول:

ܥܠ ܐܝܕܐ ܡܫܘܚܬܐ ܣܝܡ ܡܐܡܪܐ ܗܢܐ؟ عال أيدو مشَحوتو سيم ميمرو هونو؟. او

ܥܠ ܐܝܕܐ ܡܫܘܚܬܐ ܣܝܡܐ ܡܫܘܚܬܐ ܗܳܕܶܐ؟ عال ايدو مشوحتو سيمو مشوحتو هودي؟.

بمعنى على اي قياس نظمت هذه القصيدة؟. لأن كلمة ܡܫܘܚܬܳܐ بمعنى قياس لم تطلق على أوزان الشعر، إنما كلمة ܟܝܠܐ هي التي اطلقت على الاوزان الشعرية.

أما إن رغبنا اليوم في إستعمال كلمة ܡܫܘܚܬܐ موشحتو كمصطلح موسيقي، فأقترح أن تطلق على القالب الغنائي العربي "القدّ" لأن الكلمتين مشتركتين ومتفقتين بالمعنى. فالكلمة مشوحتو ܡܫܘܚܬܐ معناها "قصيدة وقياس" والقالب الغنائي "القد" معناه ايضاً "القياس"، فيكون بذلك اقرب قالب غنائي في العربية الى "المشوحتو" هو "القد" وليس الموشح، لهذا يجب ألا تطلق على الموشح بسبب اختلاف الكلمتين بالمعنى.

الخلاصة: إن الادعاء بأن الكلمات "موشح" و "موسيقا" وغيرها سريانية الاصول دون تقديم إثباتات وإقامة الدليل لهو معيب بحق انفسنا وبحق الآخرين. فهل يعقل ان نسرق إنتاجات الشعوب الآخرى وننسبها لأنفسنا؟!.

 الجزء الرابع والثلاثين

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها