عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

برديصان الآرامي

(154- 222م.)

بقلم: ألبير أبونا

ولد برديصان في الرها في 11 تموز سنة  154 م. من أبوين شريفين. وورد في كتابات ابن العبري أن أبا برديصان كان يدعى نوحاما وأمه تدعه نحشيرام. وقد يكون تسمية برديصان أتته تيمناً بنهر ديصان الذي كان يمر بالرها. وهناك تقليد يقول ان أبويه كانا أولا في حدياب ثم انتقلا إلى الرها، ولدى بلوغهما نهر ديصان رزقا هذا الولد. وفي سنة 163 هاجر برديصان مع ذويه الى مدينة منبج، عندما خُلع الملك معنو وارتقى العرش مكانه الملك وائل. ونشاً برديصان في صغره التي الديانة الوثنية وتفقه آدابها على احد الكهنة المنبجيين. ثم دان بالنصرانية التي اهتدى اليها في شبابه ودرس كتبها. وبعد ان تضلع من العلوم الدينية رُسم شماسا ( وربما كاهنا ايضا؟9 .

   وحينما استولى على الحكم في الرّها ابجر التاسع ابن معنو (179- 214 ) عاد برديصان الى الرها، حيث كان اليف طفولة ابجر امير الرها وحليف صباه. ويرتأي القديس ابيفانوس (الهرطقات، 56) ان برديصان هو الذي سعى في تنصر هذا الأمير. ومن وقف على تاريخ هذا الرجل يأنس من اخلاقه وميله حب الكبير والطموح الى الجاه العالمي. وقد قال عنه مار افرام: "كان روح العالم قد نفخ برديصان وخلبت لبه البهرجة والابهة". وقال عنه موس الخوريني (1): "كان برديصان رجلاً غيورا على مصالح النصرانية بذل مساعي الجد و اجتهد في إدخال الأرمن اليها". فنرى ان القديس افرام يظهره بمظهر المغرور، بينما موسى الخوريني يمثله لنا عندما كان على النصرانية الصحيحة قبل ان تجرفه العقائد الفاسدة. فقد شرع برديصان في بادىء الامر يكتب مقالات ضد الهرطقات. ولكنه سرعان ما انحرف في معتقدات فاسدة وتورط في نظريات مرقيون وفالنتينس. فكان مثلا يسمي الشمس أب الحياة والقمر ام الحياة، ويزعم ان ام الحياة في كل شهر يخلع النور لباسها وتدخل على ابي الحياة فيجامعها فتلد اولاداً يمدون العالم السفلي بالنمو والازياد (2). ولذلك فقد حذر رجال الكنيسة المؤمنين من تعاليمه التي كان يبثها وكأنها السم في الدسم . ويقال انه رحل في اوخر ايامه الى جبال ارمينيا واستقر فيها حتى وافته المنية. ويذكر ابن العبري (3) ان برديصان مات وكان له من العمر 68 سنة، وذلك في سنة 222.

كتاباته

   وضع برديصان كتبا شتّى لم يبق منها غير كتاب "شرائع البلدان" وفيه نقاش حول قضية القضاء والقدر، وهو اقدم نص بالآرامية الحديثة عُرف الى الآن بعد الكتاب المقدس. و لم يُعرف هذا الكتاب اولا الا من نتفتين ذكرهما اوسابيوس واقليميس، الى ان وقف كيوررتون الانكليزي Cureton)) على النف الآرامي في خزانة الكتب البريطانية، ومن ثم توالت ترجمات هذا الكتاب الى الللغات الاوربية. وقد نشره فرنسيس نو سنة 1907 بمؤازرة نولدكه في مجموعة غرافن (Graffin) بالآرامية واللاتينية (4) وعنوان الكتاب " شرائع البلدان"(................). ومن تصانيف برديصان الضائعة كتاب في الفلك ذكره جرجيس اسقف العرب (5) ومئة وخمسون نشيداً طريقة مزامير داود النبي. وقد قال عنها القديس افرام الذي ذكرها ان برديصان ضمنها مذهبه الغنوسي ولقنها الشبيبة الرهاوية بعد وقعها على الحان مطربة تخلب الالباب. وألف فرقة من الشباب ضمت الطبقة المثقفة الثرية من سكان الرها، وعرفت هذه الفرقة بالديصانية نسبة إليه. وهاكم على سبيل المثال ما قاله القديس افرام "ابدع برديصان الاغاني وجمع بينها وبين الانغام الموسيقة وألف الاناشيد وأدخل فيهاالاوزان، قسم الالفاظ اقساماً ووزنها اوزاناً، هيأ لسليمي الطوية سمّا نافعاً مغشى بالحلاوة، فلم يتمكن المرضى من انتقاء الدواء الناجع فيهم. حاول ان يتأثر بداود (النبي) ويتزيّن بجماله، صبا إلى ذلك المديح فألف مثله مئة وخمسين نشيداً" (6).

النص الآرامي:

لاشك ان برديصان كان من صدور الكتاب البلغاء عبقرياً وفيلسوفاً، وهو ابو الشعر الآرامي الحديث ولو ان صاحب اللؤلؤ المنثور يُنكر عليه هذا الفضل الكبير(7). وقد احتل الشعر بعده مكاناً واسعاً في الأدب الآرامي وتفرع الى اوزان شتى. وقد اعطى رينان Renan)) العالم الفرنسي الكبير وصفاً مؤخراً عن شخصية برديصان جاء فيه: "ان برديصان كان رجل المجتمع ، غنياً ولطيفاً وسخياً ومثقفاً حائزاً الحظوة في البلاط ومتبحراً في العلم الكلداني والثقافة اليونانية، وكأنه نومينس يحيط علماً بكل الفلسفات والأديان والشيع. اصبح مسيحياً وداعياً الى المسيحية مثل رسول. ولكنه كلما مر بأحد المذاهب المسيحية ترك فيه هذا المذهب صبغة خاصة، ولو انه لم ينتم الى احد منها بصورة رسمية. ونعرف انه اشمأزّ من مرقيون لصرامة تزهده. اما مذهب فالنتيس فقد استهواه لصبغته الشرقية و انكر قيامة الاجساد، وقال ان النفس لا تولد ولا تموت وليس الجسد الا آلة لما بصورة عابرة، وان يسوع  لم يكن له جسد حقيقي بل اتحد مع شبح" (8) ويظهر ان برديصان في نهاية حياته اقترب من الحقيقه، ولكنه في خاتمة الأمر لم تجتذبه الحقيقة الارثوذكسية. وبعد ان سحر جيله بدعوته اللاهبة وبمثله الجذاب وسحر شخصيته، صار عرضة للحرم الكنسي وعُدّ في مصاف الغنوسيين(9).

   اما كتابه "شرائع البلدان" فيحتوي على هذه الافكار الرئيسة - ان الانسان واقع تحت تأثير ثلاثة عناصر(..........) هي الطبيعة والقضاء والارادة . اما الطبيعة فهي خاضعة لشرائع لا تنغير. اما القضاء فهو السلطة التي خولها الله الوحيد و الخالق للكواكب لكي تغير اوضاع الحياة البشرية، وهذا التأثير يحدث عند الولادة. واما الارادة فهي الحرية التي تسمح بعمل الخير والشر في كل ما ليس محدوداً بالطبيعة والقضاء.

   وقد املى برديصان كتابه هذا على تلميذه فيلبس، كما تلقى افلاطون كلمات معلمه سقراط الاخيرة، او ان فيلبس نفسه هو الذي كتبه بين سنة 192 و226، إحياء لذكرى معلمه. وتطرق فيه المؤلف الى علة الشر الطبيعي والأدبي في هذا   العالم ، وكله دفاع عن الحرية. فالإنسان خلق حراً، والكواكب التي لها سلطة على جسده ليس لها اية قدرة على نفسه (10). ومن الجدير بالذكر ان في كتاب "شرائع البلدان" اول اشارة واضحة واكيدة الى وجود المسيحية في الرّها وما يجاورها من البلدان منذ نهاية القرن الثاني (11). والغريب ان هذا الكتاب الذي يدور فيه البحث عن القدر لا يعرف عند السريان بهذا العنوان بل بأسم "شرائع البلدان"، وذلك نقلاً عن عنوان الفصل المعقود. في هذا الكتاب في محاورة بين برديصان وتلميذه المدعو عويذا (.........). هذه المحاورة موجهة الى القيصر ابطونيوس الحمصي المعروف باسم "هيلوغبال" وذلك في نحو سنه 220. وقد نشر كيورتون هذا الكتان في لندن سنة 1855، ثم نشره العلامة فرنسيس نو في باريس وينسب إليه كذلك كتاب الفهرست(12) وكتباً اخرى لم تصلنا.

 ويصعب جداً تعيين نوع الهرطقة التي انجرف بها برديصان. غير ان هناك شهادات عديدة من الآباء والقديسين تنسب إليه الهرطقة. فلا بد انهم كانوا مطلعين على آرائه اكثر منا وكان في حوزتهم مستندات اتى عليها الزمان ومن الاكيد ان برديصان، كما قلنا، كان ينفي قيامة الاجساد. ولكن يظهر انه رجع في نهاية حياته عن افكاره الضالة واقترب من الحقيقة. وهو نفسه في مقطع ضد عبادة الكواكب، يقرّ بأنه كان سابقاً من المنتسبن الى هذا المذهب.

 

1.     التاريخ االأرمني 2، 66

2.     ابن العبري ، تاريخ مخير الدول، طبعة صالحاني، بيروت  1890 ص 125

3.     ابن العبري ، التاريخ الكنسي 1 عمود 47

4.     الجزء الاول، المجلد الثاني ب. س 1،2 ص 535-492

5.     ب. س. 1 24 ص 611 Patrologie Syriaque 1,2p.611-

6.     كتاباته المنشورة في روما سنة  1837 1843 ص 553: Duval, P 11-12

7.     اللؤلؤ المنثور، الطبعة الثانية، حلب 1956 ص 239

8.     Renan, Mare-Aurele, Paris 1882 P. 436-139

9.     R.Duval, Histoire d, Edesse, Paris 1892,P. 115-116

10. المخطوطة السريانية المرقمة 19 في مكتبة باريس الوطنية

11. ب. س. 2 ص 609-606

المراجع:

التاريخ الكنسي لاوسابيوس القيصري ، 4، 30

 سوزومين، التاريخ الكنسي 16،3

 تيودوريطس، التاريخ الكنسي 1، 22

 بيجان، سير الشهداء والقدسيسن 4  ص 431

 تاريخ ميخائيل السرياني، طبعة شابو باربعة اجزاء ، باريس 1899 – 1900 ،1 ص . 10

 ابن العبري، التاريخ الكنسي، طبعة ابيلوس ولامي بثلاثة اجزاء، لوفان 1872- 1877 ،1  عمود 47

 تاريخ مختصر الدول ، طبعة صالحاني ص 125

 نو، سيرة برديصان ، باريس 1897

 الشهرستاني، طبعة بولاق 1 ص 147

 روبانس دوفال، الادب السرياني ص 335- 340

 نو ، شرائع البلدان مع ترجمته الفرنسية، باريس 1899

 الباترولوجية السريانية 2 ص 490- 657

 ادي شير، تاريخ كلدو وآثور 2 ص 20- 22

 يوسف غنيمة في مجلة المشرق ص 12- 10

 شابو، الادب السرياني  ص 21- 22

 البطريرك افرام الاول برصوم، اللؤلؤ المنثور، طبعة ثانية، حلب 1956، ص 240

 رفائيل بابو اسحق، تاريخ نصارى العراق، بغداد 1948 ص 5 -6

 الدكتور مراد كامل والدكتور محمد البكري، تاريخ الادب السرياني من نشأته الى الفتح الاسلامي، مصر 1949 ص 7، - 65

 دي اوربينا ص 42 – 43

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها