الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء الحادي عشر)
الفرق بين النظامين اللحنيين
"اوكتوإيكوس" و"إكاديس (2)
في الإنشاد الكنسي
(1)
بعد أن وضَّحنا
في الجزء
العاشر
من مقالنا
الفرق بين النظامين اللحنيين "اوكتوإيكوس" و"إكاديس" في السلالم الموسيقية
من ناحية المقامات والأجناس ونوعيتها،
وبعد أن قمنا بالمقارنة التي تبيّن لنا من خلالها القواسم المشتركة بين
النظامين والفروقات التي يمتاز بها كل منهما،
نتابع في هذا الجزء الفرق بينهما في الإنشاد الكنسي وفي كيفية آداء
الألحان، ونبدأ أولاً في الكنيسة السريانية.
الإنشاد الكنسي
السرياني
(الآداء)
إن للألحان الكنسية أهمية كبرى ودور أساسي لا يُستغنى عنه قط في الكنسية
السريانية لما لهذه الألحان من تأثيرات جمّة
ومختلفة على المصلين،
فبالإضافة لكونها وسيلة تواصل مع الرب وبين المؤمنين،
فهي أيضاّ أداة
فعّالة لتهذيب الذاكرة وحفظها وعاملة في نفوس المؤمنين.
وتكتسب الألحان هذه الأهمية الكبرى في الكنيسة السريانية من خلال دورها في
إستقطاب الشعب الى الصلاة، ومساهمتها سابقاً في منافسة هياكل الوثنية
المليئة بالموسيقا، ومن
تأثير اللذة المتولدة من سماعها،
والإستعانة بها على النشاط في العبادة، وأيضاً من خلال تأثير التعبير
اللحني والصوتي اللذين يساعدا المصلي في تَفَهُّم معاني الكلمات الروحية،
والمقاصد الإلهية.
ولصوت الإنسان المنفرد أهمية خاصة وكبيرة في اَداء الألحان السريانية لأن
الموسيقا الكنسية تعتمد بكليتها على السمع، وعلى تناقلها شفهيا بالإعتماد
على الكتب الكنسية التي تحفظ نصوصها.
وأما الطريقة السريانية "طريقة كنيسة السريان الأرثوذوكس" في آداء الألحان
قائمة على قواعد وأسس عديدة وميّزات كثيرة، هي أركان رئيسية يُعتَمد عليها
في الإنشاد الكنسي، وفي الحفاظ على الألحان الكنسية، وعلى طرق واساليب
إنشادها، ومنها:
1-
البساطة
في التنغيم والأداء
وتسمى بالطريقة البسيطة في التنغيم لكونها:
1- لا تحوي على الفخامة في الآداء
2- لا تحتوي على التطويل في التنغيم
3- لا تحتوي على التعددية في الأصوات.
إنما تعتمد على البساطة والعفوية في الآداء، وليس على التنغيم والتطريب في
اللحن، فهذه الطريقة تتحقق بالإنشاد بواسطة إستخدام أنصاف السلالم
الموسيقية كما هو الحال في ألحان الكنيسة السريانية المكونة بمعظمها من
أنصاف السلالم الموسيقية والتي لا تعتمد كثيراً على السلالم الموسيقية
الكاملة مثل سلالم ألحان الكنيسة البيزنطية الكاملة التي لا تُحقِّق
الطريقة البسيطة في التنغيم، أو مثل سلالم المقامات الشرقية التي تنتج
التطريب للمستمع وتخرجه عن هذه الطريقة البسيطة في التنغيم.
وإني أقترح تسمية الطريقة البسيطة في التنغيم "بالطريقة السريانية في
التنغيم". لأن معظم الكنائس السريانية ذات الطقس السرياني تتميز بهذه
الطريقة، أي بالبساطة والعفوية في التنغيم، رغم ذهاب جوقات بعضها اليوم
إلى الطريقة الكورالية الاوروبية الحديثة في آداء الألحان أو إلى الطريقة
البيزنطية اللاتينية التي تسمى بالطريقة الغريغورية للإنشاد الكنسي.
والجدير بالذكر أن الكنيسة القبطية تعتمد إعتماداً كلياً على هذه الطريقة
في إقامة طقوس صلواتها، لكنها تضيف إليها عنصر مهم جداً هو خاصية التطويل
اللحني في كلمة واحدة أو في حرف واحد، وهذا ما يجعلها تتميّز عن بقية
الكنائس المشرقية.
2- الطريقة الشعبية في الصلاة
إن الطريقة السريانية البسيطة في الآداء والتنغيم هي الطريقة الشعبية أي
طريقة العامة من الناس في آداء ألحان صلوات الكنيسة السريانية. فالكنيسة
السريانية تمثل في هذه الحالة "كنيسة الشعب"، وليس "كنيسة الملوك والأمراء
والطبقات الحاكمة" كما هي الحالة في الكنيسة البيزنطية التي تعتبر قائمة
على فكرة الفخامة والعظمة في كل هيكليتها، أي الطريقة الملوكية في آداء
الألحان وإقامة الشعائر الدينية.
3- الهدوء والروحانية في الآداء
إن السريان ترجموا الآداء أثناء إقامة الصلوات
على أن يكون بخشوعية
وروحانية وهدوء شديد، وبطريقة تعبيرية وعلى أن تكون الطريقة:
1- حزينة وبكائية، وعلى أن تلعب العاطفة والمشاعر والأحاسيس دوراً كبيراً
في التنغيم وآداء الألحان.
2- هادئة ورصينة وخشوعية للوصول إلى الروحانية:
- يستبعد الزعيق والصراخ ورفع الأصوات أثناء آداء ألحان الصلوات.
- أن يكون التركيز على النصوص الدينية لفهم معانيها الروحية أثناء القيام
بآداء ألحانها، أكثر من التركيز على التطريب الذي يأخذنا إلى عدم التركيز
على معاني النصوص وإلى استعمال السلالم الكاملة في التنغيم، التي تأخذنا
بدورها إلى طريقة غناء المقامات الغير كنسية والتي تعتمد إعتماداً كلياً
على التطريب، فنخرج بذلك عن الطريقة السريانية البسيطة في التنغيم الأصيلة.
4-
المسكنة والتذلل في الآداء
يتم التنغيم بطريقة تحوي الكثير من التذلّل وإنكسار النفس وإنسحاق القلب
وتواضع كبير، وألّا يتحول الآداء لصراخ وزعيق، فَتُرفَع أصواتنا أمام حضرة
الله وعظمته ونصرخ بحضوره ووجهه كما يقال، وهو مخالف تماماً لمعاني النصوص
الدينية، لأنه يُعبّر عن الكبرياء المخالف لتعاليم السيد المسيح ولأمثلته
الحيّة التي ضربها لنا عن التواضع وأراد أن نتقيّد بها، لأن الكبرياء
سيبعدنا عن ملكوته السماوي الأزلي، وسيبعد حضوره عنّا.
ومن ميًزات هذه الطريقة: الإنشاد بتواضع وبقلب منسحق ومكسور، وبتذلل ومسكنة
وندامة، وببكاء وحزن عميق، ولجاجة في الصلوات والطلبات.
لقد ورد في موضع واحد في القداس الإلهي السرياني قول للكاهن: "لنصرخ ونقول
كذا وكذا...." ليرفع الشعب الصلوات والطلبات، وهذا القول مقصود منه هو
نوعية التعبير في الطلب من الله بلجاجة وإلحاح وإنكسار نفس وألم، ليدير
وجهه إلينا ويسمع أصواتنا وصلواتنا وطلباتنا، وليس المقصود منه الصراخ
بأعلى أصواتنا كما يعتقد البعض في حضرته. يبدو بأن هناك خلل في الترجمة إلى
العربية من النص الأصلي السرياني، فتحولت الكلمة والطريقة إلى صراخ، لأن
هناك قول قديم بالسريانية لأحد آباء الكنيسة تقول ترجمته بتصرف: " مثل ذاك
الثور الهائج في البراري الذي يصرخ بألم شديد، هكذا أصرخ وأقول يارب إرحمني
وأغفر لي كل خطاياي.
وكما أن ورود مرات قول الكاهن في الصلوات:" وبقلب منسحق (وبصوت يعبر عن
إنكسار النفس) نقول إرحمنا يا الله، أو كذا وكذا...."، هي خير دليل على أن
يكون آداء ألحاننا الكنسية بمسكنة وتذلل وتواضع.
وها إن ابن العبري يدعم بحثنا هذا في كتابه الإيثيقون حيث يؤكد على كيفية
الإنشاد بقوله:
"وجوب الترتيل بخشوع وبكاء، وبتذلل القلب وتأنيب الضمير وبتذكر المعاصي
ليرق القلب ويبكي المصلي".
ويقول أيضاً:
"روى أحد النسّاك: رأيت في الحلم أرتل
المزامير أمام داؤود فقال لي : أعجب منك كيف تعلمت الترتيل ولم تتعلم
البكاء، ألم تسمع أني غمرت في كل ليل فراشي، وبدموعي غسلت دثاري".
وقال مار اسحق الرهاوي والمعروف بالانطاكي (491م): "ناد بالطوبى لمن له
استعداد طبيعي للبكاء بدافع إرادي، فقد وجد من طبيعته عضداً لإرادته، ومن
كان له مجرد استعداد للبكاء فلا خير فيه، ولا تناد بالطوبى لمن كان فاقد
اللب". الإيثيقون ص 129.
والقصد هنا من قول مار اسحق الانطاكي هو غير مقبول البكاء لمجرد البكاء،
إنما يذهب المصلي الى حالة البكاء نتيجة لفهمه للمعاني الرهيبة للنصوص
الدينية التي تذكره بخطاياه وبأهوال القيامة.
أما لماذا البكاء في الترتيل فهو دليل على التواضع والخشوع والندامة
وإنكسار القلب والعدول عن الخطيئة، وعلى التذلّل والتمسكن أمام عظمة الله
ليتقبل صلواتنا.
إن القلب والروح وفهم النصوص يتحكموا كثيراً في آداء الألحان السريانية
وهذا واضح من الإرتجال الكبير المعبّرعن النص في البكاء والتذلّل وإنسحاق
القلب.
وهذا متّفق ومنسَجِم مع الطريقة الشرقية في تفسير الكتاب المقدس، وهي
اشتراك العقل والقلب والروح في التفاسير اللاهوتية، وخاصة في قضية ربط
العهدين العتيق والجديد ببعضهما.
5- النغمة الخادمة
من خلال درسي لجوهر الألحان السريانية الكنسية تبيّن لي بأن النغمة يجب أن
تكون خادمة مطيعة للمعنى وليس العكس، وذلك لسبب إدخال معنى النصوص الدينية
المغناة الى ذهن ونفس المصلي، لأن الصلاة هي مناجاة النفس البشرية لله
للإتحاد معه ومخاطبته ليستمع الى شكوانا وطلباتنا وألّا يدير وجهه عنّا.
ورغم وجود قاعدة في الكنيسة السريانية تقول في تطبيق الألحان على نصوص
عديدة متفقة في الأوزان الشعرية، إلا أن الألحان المختارة من نظام الألحان
إكاديس يجب أن تكون عادة مناسبة للحدث المعالج ومتفقة مع طبيعة النص، أي
التوافق بين طبيعة اللحن وطبيعة النص الشعري.
ولا يجوز تطبيق لحن من مجموعة لحنية ما "سيبَلثوُ" يحمل في جوهره النغمي
وفي نصّه الشعري الحزن والألم، على نص يتناول موضوعه الفرح والبهجة والسرور
مثل عيدي الميلاد القيامة.
وهذا يؤكد قولنا أن تكون النغمة خادمة مطيعة للمعنى.
6- إنشاد الصلاة بحكمة
بالإضافة لوجود توصيات من المجامع المحلية والآباء القديسين في أغلب
الكنائس لربط المعنى بالنغمة، أي أن تكون الألحان وطريقة إنشادها مناسبة
لمعنى النصوص الدينية، ليكون لإتحادهما معنى حقيقي يؤثر على القلب والعقل
معاً،
فهناك أيضاً توصيات على أن يكون إنشاد ألحان الصلوات بحكمة وروحانية مليئة
بالورع والتقوى ليكون الإهتمام موجهاً لمعاني النصوص الدينية وليس فقط إلى
اللذة الموسيقية الحاصلة من تطريب اللألحان.
وقد تحولت هذه التوصيات إلى قانون في الكنيسة البيزنطية الشرقية ينص على أن
يكون "اللحن والصلاة بحكمة وليس بلذة". لأن من يهتم باللحن فقط تستهويه
نغمته فينطرب وينسيه معاني الكلام الرباني فيخرج بذلك من روحانية الصلاة.
وتحياتنا لكم
الثاني عشر
|