090303
لقد
وردت قصّة حياة هذا القدّيس في "تاريخ أَصفياء الله"، أَو
Historia Philotheos
أَو
Historia Religiosa،
عند تيودوريتوس أسقف القورشيّة. قال:
"إنّه لا
يجوز أَن نُهمل ذكر إبراهيم العجيب بحجّة أَنّه، بعد حياته النسكيّة،
جمّل الكرسيّ الأسقفيّ. بل بلا شكّ ولهذا السبب نفسه يتوجّب علينا أن
نذكره أَكثر بكثير من غيره، لأَنّه مع اضطّراره إلى تغيير وظيفته، لم
يُغيّر نمط حياته، بل حمل معه مُستلزمات الحياة النسكيّة، فجمع بين
أَعمال الحياة النسكيّة ومهامّ الأسقفيّة، فقضى حياته كلّها بالأَتعاب"().
هذا
القدّيس، الذي وُلد ونشأ في منطقة القورشيّة، كان من الوجوه التي جمّلت
الحياة النسكيّة. ولكثرة السهر والصوم والوقوف لمدّةٍ طويلة بلا حراك صار
غير قادر على المشي البتّة. ولمّا عادت إليه القوّة قرّر الرحيل إلى جبل
لبنان ليبشّر بالمسيح. وفي بلدة أفقا الغارقة بالفساد، على ما يعتقد
المؤرّخون، حطّ رحاله مع رفاقٍ له، واستأجر بيتاً وراح يتعبّد لله فيه.
في بادىء الأَمر رفضوه، ولكن بعدئذٍ قبلوه لأَنّه ساعدهم في دفع الضرائب
عنهم، ثمّ رأَّسوه عليهم، فبنى كنيسة وعمّد الكثيرين منهم. وبعد أن تمَّ
له ما أَراد عاد إلى منسكه، ثمّ أُقيم أسقفاً على قَرايّ()
التي
كانت غارقة في الكفر ومستسلمة للشيطان لكثرة مزاولتها شرب الخمر، فأعاد
أبناءها إلى الله. يقول تيودوريتوس في مواظبته على الحياة النسكيّة حتّى
وهو أسقف:
"وفي مدّة
أسقفيّته كلّها، كان الخبز في نظره من النوافل والماء كذلك. وكان لا
يستعمل الفراش. وكانت حاجته إلى النار من النوافل أَيضاً. وكان يقوم في
الليل بترتيل أربعين مزموراً بكاملها مع تقاطيعها فيردّد القطع التي
تتخلّلها. وكان يقضي بقيّة الليل جالساً على كرسيه فلا يسمح لجفنيه إلاّ
باستراحة برهة من الزمن... وكان طيلة أسقفيّته كلّها لا يشرب الماء ولا
يتناول الخضار المجفّفة ولا الخضار المطبوخة، ولا ذلك الماء الذي يحسبه
أهل الخبرة أحد العناصر الأَربعة الضروريّة. بل كان طعامه وشرابه الخسّ
والهندباء والكرفس وأَمثالها من الخضار، مؤكّداً بذلك على أنّه من الممكن
الاستغناء عن الخبّازين والطبّاخين. وفي موسم الفاكهة، كان يكتفي بها
لسدّ حاجته. فكان يتناول منها بعد صلاة ليتورجيّة المساء فقط. وفيما كان
يُضني جسده بهذه الممارسات الشاقّة، كان يبذل في سبيل الآخرين غيرةً لا
تملّ. فالغرباء الذين كانوا يحلّون ضيوفاً عليه كان يهتمّ بهم ويقدّم لهم
جميع أَنواع المأكولات ويخدمهم هو على المائدة...
"وقد رغب
الملك نفسه في مشاهدته فاستدعاه إليه، وكان لابساً مسحاً من جلد الماعز،
فاستقبله أمراء البلاط وأميراته وكانوا يتبرّكون منه بتقبيل يده ورجله...
"ولمّا مات
وعلم الملك بذلك، أراد أن يجعل مثواه في أحد القبور المقدّسة، ولكنّه
أدرك أنّه من العدل أن يتسلّم أبناء رعيّته جثمان راعيهم. فسار هو نفسه
في مقدّمة الموكب وتبعته جوقة أميرات البلاط ثمّ السلطات والموظّفون
والعسكريّون والمدنيّون. فاستقبلته مدينة أنطاكيا بتلك الرهبة المأثورة
وبعدها سائر المدن التي اجتازها الموكب حتى بلوغه ضفّة النهر الكبير.
وهناك على ضفاف عفرين كان ازدحام المدنيّين وازدحام الغرباء وكلّ أهالي
القرى والمناطق المجاورة، كلّهم يتراكضون لنيل بركته...
"أمّا أنا
فإنّي معجبٌ لكونه رغم ارتقائه إلى الدرجة الأسقفيّة، لم يغيّر نمط حياته
بحياة أقلّ قساوة، بل أضاف إليها المزيد من الأتعاب النسكيّة. لذلك جعلتُ
له مكاناً في تاريخ النسّاك لكي لا أفصله عن الرفاق الذين أحبّهم، ذلك
على أمل أن أنال بركته"().
هكذا
كانت حياة القدّيس إبراهيم القورشيّ رسول لبنان، حياة نسكٍ وتقشّف
والتزام بمدرسة معلّمه القدّيس مارون حتّى وعندما كان أسقفاً بين الناس.
-
تيودوريتوس القورشي، تاريخ أصفياء الله، ص 149.
-
قَرايّ أو قَريّا في لبنان هي اليوم، حسب اعتقاد الناس، قورقريّا
الجاثمة في أَعالي مجرى نهر إبراهيم، قرب العاقورة. فكلّ الإيضاحات
الواردة في سيرة الناسك الأسقف إبراهيم تثبت أنّ هاتين البلدتين
كانتا محلّ عمله الرسوليّ الذائع الصيت جدّاً فدُعي هذا النهر باسمه.
-
تيودوريتوس القورشيّ، تاريخ أصفياء الله، ص 151-152.
|