عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

مقالات سابقة

وليد فارس : بروفِسور في العلوم السياسية

 

الوضع اللغوي للامة اللبنانية المسيحية

عن كتاب التعددية في لبنان

الدكتور وليد فارس 1978/01/12

ص 89- 92

اذا كانت اللغة العربية قد سيطرت على الشرق و طغت على لسانه، فالدولة اللبنانية منذ فجر استقلالها، فور دخول العرب، رفضت الشكل الجديد للفتح.

تكلم اللبنانيون اللغات الآرامية عند دخول العرب و تميز الموارنة باللغة السريانية و هي فرع للآرامية السورية. و كانت اليونانية و اللاتينية في المدن الساحلية.

و بسقوط الساحل و لجوء الاهالي الى الجبال، أصبحت الآرامية السريانية اللغة الوطنية الوحيدة لمسيحيي الشرق المستقلين. و استمرت هذه اللغة معبرة عن اللبنانيين طويلا، حتى تبدلت المعادلة في القرون الاولى من العهد العثماني.

و لكن حصارا عربيا قوياً قد حكم من حول الجبل. و الحصارهذا كان وسيلة جديدة لاخضاع الامة اللبنانية، لأن هذا الحصار كان اقتصادياً. فلم يتعامل التجار و السكان العرب المسلمون في المدن منذ القرن السادس حتى الصليبيين، مع الموارنة و المسيحيين الابشرط تكلمهم اللغة العربية.

و يروي أحد المؤرخين قصة تصور لنا واقع التعريب القاسي الذي عاناه لبنان عدة قرون: "يهبط فلاح لبناني من الجبل حاملا معه إنتاج اشهر عدة من العمل الشاق في الوديان و القمم، يحاول بيع ما جلبه الى أهل المدينة العرب. يتكلم الفلاح مع تاجر بالسريانية، فيرد التاجر عليه بالعربية أولا يرد قط. و يحاول الفلاح من جديد عند تاجر آخر. و تتردد النتيجة نفسها، حتى يلفظ عدة كلمات عربية سمعها في تجوالة. و اذ بالجميع يتعاملون معه و يشترون منه ما لزمهم و أكثر من المنتوجات. فيرجع الفلاح الى قريته و يخبر أقرباءه بما جرى و يعلمهم الكلمات التي استطاع لفظها، فتنتشر العربية في هذه القطاعات و تصبح وسيلة ضرورية حياتية. فبعدما فشل الحكم العربي بفرضها بالقوة العسكرية، استطاع بثها من خلال (الخناق الاقتصادي) و لعلّ هذه الطريقة تستعمل نفسها اليوم في افريقيا السوداء، حيث تأكل العربية اللغات المحلية بقوة البترو—دولار. و تراجعت السريانية شيئاً فشيئاً لصالح العربية بعد قرنين من الفتح العربي.

و لكن الفكر المسيحي و الفكر الماروني خاصة لم يستسلم لهذا الواقع واعياً خطورة التراجع اللغوي. فعمد الى نقل القيم الادبية و العلمية و الروحية الى اللغات اليونانية واللاتينية. فأصبحت الاديرة في لبنان قلاعا فكرية كدست فيها جميع ما أنتجه الفكرالماروني و السرياني باللغات السريانية و اليونانية و اللاتينية. و قد نشطت في هذا المجال خاصة اديرة الموارنة التي لعبت دور ( سفن الخلاص و الثقافية) لحضارة المسيحيين في لبنان و بعد ان أكد الموارنة والمسيحيون عامة على ثقافتهم التي نقلوها الى اللغات المسيحية التي نجت من الطوفان، اطمأنوا الى استمرار روحهم وحضارتهم من خلال فكرهم الذي حصنوه في القلاع الفكرية. و الحقيقة هنا أقسى من التي تصورها بعض المؤرخين و التي لم يذكر منها شيئا في كتب التاريخ الرسمية و لا البحوث التاريخية في لبنان و الشرق ولا في أي مركز فكري في الغرب. فالمسيحيون في لبنان و الموارنة المردة خاصة خاضوا أقسى و أعظم حرب في التاريخ لا نستطيع ان نقابلها بأخرى.

فقد حاربوا عسكرياً أقوى دولة في العالم عدة قرون، معزولين مبدئيا عن أية دولة صديقة. و قد تصدوا بعددهم القليل لاعداد هائلة من جنود الخلافة و الامارات و الممالك الاسلامية. و حاربوا لأجل حياة بسيطة و لكن صعبة وشاقة، وسط شرق يتلذذ بالثراء و الحياة المريحة و الفاحشة، صورتها لنا قصور الامويين و العباسيين و الامراء. ففتتوا الصخور و حرثوا الارض و تعبوا كي يحصلوا على ما يلزمهم من الطعام ليستطيعوا مواصلة المقاومة. و تقدير هذه الاعمال اليومية و لكن الخارقة لا يمكن ان نتوصل اليه الا من خلال ادراكنا للواقع الذي عاش فية هذا الشعب. فالخطر الخارجي العظيم يهدده في كل لحظة، و الحياة الجبلية صعبة و شاقة و المجتمع المحيط بهم غني و يعيش حياة رخاء. و الاتصال بالغرب قليل و طويل المسعى. و لكن تركيبة الشعب اللبناني فولاذية و قوية. فالذين لجأوا الى الجبال هم أحرار الشرق المسيحي، و قدومهم الى اللبنان و استيطانهم فيه، هو قرار تاريخي هام، لا يستطيع اتخاذه الا خيرة القوم. لأن وراء تفضيل الوديان و الصخور على المدن و السهول و الرخاء، ارادة لا تقهر في الاستمرار في الحياة الحرة. لذلك يمكننا أن نفهم وضع اللبنانيين الذين ناضلوا أكثر من ألف سنة و خسروا من المكاسب المادية كي يستمر استقلالهم أو أمل استقلالهم.

في هذا الواقع، يمكننا أن ندرك حقيقة ما حصل في المجال اللغوي الثقافي فالمسيحيون المستقلون و هم خيرة الشرق، لم يستطيعوا مواجهة المد اللغوي العربي الذي استغل صعوبة الحياة في لبنان، خاصة وانهم يواجهون عدواً جباراً في شروط قاسية للغاية. فكان أن تراجعوا عن لغتهم الاصلية اي الآرامية السريانية، وهي لغة مسيحية لا يزالون يستعملونها في قداديسهم حتى اليوم، لصالح اللغة العربية . و لكنهم، و مواصلة لهدفهم الاستقلالي الحضاري، وضعوا جميع قيمهم الفكرية في لغات مسيحية أخرى، لها حظ أوفر في الاستمرار، حيث أن الشعوب التي تتكلمها تستمر بعيدة عن خطر الابادة. فاذ بالمسيحيين في لبنان يحاولون من خلال عملهم هذا أن ينقذوا تراثهم ، و تراث قارة وحضارة كبيرة زالت عن وجة العالم، بنقل قيمهم التي حافظوا عليها فوق قممهم، الى وسائل تعبرية أخرى اعتنقوها، ماضين في اكمال واجباتهم بحال ابادتهم نهائيا..

من هنا، بدأ التحول اللغوي في لبنان. فبعد أن كتب السريان بالسريانية، بدأوا بكتابة العربية و لكن بأحرف سريانية، و عرف هذا الخط بالكرشونية الذي استمر حتى القرن التاسع. و اشتهر مسيحيو الشرق و السريان خاصة بالترجمة، فنقلوا العلوم و الآداب و الفلسفة من اليونانية الى السريانية و من هاتين اللغتين الى اللاتينية. و قد نقلوا أيضاً من اليونانية و السريانية الى العربية. و نستطيع القول بأن فضل هؤلاء في اقامة ركائز الحضارة الغربية كبيراً. فالمسيحيون، الذميون منهم و المستقلون و مع أنهم قاسوا من العرب ما لم يقاسوه من أية قوة أخرى، قد اعطوا الحضارة العربية ما لم يعطه اي شعب غير عربي في العالم. لا نربط هذا العطاء بأي سبب بعيد. فالتعامل بين الشعوب ظاهرة حتمية بين المجموعات البشرية المتقاربة جغرافياً. و لا تمنع حالة الحروب والتناقض من أن ينفتح شعب، خاصة اذا كان اقلية، و اذا كانت صلاته بشعوب حضارته صعبة، لغة و حضارة وثقافة الشعب المحيط به و المؤثر الاول على البيئة المحيطة جغرافياً.

و قبل الانتقال الى المرحلة العثمانية، و هي مرحلة تختلف عن مرحلة الحكم العربي، يجدر بنا أن نوضح الصلة التي تربط الحكميين بالنسبة لتحليل الوضع اللبناني الدقيق.   

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها