المارونية: التاريخ والهوية
بقلم: سليمان يوسف سويد – حيفا
نشرت في مجلة الكلمة، عدد شباط - آذار عام ١٩٩٧
في الضمير المسيحي الواعي وغير الواعي، فكرة تصور أو إقتناع تام بأن
إمكانية استمرار الوجود المسيحي اليوم في هذا الشرق يتناسب تناسبا عكسيا مع
مدى الاستعداد للتنقيب في بواطن التاريخ المشرقي وما يضمره من أمور وحقائق
أعتقد من زمن بعيد أن الصدأ المتراكم قد طمس ملامحها وصورتها. لهذه الحقائق
الدور الأساسي في الكشف عن نقاب الكيان المسيحي المشرقي، والذي يمكن أن
يشمل الجذور الروحية، الاثنية، الحضارية، السياسية وغيرها من الأسس التي
تكونه اما جزءيا او كلياً.
أسباب هذا التصور هي غياب وتغييب وانكار. فالموقف الحالي نابع إما غيابا عن
التاريخ، أو إلماما للدارج الملقن على يد المغييبين، أو انكارا لكل تاريخ
خارج عن المألوف والمتبع. وكل هذا يتلائم مع الرغبة في الانجراف مع التيار
والاقتناع به.
هناك محاولات كثيرة لتغييب التاريخ الماروني والتقليل من شأنه وجديته أو
حصره في نطاق واحد. ولكن هذه المحاولات، التي تساندها الظروف الصعبة التي
يمر بها الموارنة اليوم وفي كافة المجالات، ستقلى لا محالة الفشل. فإن
خصوصية التاريخ الماروني هي امتداده على مدى قرون في استمرارية وتتابعية
وتواصلية وشمولية تجعل عملية الانكار وتقليل الشأن عملية تكاد تكون
مستحيلة.
تاريخ الموارنة هو تاريخ مميز ومستقل وليس بحاجة الى أبوة أو احتواء.
قراءة تاريخ الموارنة هي قراءة لتاريخ الكنيسة المارونية، هي قراءة لتاريخ
الشعب الماروني، قراءة لروح الجبل والوادي، الصمود أمام الشدائد والصعاب،
روح تفتيت الصخور..روح العزة والكرامة..الحرية والاستماتة في الدفاع
عنها..روح السعي والامتياز في ساحة العلم والمعرفة.
قراءة لتاريخ الموارنة هي قراءة للروحانية المارونية المسيحية، النسكية،
قراءة لاستمرارية المسير في درب الصليب على هدى خطى المسيح.
قراءة لتاريخ الموارنة هي قراءة لتاريخ المارونية، والمارونية تكتب تاريخها
وتكتسب منه. المارونية تاريخيا اكتسبت صفات وميزات وطاقات ومقومات جديدة مع
حفاظها على نواتها الروحية العقائدية التي حافظت، ولا تزال، على نظافتها
باجتذابها الصالح ونفورها للطالح أو الغير ملائم.
لا يمكن للماروني أن يفهم تاريخه كوحدات منفصلة عن بعض. انه خيط طويل وعلى
الماسك بطرفه أن يدرك جميع أجزائه.
وبما أن قراءة الماروني لتاريخه هي قراءة لمارونيته..فهي بالتالي قراءة
بالاحرف الكبيرة لهويته. والهوية ليست تلك المسلوبة او المنسوبة في غياهب
التاريخ،العملية ليست عملية استرجاع لهوية منقرضة. فالمارونية لم تتوقف عن
المسيرة في فترة تاريخية ما..بل تابعت خطاها نابضة بالحياة، تتأثر وتؤثر،
ولكن دوما بشخصيتها المميزة والمستقلة.
الهوية المارونية هي روح، ايمان، نهج حياة، ومنهجية تفكير وعمل.. طبع
وطبيعة وطاقة دفينة. هي لغة غير متكلمة ولكنها حاضرة..حاضرة في طقسنا، في
التراث الموسيقي والغنائي، في اللهجة الكلامية..في الاسماء: أسماء الأماكن
والأشخاص، وغيرها.
السريانية لم تغيب ولكنها ستغيب اذا اهملت كليا.
السريانية "الآرامية" هي وزنة أعطيت للموارنة، فمن واجب الوفاء والمسؤولية
ان نحافظ عليها، تغنينا ونغنيها. لقد اضطر الموارنة -
في ظروف تاريخية صعبة - الى تبني اللغة العربية. لا شك ان هذه اللغة جميلة
جداً، وقد ساهم الموارنة في إغناءها بشكل كبير . ولكن التزامنا الاول
والأخير - نحن الموارنة في كل مكان - هو تجاه لغتنا الأصيلة الآرامية.
هناك التباس بين هوية مشرقية وهوية عربية. فكل ما هو عربي هو مشرقي ولكن
ليس كل ما هو مشرقي هو عربي.
الحضارة العربية اقتبست، أخذت وتبنت الكثير من حضارات مشرقية قديمة..وبينها
السريانية.
ولكن الحديث عن المارونية ليس الحديث عن السريانية فقط.
المارونية نمت وترعرعت وتطبعت في بقعة أرض. في هذه الأرض تبلورت الروحانية
المارونية. من هذه الارض انطلقت المواقف الفكرية والوطنية السياسية
العسكرية والايديولوجية المارونية.
لا يمكن فصل جبل لبنان عن المارونية..لقد أصبح هذا الجبل جزءا لا يتجزأ من
الروح المارونية..من الهوية المارونية. ولذلك من الطبيعي أن يكون المركز
الروحي، الرهباني والاكليريكي، وعلى رأسها الصرح البطريركي في بكركي، في
جبل لبنان.
الحديث عن المارونية والموارنة حديث طويل لا يمكن ايفاء حقه، وتغطية تاريخ
حي امتد زهاء الألف والستة مئة عام بصفحات معدودة. فهناك جوانب وأوجه
عديدة: كالمارونية ولبنان، كدور البطريركية الروحي والدنيوي والسياسي
الكبير، والمساهمة الرئيسية للموارنة في النهضة الفكرية والعلمية في هذا
الشرق. كما هذه الأشياء وغيرها الكثير الكثير، ان دلت على شيء فهي تدل على
غنى المارونية.
ورب سائل:"وما علاقتي أنا بكل هذا؟ أنا الماروني الموجود في هذه
البلاد؟...وليس فقط الموجود فيها؟".
لقد تعودنا نحن موارنة هذه البلاد على طريقة تفكير معينة، على مفهوم وتصور
ما: للطائفية، للقومية، للانتماء، وأهمية اللغة. نتعامل من خلال هذه
المفاهيم والتصورات.. ونتضامن ضمن الأطر التي ترسمها..ونرى أن مصلحتنا
تتماشى وتتلائم معها.
كل هذا واقع معاش..ولكن مصلحة طائفة، شعب أو فئة معينة لا تبنى على حسابات
وتصورات ومفاهيم ومصالح آنية فقط. انما تقاس على فكرة زمنية طويلة..تمتد من
الماضي الى الحاضر وتتجاوزها الى تصور أوضاع مستقبلية – ومن هنا أهمية
معرفة التاريخ.
ولكن اذا نسيت أو تناست مجموعة ما تاريخها، لغتها وروحها – أو وجدت نفسها
في وضع كهذا نتيجة ظروف عديدة – وتبنت بالتالي تاريخا، لغة وروحا أخرى،
وتعودت على هذا الحال، فهذا يدفعها الى النفور من كل حقيقة ترجعها الى
ذاتها، الولادة الجديدة صعبة ومؤلمة.
وحتى اذا لم تتوفر القوة اللازمة لعملية الولادة الجديدة، أو رفضت فكرتها
اساسا، فان المعرفة كنز وقوة. قراءة تاريخي ومعرفة جذوري يزودني بسند، ببيت
ألجأ اليه وقت الحاجة. هذا البيت لن يرفضني أبدا اذا خانتني كل التصورات
والمفاهيم وحسابات المصالح. الماروني مطالب بمعرفة تاريخه واستيعاب
مارونيته. فعلى ضوء هذه المعرفة وهذا الاستيعاب تستوضح أشياء كثيرة أسيء
فهمها ولم يعرف تفسريها.
العارف تاريخه والمستوعب هويته يستطيع أن يمشي بخطى ثابتة وواثقة، وبانفتاح
وحب، يفرض نفسه واحترام الاخر له.
واخيرا يقال: من له هذا الاب العظيم وهذه الام الحنونة لا يتراكض وراء فتات
موائد الغرباء. |